الدرس البريطاني

آخر تحديث : الثلاثاء 29 ديسمبر 2020 - 2:40 صباحًا
الدرس البريطاني
Majed Al Samurai 0 - قريش

د. ماجد السامرائي

معاني القيم الديمقراطية البريطانية.. وراء الإصرار على الخروج من الاتحاد الأوروبي 

ثقل التاريخ الإمبراطوري البريطاني عبر أربعة قرون، في ما بين السابع عشر والعشرين، أنه كرّس في العقل السياسي البريطاني فكرة الاعتزاز القومي ومكانة القوة رغم اعتراف بريطانيا بنهاية إمبراطوريتها الكبيرة، التي هيمنت على مناطق شاسعة من العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، أهمها أميركا الجديدة وبلدان كثيرة من منطقتنا العربية، من بينها أهم بلد بالنسبة إليها وهو العراق، اقتصرت اليوم على رمزية ما يسمى بدول الكومنولث عبر البحار.

ظل الإحساس بالتفوق مهيمنا على السياسيين البريطانيين، خصوصا حزب المحافظين العريق، رغم التحولات الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وسيطرة القطبين الأميركي والسوفييتي ثم انفراد القطب الأميركي في القرن العشرين، وصعود نظرية العولمة وانعكاسها على أوروبا الجديدة بعد تلك الحرب. صحيح هناك استسلام بريطاني للواقع الكوني الجديد، إلا أن حكام بريطانيا ظلوا يعبّرون عن خصوصية اعتزازهم الوطني وعدم قبول انصهار بلدهم في التحولات الجديدة، والأهم اعتزازهم بديمقراطيتهم العريقة.

الدولة الوطنية البريطانية ظلت متماسكة ومؤثرة باقتصادها القوي الفعال، كإحدى الدول الصناعية السبع الكبرى باعتقاد راسخ داخل منظومات الأحزاب البريطانية بأن انحسار النفوذ البريطاني الخارجي لا يعني تفكيك الوحدة القومية والخضوع لمجموعات دولية مثل الاتحاد الأوروبي، فالإنجليزي يعتز بتراثه ولغته السكسونية التي أصبح العالم كله يتحدث بها، حتى اتحاد إنجلترا مع كل من أسكتلندا وأيرلندا وويلز يبدو هشا، لهذا كانت بريطانيا مترددة في الدخول إلى نادي الاتحاد الأوروبي الذي قادته كل من ألمانيا وفرنسا، بل إن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول سبق أن منعها من دخول خيمة الاتحاد الفتي في ما بين عامي 1961-1967 واتهمها بالعداء للمشروع الأوروبي، ثم دخلت في ما بعد عام 1973.

لم تندمج لندن بعملة اليورو رغم تغيير لون جواز السفر البريطاني من الأزرق إلى الأحمر، وفي السنوات الأخيرة ساد شعور سياسي داخلي بأن أوروبا تريد ابتلاع بريطانيا ونهب أموالها وثرواتها، فتمّ عرض الخروج من الاتحاد على الشعب البريطاني الذي وافق بنسبة 51 في المئة عام 2016. هذا القرار الذي أطاح برئيسي وزراء هما ديفيد كاميرون، الذي استقال بعد 24 ساعة من إعلانه الاستفتاء، ومن بعده تيريزا ماي. لكن بوريس جونسون جاء من بعدهما مستخدما قوته الانتخابية للخروج الاقتصادي الآمن من الاتحاد الأوروبي، وتحقق له ذلك في الرابع والعشرين من ديسمبر بأقل التكاليف.

كان اتفاق الألفيْ صفحة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي مناسبة للمؤسسة البريطانية الحاكمة لاستحضار القيم البريطانية كأنه يوم تحرير واستقلال يكشف عن عمق الشعور بالمهانة التي كانت تعيشها بريطانيا في التبعية لأوروبا قرابة النصف قرن. قال مكتب “داون ستريت”، “حققنا استقلالا سياسيا واقتصاديا، لا محكمة عدل دولية ولا سيطرة على أموالنا وحدودنا وقوانيننا وتجارتنا ومياه صيدنا”.

معاني القيم الديمقراطية البريطانية والاعتزاز بالوطن كانت وراء خلفية الإصرار على الخروج من الاتحاد الأوروبي وليس الجانب الاقتصادي الصرف الذي تضررت فيه كل من بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، هناك تفصيلات كثيرة يمكن للاقتصاديين المختصين الحديث حول تداعياتها.

