قصة قصيرة
نونو… عرَّافة كوماي
رشيد سكري
نزل البرد قارسا هذه الليلة .
طلـَّتْ من الشبابيك الصغيرة على الفناء ، فلم تجد نونو أبدا . صعدَتْ درجا رخاميا ضيقا إلى الأعلى ، ففتحت الباب بعد صرير أزعج الجيران .
ـ نونو يا أمي لم تعد .
ـ وما عساك أن تفعلي ؟
ـ نونو رحلت عنا بعيدا … يا أمي .
ليس بالبعيد ولا بالقريب ، غرق الممر المعْتم في سكون قاتم ، إلا من خطوات مترنحة عائدة كما يؤوب الغياب .
قرأت في بعض القصص القديمة ، عندما تحب حيوانا أليفا ، إلى حد الجنون ، من الواجب عليك أن تأكله ؛ لأن المحبوب يدخل الجسد ، ويلاعب أمعاءه .
فيتحد الجسد بالجسد …
مرّت فصول وفصول على غياب نونو ، قطتنا المشاكسة اللعوب ، ظهورها في الساحة والفناء أحدث فرحة وحبورا عارمين . كنت على بينة من أمري ، أن نونو لا تطيق العيش من دون دلع ، ومن دون رقص على موزار و شوبان . كانت ذات الرداء الأحمر تجلس إلى البيانو ساعات طوالا ، تستحضر ميلودي بيتهوفن …
وتقلد سمفونيته التاسعة …
وما أن تصل إلى منعطفاتها الطروب ؛ صاعدة نازلة … حتى تجيء نونو غـُنْجا ودلالا ، فتحس ذات الرداء الأحمر بالسعادة تغمر قلبا طاهرا ، بأناملَ من ذهب تزحف على ما تبقى … من نوتات وشذرات سمفونية … هكذا كانت تعيش ، ومن حولها نونو المِغْناج .
في ليلة قامرة كانت ممددة على سرير البيت ، فلم تشعر إلا و نونو تلحس راحة يدها اليمنى … نهضت ملسوعة تجري ، وتتعاثر في تلابيبَ طويلة من الفانيلا الرقطاء ، وتصيح :
ـ أمي … أمي … نونو تقرأ الكف .
لم تدر ما أحست به الأم ، وهي تتأمل ما تقول ، اسأليها إذن عن مصير أبيك الزعيم . طال الغياب … وطال الانتظار . عندما يعود … أظن أنني سأسمع أنه دُفن منذ ثلاثين عاما ، ركب الأوهام ، انتظر السراب ، فهناك سقوط وانتظار دائم . خيالي اللجوج يسافر بي كي أعثر على بقايا الحكاية … فلا نونو تستطيع أن تملأ حفر الزمن ، ولا تقدر أن تشد عضد هذا البنيان . إذا كان قدره أن يموت ها هو قد مات … سعلت شديدا حتى انتفخت أوداجها المهترئة .
تذكّرني نونو راقصة بيتهوفن و موزار بعرافة كوماي ، تلك هي السيبيلا عند جبرا إبراهيم جبرا ، فعالمنا بلا خرائط ، يذهبون ولا يعودون . وعندما يشتد وطيسٌ تتكلم الموتى من تحت الأجداث . ولا يخافون ، أبدا ، عندما سيعود الخوف و القـُداد إلى أبيك الزعيم .
فكرت ذات الرداء الأحمر جيدا ، وقررت أن تفعل ما فعله سالفادور دالي الرسام الإسباني الشهير وزوجته غالا بأرنبهما الفاتن المدلل ، عندما أكلاه ؛ فالتحم جسد الأرنب بجسديهما إلى الأبد . فلا أستطيع أن آكل عرافة كوماي ؛ لأنها تعشق الموسيقى … وإلى الأبد .
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة