الحبيب عكي
من التناقضات الحضارية الصارخة، أن تكون لغة التعليم في بلد إسلامي عربي أمازيغي، هي تلك الفرنسية المتخلفة وهي لغة المستعمر الجلاد الذي أذاق الناس بسياسته الهمجية ولغته العنصرية الويلات، والتي كافح الأجداد ضده وضدها بكل وطنية وقدموا في ذلك التضحيات، عقودا من الزمن المرير حتى تحررت البلاد والعباد من أغلاله وأغلالها، وما أن كان لهم ذلك بفضل الله و وحدة كلمتهم وقوة شوكتهم، وما كادوا يصدقون انفكاكهم من قيدها وبطشها ورنتها الممقوتة والمقرونة في حياتهم بالظلم والعذاب، وما أن بدأ الأحفاد يألفون استعادة لسانهم العربي الأمازيغي الفصيح، وما أن بدأت ألسنتهم تلهج بسلاسته وفصاحته تعبيرا وتواصلا، فهما وكتابة، ثراء وأخلاقا، إبداعا وإمتاعا وإقناعا، حتى أعادها بعض “الرباعة” المتنفذين في مزارع أسيادهم، كلالة على ألسنتنا و كلما ممسوخا على عقولنا وطلسما ممقوتا في مدارسنا وحياتنا، فهل يعرف هؤلاء شيئا من معنى وفاء الأحفاد للأجداد؟، هل يعرفون شيئا من مقومات الهوية التي ناضلوا من أجلها وعلى رأسها الدين واللغة والوطن الحر والمستقل؟، وحتى إذا انبهر المهزومون بثقافة هازميهم، وظنوا أنهم بإمكانهم أن يتقدموا بمجرد استخدامهم هذه اللغة وتقليد أهلها، هل يدركون شيئا من ضرب أمثالهم وهي تقول:”القراية في الراس ماشي في فاس” ؟؟.
أغرب من هذا، أن تكون إعادة الفرنسة هذه بعد عقود من التعريب أو شبه التعريب الذي رغم عدم اكتماله ولا إشماله، لم يشكو منه أحد، خاصة في الوسط المدرسي والتكويني، لا تلاميذ ولا أباء، ولا مدرسين أو إداريين، أو مفتشين أو جمعويين، أو حتى أحزاب أو نقابات..؟؟. فكيف جاءت إعادة الفرنسة هذه في هذه الأجواء من الارتياح والشعور بفخر الانتماء والانسجام الهوياتي وارتفاع المستوى التحصيلي للتلاميذ؟، وكيف جاءت في وقت طالما نادينا فيه ولازلنا بتعريب الإدارة والحياة البصرية في الشارع، وصدرت في ذلك مذكرات ودوريات إلزامية، وأنجزت لوحات تعريفية وإرشادية تحترم المواطن العربي الأمازيغي في هويته اللغوية؟، بل طالما نادينا بتمزيغ القضاء، حتى يفهم المتقاضون من الأمازيغ الأقحاح، ماذا يتداول بشأنهم المحامون والقضاة، وإن باللغة العربية فما بالك باللغة الفرنسية والتي في إطار هذه الموجة من الانسلاخ عن الهوية والتراجع عن المكتسبات المادية والمعنوية للاستقلال، لا يستبعد يوما أن يعود ويمتد صدور وثائق الأحكام القضائية بها، عودة وامتداد جائحة “كورونا” التي يتجدد فينا “كوفيدها” كل مرة ومرة بكذا أسلوب وأسلوب ولا يرتوي من مآسينا رغم كل شيء؟؟.
و الواقع الآن، أنه قد استبق أمر إعادة هذه الفرنسة البغيضة مجموعة من “الحصاديين” و “Système D”، من المديرين الإقليميين والجهوين، فأقروا الفرنسة في ملحقاتهم وثكناتهم التعليمية حتى قبل أن يقرها القانون الإطار، الذي لم ينجو من معركة التصويت إلا بأعجوبة وقدرة قادر؟، والواقع الآن أنه قد وقع تعميم هذه الفرنسة الهجينة على معظم الثكنات التعليمية على غير ما ينص عليه قانون الإطار الذي جاء يقول بتنوع العرض التربوي ما بين فرنسي وعربي، وبالتناوب اللغوي في بعض المجزوءات العلمية كجهد خاص بالتلميذ لتشجيعه على ركن أساسي في التعليم ألا وهو التعلم الذاتي والذي لم بعد بينهما إلا الخير والإحسان، هذا وقد خذل الآباء من طرف هؤلاء الفرانكفونيون كي يوقعوا دون توضيح على توحيد العرض التربوي كما شيء لهم، إن وقعوا أصلا؟؟، والواقع الآن، أن ردة الفعل مع الفرنسة كغيرها من المشاريع المتسرعة وغير العلمية لم تكن بطيئة، فحسب الممارسين في الميدان وعلى مدى هذه الأربع سنوات من بداية الانتكاسة هناك:
- تراجع في فهم التلميذ بالفرنسية /
- تراجع عن مشاركته في بناء الدرس بسبب الفرنسية /
- عجز عن التعبير عن رأيه والدفاع عنه بعدما كان طليق اللسان فصيحه بالعربي /
- عجز عن الكتابة بالفرنسي وركاكة في القراءة بها..،بعدما كان يجادل بالعربي ويلخص بها /
- إقحام الأستاذ في المواد العلمية في إشكالات تربوية مجملها مع اللغة الفرنسية بدل المضامين العلمية ؟؟.
- تعليق بعض المعالجة على المناداة المستمرة بتفعيل الأندية التربوية والعلمية دون إطار مرجعي ولا متخصصين، مما جعل مجملها لا يرى النور ولا الاستمرارية والفعالية إلا ما كان ناذرا ومحتشما؟؟.
والأفظع في كل هذا، أن تتم مجمل التغطية عن هذه الانتكاسة اللغوية والتربوية الخطيرة بإجبار الأساتذة على مراجعة فروض التقويم والمراقبة المستمرة والامتحانات الإشهادية إلى أسهل ما يمكن أن تكون، من مثل: أجب بصحيح أو خطأ..إختر الجواب الصحيح..أسئلة املأ الفراغ وصل بخط..بعيدا عن المعهود من أسئلة التحليل والتركيب والتفكيك الجوهرية والعميقة، وفوق ذلك وضدا على قانون الإطار والتدابير الأولية لإصلاح التعليم، رفعوا نسب النجاح في الأقسام غير الإشهادية حتى إلى 95 % أو 100 % بغض النظر عن العتبة حصل عليها التلميذ أو لم يحصل؟؟، ولا ندري هل هكذا سننقذ المدرسة المغربية أم هكذا سنجهز على ما تبقى فيها من بصيص أمل؟؟، والوهم السائد في كل ذلك هو الركوب على قولهم ولماذا تدرسون أبنائكم دون غيركم في المدارس الخصوصية والبعثات؟، ناسين أو متناسين أن اللغة الفرنسية والإنجليزية في جل هذه المدارس الناجحة منها ما هي إلا جزء من عدة أجزاء تنبني عليها جودة تعليمها وضمنها الجدية والمسؤولية والبيداغوجيا والكفاءة والتعامل والتواصل والراحة والأمن والنقل والمطعمة والخدمات والأنشطة ورونق الفضاء والتفوق والفرص..، وغير ذلك كثير وها قد عادت هذه السنة أفواج من التلاميذ من هذا التعليم الخصوصي إلى التعليم العمومي ولم تجد عشر معشاره؟؟.؟؟.