قيادة الدولة البريطانية (البرلمان والحكومة) احترمت قرار الشعب البريطاني في استفتاء عام 2016 وحرصت على تنفيذه بأقل الخسائر، وهنا يكمن الدرس الذي ينبغي على شعوب منطقتنا وحكوماتها الإصغاء إلى دلالاته في حياة الدول الديمقراطية الحقيقية، وليست حكومات أحزاب النهب مثلما يحصل في العراق منذ عام 2003. ولا توجد أيّ أوجه للمقارنة بين الحالتين العراقية والبريطانية التي تتميز بعراقة الديمقراطية وتاريخ الزعامة الفذّة رغم النهج الاستعماري في احتلال أكثر من 25 في المئة من بلدان العالم.انحسار النفوذ البريطاني الخارجي لا يعني تفكيك الوحدة القومية

الدرس المهم في الحدث البريطاني وفي جميع بلدان العالم الديمقراطي أن السياسي المنتخب هو موظف لدى الشعب يتقاضى راتبا ويحتل موقعا معنويا خلال فترة خدمته، وحين تختل الموازنة ويشعر المسؤول الأول أو الثاني أو الثالث بأنه غير قادر على أداء مسؤوليته يستقيل فورا، وهذا ما حصل في مثال رئيسي الوزراء البريطانيين كاميرون وتيريزا ماي خلال أزمة بريكست.

الدرس الآخر هو الشعور العميق بالولاء للوطن وعدم التفريط بأيّ فرعية من فرعيات السيادة، لأن قيمتها تظل واحدة حيّة في نفوس السياسيين حتى وإن كانوا ينتمون إلى دول وصفت بالمستعمرة لشعوب العالم. فالوطنية لا تنفصل عن الأداء الديمقراطي كأداة رائعة لحكم الشعب.

رغم القرون الفاصلة بين ما وصل إليه حال العراق وبين بريطانيا، لكن الدرس البريطاني مهمّ لمدعي السياسة في العراق. فقد سبق لبريطانيا أن احتلت هذا البلد ووضعته تحت وصايتها لعقود، وآوت على أرضها بعض معارضي صدام من مدّعي الإسلام السياسي الذين استخدموها كملاذ آمن ولم يكترثوا بتعلم التقاليد الديمقراطية لينقلوها ويطبقوها في بلدهم حين تتوفر لهم فرصة استلام السلطة. ما حصل هو استثمار الحرية والحصانة لإقامة الطقوس الشيعية وفتح الحسينيات والاستفادة من مزايا الحماية الشخصية، كانت أجسامهم في لندن، أما عقولهم وعواطفهم فكانت وما زالت معلقة بحكام الولي الفقيه في طهران.

كانوا يعيشون على نفقات إعانات البلدية في السكن والطعام، وحين عادوا إلى بغداد أصبحت السلطة بالنسبة إليهم شركة لسرقة المال العام، يتخاصمون في ما بينهم على نسب حصصها، أما الشعب فنصيبه القتل والحرمان من أدنى الحقوق وتسليم مصيره إلى ديمقراطية الميليشيات في القتل والاختطاف وإهانة الكرامة.

المؤلم أن هؤلاء الذين احتموا بشعارات الديمقراطية التي جلبتها لهم الولايات المتحدة، حيث يدّعون الانقلاب عليها الآن، وتلك روايات للإعلام والدعاية، لديهم في بريطانيا إقامات دائمة معززة بجواز السفر البريطاني. يزورون لندن أو يعودون للاستقرار فيها بعد نهاية فترة نهبهم، وقد ثقلت خزائنهم بالمليارات، محاولين مسح ماضيهم الكئيب والاستمتاع بالمال المسروق، بعد أن غطّى لهم المذهب الشيعي بفتاوى شرعية الاستحواذ على المال العام دون اكتراث بالقوانين وحرمات حقوق الناس، ملفات كل فرد منهم محفوظة لدى السلطات البريطانية المختصة مع المصادر غير النزيهة لجميع الأموال التي سرقوها وحولوها إلى عمارات وقصور وأموال مكدسة في البنوك.

هؤلاء لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالديمقراطية، أقنعوا أنفسهم برواية مظلومية الشيعة معتقدين أنها تعني نهب وتقاسم أموال العراق وحرمان الشعب من الحياة الحرة الكريمة. لم يتعلموا من دروس تاريخ العراق السياسي في مقاومة الغرباء والدخلاء، ولم يتعلموا من دروس ديمقراطية بريطانيا، البلد الذي عاش فيه بعضهم زمن معارضتهم السياسية، وعادوا إليه، فيما سيعود الآخرون إلى طهران إن استمرّ حكم دكتاتورية المذهب المحرّف حكم ولاية الفقيه.

لعل في الدرس البريطاني تذكيرا لأولي الألباب.

العرب

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com