قصّة قصيرة
التَّجَسسُ عن بُعد
د.إيمان سعدون
قاصة من المغرب مقيمة بلندن
انقض عليَّ فور خروجي من السيارة بعد عودتي من العمل، وكأنه كان ينتظرني لساعات من وراء ستارة نافدة بيته الأمامية٠ أخبرني أن – ابنه المراهق – هَالُوك– توج لقب”نجم الدراسة عن بعد”….مديرة المدرسة ستكرمه في شتنبر/ أيلول.
الفرحة تشع خيوطا من عيونه المنهكتين وبلهفة وصوت عال، ليسمعني وكل من مر من شارعنا، يردد الخبر مرتين: “الأساتذة كلهم يؤكدون أن ابني تفوق! تفوق في كل المواد حتى في مادة الرياضيات، الجغرافية والعلوم هالوك تفوق في كل المواد.. كل المواد!”.
كل صباح أَستمعُ إلى صراخ جيراني..
لا أتعمد التجسس، المنازل اللندنية ملتصقة ببعضها…حتى حدائقنا الخلفية والأمامية ملتصقتين… جيران لأكثر من عشرين سنة… تقاسمنا الأصوات، الخبز، الملح، وشرائح اللَّحم المَشوية.
صراخ وأشياء تتكسر على الأرض واللعنات، يرتج بيتهم وبيتنا وهالوك بأعلى صوته “اتركوني لن أنهض … !” وأمه جارتي روشان تدق باب غرفته، تكاد تكسرها، بلكنة إنجليزية مكسرة، ومختلطة باللغة التركية تناديه بأعلى حلقها “هالوك..هالوك..هالووووك” وكأنها تترجاه الآن” يابُني! كالديرماك! انهض! فقط سجِّل حُضورك ..! “
وفجأة يخيم صوت الصَّمت…
ينهضُ هَالُوك.. يُسجل حضوره …المديرة تقرأ اسمه ويقُول حاضر، ويرجعُ لأحلامه اللَّذيذة…
عراك يومي كلّ صباح وصمت يُكسِّر كُلَّ شيء بعد ذلك…
أبو هَالُوك يبقى حاضرًا في المدرسة الافتراضية، يُقرِّر أن يسجل حضور ابنه في حصص الزوم. يطفئ الكاميرا.. يواكب…يكتب أسئلة ويحاول أن يكتب أجوبة في التشات…
جاري جُورَاي، مولوع بزراعة الورود. حديقته الأمامية متوهجة بالورود الحمراء، الصفراء، أزهار النرجس والاقحوان…يواظب على سقيها يوميا. حينما نلتقي هناك لا يفوت الفرصة لكي يخبرني ” أصبحت ممتازا في مادة الكيمياء… في اختبار اليوم حصلت على 70٪ … الذرة لها نواة وفي النواة تجد البروتونات والنيوترونات.. النيوترونات لا شحنة كهربائية لها كأحلامي البئيسة… والبروتونات لها شحنة ايجابية.. أما الالكترونات بشحنتها السلبية، تحوم حول النَّواة في مستويات طاقية معينة” يتنهد ويتمتم ” وأنا هنا كالأبله أحوم وحيدا !”
لم أخفي دهشتي مما تعلمه في وقت وجيز، ينظر إلي بنظرة من يمتلك أسرار الكون.. بريق فخر دفين يشع من عيونه..ابتسم… وأقول “أنت الآن كيميائي وفيلسوف!” تحمروجنتيه..يطأطئ رأسه كطفل صغير ويمرر ابتسامة خجولة.
حينما لا يفهم درس الجغرافيا يقرر أن يأخذ الأمور بزمام أيديه ويسأل الأستاذة، يكتب لها رسالة في google classroom “أهلا أنا تلميذك هَالُوك … من فضلك لم تشرحي لنا بعد أنواع الهجرة وأسباب الهجرة خصوصًا الهجرة الغير القانونية” الأستاذة تجيبه بسرعة البرق. يستغرب! “Excellent هَالُوك…لا تقلق سنتطرَّقُ لهذا الموضوع في درس الغد”.. ويُجيب الأستاذة.” سأكون هناك يا أستاذة شكرًا أستاذتي العزيزة ” ..
في يوم اتصل بي” عليك أن تساعديني في اللغة الانجليزية لأنَّ أستاذة ابني لا تعطيني النقطة التي أستحقها.. شحيحة في التنقيط وكأنَّها تخرجهم من جيبها. أقطع كلامه بضحكتي المفاجئة. ذكرتني هذه العبارة بما كنا نقوله على أساتذتنا المتشددين في التنقيط.. يتابع..” فلماذا تحذف نقطتين كل مرة لم أضع نقطة وأرجع فيها إلى السطر…؟ عندي مشكلة أخرى أظن أن تحليلي للنصوص ضعيف جدا… لم أدرس في إنجلترا.. أكتبها كما أقولها فقط.. “
أشرت إليه أن يدخل لموقع BBCBitesize الإلكتروني..”.. ستجد القواعد وتحليلات النصوص هناك … “
وفي اليوم التالي ترك لي رسالة صوتية على الواتساب ” شكرًا يا جارتي العزيزة لقد حصلت على 90% في اللغة الانجليزية… لم أكن أعرف بذلك الموقع…كيف فاتني؟ فيه كلّ المقررات! …قد أتعلم كل لغات العالم حتى اليابانية … ”
وفي صباح كل يوم أستمع إلى صراخ جيراني ومعركتهم مع هَاُلوك ليُسَجِّل حضروه وينام مجددا … وفي كل يوم يحكي لي جاري على انتصاراته في التعليم عن بعد..
“لم أكن أعلم أن هناك ثلاثة قوانين للحركة … القانون الأول: الجسم الساكن يبقى ساكناً، والجسم المتحرّك يبقى متحركاً، مالم تؤثر عليه قوى ما…” نيوتن عبقري …”، أظن أن حياتي بدأت تتحرك للأمام…”…يقولها منتشيًا…
في الأيام الأولى للحجر الصحي والأمر بإقفال المدارس، بعد انتشار فيروس كورونا، كان يتوصل جُورَاي كل يوم باتصالات الأساتذة وإيميلات لا تحصى، يتصلون به فقط، لا يتصلون بجارتي رُوشَان..
كل مادة لها أستاذها…حتى أستاذ التربية البدنية يترك له رسالة صوتية “على ابنك هَالُوك أن يرسل فيديو تمريناته الرياضية نريد تقييم مستواها وتنقيطها… “هل هذا أحمق؟ مادة الرياضة تدرس عن بعد !؟ وواجبات منزلية فيديو؟ هَالُوك يُسجل فيديو رياضة؟ حتى ينهض من النَّوم أولا!”
كُلَّ مرة يتصل فيها أستاذ …يمرُّ الحوار بينهم على هذا الشكل:
“هلو … أنا أستاذ هَالُوك لقد اتصلت بكم الأسبوع الماضي لا أريد أن آخذ من وقتكم، فقط أخبركم أن ابنكم لم يتمم واجبه الأسبوعي كالعادة !”
جُورَاي يحاول أن يُبرِّئ ابنه:
” أراه منشغلاً في دراسته أحيانا.. كيف عرفتم أنه لا يشغل في البيت ؟ “
الأستاذ يجيب ممتعضا “التطبيقات تقول هكذا!..هَالُوك لم يقض أكثر من دقيقة في تطبيق الرياضيات ولم ينجز أي فرض من فروضه.”
يَصمتُ جُورَاي.. ويسترسل الأستاذ ” للأسف ابنك ليست عطلة مدرسية، لنا برنامج دقيق للدراسة عن بعد…أقترح أن تشجع هَالُوك أن يتبع نفس استعماله الزمني المدرسي… كل أسبوع ندرس دروس جديدة.. موَاضِيع مختلفة وكل أسبوع على ابنك أن يجتاز اختباراته ويرسل تمارينه المنجزة لأصححها في الحين..وإذا لم يتجاوب مع برنامجنا التعليمي.. سيتأخر كثيرًا في مستواه الدراسي… نتفهم ظروفكم العائلية الصعبة ونريد مساعدتكم!..”
