هارون محمد
اعترف بان لحظة التعارف الأولى، مع الصديق والزميل حارث طاقة،كانت متشنجة، حدث ذلك في نهاية العام 1970 وكنت قد انتقلت للعمل في وكالة الانباء العراقية، منقولاً من المؤسسة العامة للصحافة والطباعة، بعد خلافات مع رئيسها المرحوم كريم المطيري، الذي نُقل اليه، انني قلت : مكتوب عليّ، ان أقع بين شقيقين، حسن المطيري، يعذبني في قصر النهاية، وكريم، يضايقني في العمل، وقد تدخل الاستاذ معاذ عبدالرحيم، وأعاد الوئام بيننا. كنت ابحث عن الزميلين ابراهيم العيدان مدير الاخبار الداخلية، ومحمود محمد احمد، مسؤول شعبة (المندوبين) في الوكالة، ولم اجدهما في مبنى (واع)، وقيل لي انهما في نادي الاعلام، الملاصق لمبنى الوكالة، وكان ما يزال العمل فيه جارياً في بعض مرافقه، وذهبت افتش عنهما، لاعرف منهما، متى أباشر في عملي الجديد. وأشار متعهد النادي (جوزيف ابو طلال) الى مائدة، قال انهما، يجلسان عليها، وذهبت اليها، وفوجئت بشاب أنيق، مربوع القامة، أميّل الى القصر، أحمر البشرة، يجلس وحده على المائدة، وسلمت عليه، وبلا مقدمات، سحبت كرسياً، وجلست قبالته، رد السلام باقتضاب، والدهشة علت معالم وجهه، وسألني : من أنت ، وماذا تريد؟ قلت له أريد (ابو ميادة) أو (ابو علي)، ونسيت ان اعرّف نفسي، ولاحظت استغرابه، فاستدركت وقلت له : انا فلان الفلاني، المندوب الجديد !، ونهض واقفاً، ومدّ يده يصافحني، وهو يضحك، وخجلت، لان اللياقة كانت تحتم عليّ، ان أبادر أنا، الى مصافحته، ولكن هذا هو حارث الجميل. ودارت الايام والشهور، ونقلت الى بغداد، بعد ان امضيت عامين خارجها، متنقلاً كمراسل لـ(واع) في كركوك وديالى والكوت والناصرية والديوانية، ونسبت للعمل في قسم (الانصات) وكان يديره الزميل المرحوم عدنان الدوري، ثم طلبني، الزميل سيف الدوري، للعمل كمحرر في قسم الاخبار الداخلية (المحلية)، وكان مديره، في حين كان حارث، سكرتيرا للتحرير، قبل أن يصدر أمر نقله، الى موسكو ، للعمل فيها، كمراسل للوكالة. واذكر ذات مرة، أنه أنفرد بي جانباً، بعد ان دخلت، في سجال سياسي، مع زميل، عرفت في ما بعد، انه مولع بكتابة التقارير، التي تبدأ بعنوان : أمة عربية.. الخ!، وكان حارث مُنبهاً وناصحاً، وبدأت العلاقات بيننا، تتسع وتكبر، في العمل، والفعاليات الاجتماعية، وكان يحفزنا على تنظيم السفرات السياحية الاسبوعية، الى بساتين الدورة، المطلة على شط دجلة، حيث كان الزميلان، خيون احمد الصالح، وكمال عبدالكريم، يتنافسان على طبخ (التشريب)، وشواء اللحم، وكان رحمه الله ودوداً، وله مقالب طريفة، وخصوصاً مع الزميلين نزار عايد التكريتي ومحمد فخري ارزوقي، وسافر الى موسكو، مراسلاً للوكالة. ومن زامل حارث طاقة، لا بد ولاحظ، انه طاقة في العمل بالفعل، لم اشاهده عبوساً، او غاضباً في يوم من الايام، كان المرح يطغى عليه، في اشد الاوقات حراجة، وكثيراً ما كان يترك (كابينة) سكرتارية التحرير، ويجلس مع المحررين، في صالة التحرير الفسيحة، وينكت مع: صبحي حداد وسعدون فاضل وزهير السمان وفؤاد الشمس وصالح السلامي وفاروق شكري وفؤاد الخليل، والزملاء الاخرين، فقد كانت (واع) في عهود مديريها، بهجة شاكر، وطه بصري رحمهما الله، ومن بعدهما، محمد مناف الياسين، متعه الله بالصحة، اسرة واحدة، يتنافس افرادها، بصدق ومهنية، في تقديم افضل التغطيات الاخبارية، واحسن الصياغات الصحفية، التي كان الاستاذ محسن حسين – للتاريخ- قد رسخ تقاليدها، وفق اسس سليمة ورصينة، جعلت منها، في مقدمة، وكالات