والحصيلة الآن، أن إعادة فرنسة التعليم خطوة إيديولوجية متسرعة غير علمية وغير محسوبة العواقب، من العار أن تذهب ضحيتها أجيال من تلاميذنا بل ونرهن بها عقودا من مستقبل وطننا التنموي، كما أن الأمر تنمويا واستراتيجيا لا يستقيم، إذ كيف سيتخرج التلميذ الطالب الذي درس طوال حياته بالفرنسية، ليعمل في مؤسسات الدولة التي – نظريا وقانونيا – تسود فيها اللغة العربية، أم نهيء أبنائنا لفرنسا العجوز الشمطاء، لنتباكى بعدها على آلاف الأطباء والمهندسين الذين نكونهم بقوت أبنائنا ثم يهاجرون إليها في ملحمة “الحركة” الجماعية وتجنسهم، لتبقى مؤسساتنا تئن تحت رحمة فضلها؟؟. وبمعنى آخر إن هذه الفرنسة لن تنتعش في البلاد إلا بفرنسة كل مظاهر الحياة فيها، في المدينة والقرية كما في السهل والجبل، يعني إعادة استعمارها لغويا بحيث يصبح مستقبل الجميع ويكون لزاما عليه أن يدرس فرنسيا..ويرتفق فرنسيا..ويتسوق فرنسيا..ويأكل ويشرب ويلبس ويحيي فرنسيا.. ويمارس الرياضة ويتذوق الفن أيضا فرنسيا، ولما لا يفكر ويتعبد ربه أيضا كذلك؟؟، وهذا من سابع المستحيلات، لأنه قد يضعف المرء أو يتمسخ لحظة ضعف وفراغ أو تيه وضياع، ولكن ليس إلى الأسوأ على الدوام والفرنسية عربيا وعالميا هي الأسوأ، فكيف تفرض لغة التخلف العلمي والأدبي على شعب يريد الانعتاق ولغة الانعتاق اليوم في شتى المجالات هي الإنجليزية على الأقل؟؟.
إذن، الأكيد أن إعادة فرنسة التعليم عندنا انتكاسة خطيرة بكل المقاييس، وجريمة لا تغتفر ولا تتقادم بمجرد تصويت كائن من كان على الموضوع، لأنه يتعلق بهوية الأمة وسيادتها وليس بشأن من شؤون السياسة والاقتصاد وأهل البرلمان فحسب، ورجوعا إلى فضيلة الحق وجادة الصواب التي ستأتي يوما طال الزمن أو قصر، ألا يمكن توجيه البوصلة في اتجاهها الصحيح من الآن وبكل موضوعية وروح وطنية شعارها:”الوصول متأخرا خير من عدم الوصول إطلاقا”، ومن أجل ذلك فقط نتساءل عن مدى إمكانية:
- الابتعاد عن الشحناء والتوتر السياسوي؟
- تقييم التجربة من الناحية التربوية الصرفة؟
- تقييم التجربة من ناحية إرادة التلاميذ والآباء؟
- الإبقاء على تنوع العرض التربوي كما يجبر به قانون الإطار بدل توحيده؟؟
- توفير المسلك الجامعي لكل الاختيارات، وكذلك المستقبل العملي لكل المسالك؟؟
- ومدنيا، زرع حب الاطلاع في أبنائنا والقراءة بالعربية والاتصال بمصادرها الأصيلة وعلى رأسها القرآن الكريم، كتاب الفصاحة والثراء والأخلاق، وبلغة الإبداع والإمتاع والإقناع؟؟.
وفوق ذلك، يبقى هناك أمر أساسي في غيابه لا يمكن أي شيء، وهو الأمر الدستوري الذي ينص على وجوب “النجاعة اللغوية” في كل اللغات عموما، وعلى ما يبدو أن كل القطارات اللغوية في المغرب الآن معطلة، لا قطار الفرنسية ولا قطار العربية، ولا قطار الأمازيغية ولا الإنجليزية ولا غيرها، إلا قطار التطبيع الآن وما أدراك ما التطبيع، التطبيع مع الكيان الصهيوني منكر و خطيئة أية خطيئة، والتطبيع مع اللسان الفرنسي مفسدة وطنية أي مفسدة، فكيف إذا اجتمع الاثنان ضدا على الأمر الدستوري الذي ينادي بوجوب حماية اللغة العربية واللغة الأمازيغية بكونهما اللغتين الرسميتين للبلد، ولا يكون ذلك أبدا بهذه الأفضلية والامتياز الاعتباري للغة الآخرين على حساب لغة أهل البلد أو حتى موازاة معها، فما بالك بالتشويه التطبيعي الذي يبشر بتدريسه المطبعون، فإذا الكيان سيكون دولة، والدولة دولتين، والعاصمة عاصمتين، والاغتصاب استيطان، والكيل مكيالين، وتل الربيع تل أفيف، وبيت المقدس بيت الهيكل، وعدو الأمس صديق اليوم، والاستسلام صلح، والهزيمة سلام، والمقاومة إرهاب، والشهيد انتحاري..لا نامت أعين المطبعين؟؟.
كاتب مغربي
عذراً التعليقات مغلقة