جُورَاي يعتذر كل مرة وكأنه رسالة صوتية مسجلة أتوماتيكية يقول “أنا آسف جدًا، شكرًا لكم على اهتمامكم بدراسة ابني في هذه الظروف القاهرة.. نعم سأشجع هَالُوكعلى إتمام واجباته…أعدكم”
سألني يوما… “هل هي دراسة عن بعد؟ أم تجسس عن بعد؟ كيف لهم أن يعرفوا عدد الدقائق التي قضاها ابني في التطبيقات؟ كيف يحسبون عدد الساعات؟ ماذا يعرفون عن “ظروفنا الصَّعبة؟” أحس وكأن عيون الأساتذة مركبة بآلة الإكس رايز تفحص كل شيء في بيتي، يعرفون كل شيء عن ابني.. عن رُوشَان..عني … هل أساتذة أَمْ عُمَلاء في وكالة MI5 الإيم آي فايڤ…؟
أجبته ” أين هي الخصوصية؟ لم تعد هناك خصوصية في أي شيء نعيشه.. كل تطبيق إلكتروني تدخله تسلم فيه أوراقك ومفاتيحك للتجسس. الهاتف هو جهاز التجسس الخطير بين أيدينا دائما ولا نستطيع فراقه لحظة وربما نود سرا أن نخلق طريقة نهربه معنا إلى قبورنا حتى نستأنس هناك قليلا ونتجسس به على الآخرين من الأحياء والاموات”.
ضحك وقال: “الغريب ان كل مره فقط أكلم روشان عن نوع سيارة أحلم ان أشتريها و إذا بإشهارها اول ما يطلع على الفايسبوك. حتى روشان تتوصل بكل الإعلانات وتجدها سببا لتوبخني لأنني لن أتمكن من شراء ما تراه في الإشهاريات اللَّعينة.. أندم على كشف حلمي لهواء التجسس “.
تكاثرت الاتصالات وبها تكاثرت الصِّراعات، رُوشَان تخرج للحديقة الخلفية.. تصرخ بأعلى حلقها “فاشل .. فاشل … غبي …لا تتحكم في ابنك .. ”
يُجيبها جُورَاي “ابنكِ أيضا! لست فاشلا ولا غبيا احترمي نفسك ومنذ متى أصبحت أستاذا؟؟ لا أعرف شيئا على الدراسة هنا …! أنتِ درست في مدارس لندن؟ حفزيه أنتِ؟ .. “
رُوشَان بصوت عالٍ تنتحب وتصيح: ” شهرين حاولت أن أتعلم الانجليزية هنا وتزوجتك يا أبله، بسببك إنجليزيتي مكسرة.. لا تذكرني بالدراسة.. حلم وتكسر بك وابنك الغبي…” صوت شيء تكسر في الحديقة..
هَالُوك يطل عليهم من شرفة غرفته “اتركوني أنام…كفاكم صياحًا….لن أنهض.. اتركوني أنام …”
لم يكن عراكا صباحيا وصمت … كان عراكا بطول اليوم، في البيت، في الحديقة الأمامية وفي الحديقة الخلفية… أصوات عالية كل وقت…أشياء تتكسر…وابن يصيح.. اتركوني لن أنهض…
أول ما تغير شعار الحجر الصحي من “ابقي في بيتك” إلى “كن حذرا.. ” ورفع عنا حق السفر، طلب جُورَاي مني وزوجي أن نصحبه لرحلة صيد…رحبنا بالفكرة… فرصة نهرب إلى أحضان الطبيعة..
جُورَاي …صياد متمرس… دخلنا في مزارع القمح … البساتين الممتدة في الأفق البعيد… البقر يأكل العشب غير مباليا بما يجري في العالم من تداعيات رعب الفيروس القاتل والسماء الزرقاء تعطي لريف كامبريدج جمال استثنائي… يقول جُورَاي” لدينا حقول مثلها في قبرص …” ونقول “لدينا مثلها في غرب المغرب.”
جُورَاي في أوائل الخمسينات من عمره، كأن له شعر كثيف أسود، لم يبق منه شيء بعد العلاجات الكيماوية المتكررة. له وجه مستدير متوسط الطول… ملامحه قبرصية ابن المتوسط.. طيِّب وخدوم لجيرانه.
اليوم وبلباس الصيد الأخضر وطاقيته الخضراء.. جُورَاي يَتموَّهُ بين حقول السنابل …لأوَّل مرة نراه أسدا في موطنه الطبيعي.. متمرن. يلبس حذاء جلدي طويل.. يتمشى به على الأرض واثقا من كل خطواته، يحمل بندقية على كتفيه وبيده منظار مكبر يتتبع بها حركة صيده التائه.