الأنباء في المنطقة والعالم. وذهب حارث الى موسكو ، ولم يبق طويلاً فيها، ومنها انتقل الى الكويت، مستشاراً صحفياً، ودعاني الى هناك في حزيران 1978، واحاطني برعايته، وأخذني الى جاسم النصف رئيس تحرير صحيفة (القبس) وعرفني على مدير تحريرها، الصحفي اللبناني رؤوف شحوري، وصرت وانا في الكويت، مراسلاً لها في بغداد، ومما اذكره مع حارث هناك، انه اصطحبني، الى منزل المطرب الكويتي المشهور وقتئذ، عوض دوخي، حيث وجه اليه الدعوة لزيارة العراق، والغناء في الاحتفالات، لمناسبة مرور عشر سنوات على ذكرى 17 تموز. كان حارث، وهو في الكويت، على صلة يومية عبر الهاتف مع زملائه في (واع) يناقشهم في الاخبار ، ويلبي احتياجاتهم، وكثيراً ما كان يملأ سيارته الـ(بيوك) الضخمة، بالهدايا يوزعها على زملائه واصدقائه، وهو في اشد حالات الفرح، خلال زياراته الدورية الى بغداد. ونُقل حارث من الكويت، بعد سنوات من الجهد والعطاء، الى روما، وسررنا نحن الزملاء والاصدقاء، بهذا الاجراء، الذي كنا نحسبه، انه سيُريحه، من أعباء العمل المُرهق، الى أجواء عاصمة الطليان، ومربط خيل، صوفيا لورين، وقال له خيون : هسة تمام.. راح تصير ايتاليانو !، ولكنه لم يكن سعيداً بهذا النقل، فهو قد تعّود على الجدية في العمل، والعلاقات المهنية والاجتماعية الطيبة مع زملائه وأصدقائه، ولم يبق طويلاً في العاصمة الايطالية، فسرعان ما عاد الى بغداد، ومنها الى بيروت، التي كانت تشتعل، والحرب الأهلية على أشدها، ولكنه كان يضحك، وكأنه ذاهب في سفرة سياحية، لم يخف، ولم يتردد، برغم التهديدات، التي كانت تصل، الى السفارة العراقية، ومكتبه فيها، باعتباره المستشار الصحفي. وجاء الخبر الاليم، بتفجير الاوغاد، لمبنى السفارة، وهبّ جميع منتسبي (واع) بفزع يتساءلون عن مصير حارث، واذكر ان الزميل وليد عمر العلي، انفجر باكياً بحرقة، وهو يصرخ: (ابو شيبان راح)، والزملاء يتضرعون الى الله، ان يحفظه ويحميه، وسرت موجة من الامل والتفاؤل، عندما جاء خبر من بيروت يقول: بان حارثاً، وموظفي المستشارية الصحفية، ومن ضمنهم معاونته، بلقيس الراوي، زوجة الشاعر الكبير نزار قباني (محصورون) في مبنى السفارة، وتعالت زغاريد الزميلات، في ارجاء الوكالة، غير ان الفرحة، جفت على الوجوه، وماتت في العيون، عندما ورد الخبر اليقين.. حارث استشهد.
حارث طاقة .. ذلك الشاب الموصلي الجميل، والصحفي الانيق، كان يتفجر حيوية ومرحاً، دؤوباً في عمله، صدوقاً في علاقاته، كان يكابر، على نفسه، عندما تداهمه، نزلات البرد، وخصوصاً في الشتاء، وذات مرة جاء الى (واع) بعد ان اجبرته، زوجته الوفية، زميلتنا وصال، على ارتداء معطف ثقيل، حماية له، وما ان دخل صالة التحرير، حتى بادر الى نزع المعطف، ورماه على، محمد فخري رزوقي، وقال له خذه، ولا ترجعه لي مرة اخرى، فقد كان يضيق، بكل شيء ثقيل، سواء كان بشراً، او معطفاً. وفي جامع الامام أبو حنيفة، وجثمان حارث مسجى، في تابوت خشبي جوزي اللون، كان بكاء سعد البزاز عالياً، وهو الذي عاد على عجل، من مقر عمله في لندن، لوداع خاله الحبيب، وكان نشيج عباس الدايني مرتفعاً، وصوت نزار التكريتي مخنوقاً، وآهات الزملاء، تمزق سكون الليل، في الجامع المهيب، فقد كان انساناً، يتميز بالنُبل والقيم، حسن السيرة، ومحمود الخصال، ترك برحيله غصة، في قلوب كل من عرفه، نستذكره اليوم وكأنه بيننا، بحماسته وحيويته وضحكاته، بوقفاته ومواقفه، التي لا تنسى.
كاتب وصحفي عراقي
—————————
عذراً التعليقات مغلقة