زوجي وأنا لا نعرف عن الصيد شيئا … فقط نلتقط صورًا فوتوغرافية هنا وهناك…ونراقبه من قريب.. منذ نعومة أظافره كان يصطحب أبيه وجده… الصَّيد هوايته التي لن يتخلى عنها مهما كان… هي طريقته لينسى كل شيء..
كُنَّا مستمتعين بهذا الجو الجميل وكان على وشك أن يقتنص حمامة … وجه بندقيته ونحن نراقب الحمامة المسكينة وهي تحوم غير مبالية في السماء.. تأهب ليضرب.. رنَّ هاتفه…ارتبك.. رمى البندقية…قفزنا من مكاننا رُعبًا…
جُوارَاي ينتفض” أستاذ ابني! ماهذا **I hate my life! What’s the أكره حياتي… كنت حُرًّا طليقا كعصفور أصطاد العصافير والسمك في قبرص، ما الذي أتى بي في هذا البلد الكئيب..؟ يلاحقونني وكأنَّني مديون للبنك الدولي.. كل صباح يجلسون على مؤخراتهم السَّمينة في مكاتبهم من ببيوتهم.. ليقولون لي أن ابني كسول ولا يقوم بواجباته” – قهقه عاليا –”وهل هذا خبر؟ أعرف أن الوغد ابني كسول ولا تهمه الدراسة الآن …يقضي الليل في لعب play station مع أصدقائه لو وجد طريقة لكي يأتي بالمرحاض لغرفته لما خرج منها. حتى النوم لاينام إلا بعد الفجر، جربت الكلام اللين، جربت التهديد جربت الرشوة، جربت كل شيء.. لا تهمه الدراسة عن بعد هو فقط يريد أن يكون في للمدرسة لكي يدرس… هناك يلتقي بأصدقائه، هناك يخاف العواقب في البيت لا يستمع إلا لنفسه ولا يخيفه شيئ. ما أخافه أنا أن تنطلق على رُوشَان يوما بلسانها السليط “أنت فاشل أنت فاشل مع ابنك”…أفقد عقلي.. اقبض هذه البندقية وأطخها في دماغه وهو نائم … أشار على حمامة.. ضربها وأنزلها كسيرة إلى الأرض.”
في طريقنا إلى لندن، جُورَاي يسوق.. يفكر.. أظن أن الأمور بالنسبة له أصبحت أكثر وضوحًا بعدما اصطاد أرنبين وحمامتين تائهتين.. لم ينبُس ببنت شفة ، فقط شغل موسيقى قبرصية. البساتين الخضراء… وحقول القمح تبقى من ورائنا… السَّماء صافية.. لا تخدشها سحابة…
لم يتحول جُورَاي لتلميذ مجتهد عن بعد فحسب.. بل يكتب للأساتذة كل صباح ويعاتبهم ان لم يرسلوا له أعمالا جديدة … كل صباح يخلق شغل زائد لأساتذة ابنه وكأنَّه ينتقم من ملاحقاتهم المتكررة.. يكتبُ لأستاذ الرياضيات .. “أستاذ لقد أتممت واجبي الأسبوع الماضي وأرسلته لك يوم الاثنين في العاشرة صباحا إلا الرُّبع بالتحديد.. أنظر إلى التطبيق لتؤكد ذلك … لكن التطبيق يقول لي أنك لم تدخل لمدة أسبوع ومازلت أنتظر تصحيحاتك.. وهل يمكن أن ترسل لي فيديو صوتي لك تشرح لي كيف أحل المعادلات؟”…
في مرة كتب إيميل باسم هَالُوك وأرسله لمديرة المؤسسة.. ” فقط لأخبركم أنني لست سعيدا بدروس الفيزياء … عليها أن تكون أوضح على ما عليه.. الأستاذ في حصة الزوم لا يشرح أبدًا … فقط يضع المسائل وبدون أجوبة ويتصور أن الوحي سينزل علينا مطراً… في محاولاته للشرح يسرع كثيرا.. ولا يجيب على أسئلتي في التشات، يتجاهلني، حينما يجاوب مَايْكَل الأشقر يخاطبه بأدب ويشجعه، ينعثه مرارا بالتلميذ الذَّكي.. حتى حينما يخطئ يقول له أنت تلميذ ذكي حاول للمرة الثانية.. وحينما اترك جوابي على التشات ويكون نفس الجواب الذي أجابه مايكل يتجاهلني… يتجاهلني دائما.. أظن أن الأستاذ عنصري متطرف.”
وصله الجواب من المديرة “شكرا لأنك كتبت لي وأخبرتني معاناتك في مادة الفيزياء…سأتحرى الأمر..مؤسستنا تتصرف بشكاوى العنصرية بشكل حازم.”
بعد ساعتين فقط اتصل الأستاذ ليعتذر للأب ويقولُ إنه آسف ان تسبب في غضب هَالُوك…لم يقصد أبدًا …سيخصص وقتا إضافيا له في الحصَّة القادمة.. فقط عليه أن يبقى نصف ساعة بعد انتهاء الحصة الرسمية في الزوم…
أخبرني في حديقتنا الأمامية ” لم أعرف من قبل أن الضوء الأبيض خليط سبعة ألوان، اكتشف هذا إسحاق نيوتن، كم عبقري هو نيوتن…كم عبقري!” أظن أن حياتي أصبحت أكثر تلونا.”
في كل يوم تعليم افتراضي، يتحول فيه غضب جُورَاي إلى سعادة عميقة.
يبوح لنا شيء من أعماقه في الحديقة بعد أن أهدانا فاكهة البرقوق من شجرته الوارفة.. ” لم أتوفق في إتمام دراستي أيام المراهقة… لم أحصل على شهادة الثانوي وخرجت مبكرا لأعمل في الصيد البحري والآن لأوَّل مرة في حياتي أكتشف أنني نافع لكل شيء… عكس ما تقوله رُوشَان…أنا ممتاز في الفيزياء… ممتاز في الرياضيات وحتى الجغرافية لابأس بي …
لم أعرف من قبل أن افريقيا كانت ملتصقة بأوروبا وأنهما افترقا بسبب انفصال الصفائح التكتونية.. الآن أعرفها جيِّدا.. حصلت على 90% في اختبار الجغرافيا…
آه يا ليث الزمان يعود… ما كان أحوجني إلى التعلم عن بعد… تعليم يضمن لي أن لا أرى فيه وجوه الأساتذة البائسين… ويحميني من استقبال ضرباتهم الشرسة بقضيب التين وصفعاتهم وتنكيلاتهم اليوميَّة ونعتي بالحمار والبغل كل يوم… تعليم يضمن لي أن لا أرى نظراتهم الاحتقارية التي مازالت تلاحقني حتى في النوم وأحلم أنني أشق الأرض لأهرب من لعناتها.. ولماذا عانيت سمومهم فقط لأنني ابن صيَّاد بسيط ولكوني ألبس حذاء بلاستيكي ولا أملك أقلاما ملونة ومحفظة جلدية..
في قبرص… إمَّا أن تولد ابن غني، يدرس في المدارس الانجليزية الخاصة… وإمَّا فقير.. تبقى حمارا وراعي ترعى الحمير والغنم للإقطاعيين أسيادك طول حياتك…
كلّ مرة أنجح فيها في دراستي أنسى الألم، خيبة رُوشَان فِيَّ.. كانت تحسبني فارسها المغوار لكنَّني ملأت حياتها خيبات… أنسى المرض اللعين سرطان الدم ومقصه الحاد الذي يقص من خيوط أيامي الباقية…”
الفرحة الكبيرة على محيا جاري وبريق عيونه حينما قال” ابني نجم الدراسة عن بعد” سبب لي ضحك هستيري… حينما رآني هكذا ضحك هستيريا هو كذلك حتى تحررت كل دموعه، وكأنها وديان متجمدة في برودة الواقع البائس…قلت له: “هنيئا لك أيها التلميذ المجتهد…أنت نجم الدراسة عن بعد…”
القصة خاصة لصحيفة قريش- ملحق ثقافات وآداب – لندن
نجاة منذ 4 سنوات
قرأت القصة واستمعت جدا بها وأحسست بصدق الروي فيها كما أن طريقة سردك كانت جد سلسة جعلتني استشعرها كشريط سينمائي قصير….كل متمنياتي لك بالتوفيق عزيزتي إيمان
#أم لينة