كَأنّني أرى شيئا يَدْنُو
مصطفى مَلَح
شاعر من المغرب
خَطأ مطبعيّ
تُخْطِئُ الجاذِبِيَّةُ عَمْداً،
بإِسْقاطِ ريشٍ وأَوْراقِ دالِيَةٍ،
ومِياهٍ تَعيشُ جِوارَ مَلائِكَةٍ.
تُخْطِئُ الجاذِبِيَّةُ أَيْضاً،
بِرَفْعِ ثِيابِ المُهَرِّجِ في البَرْلَمانِ،
وقُبَّعَةِ البَهْلَوانِ،
ولَكِنَّني سَأُغَيِّرُ خَطَّ اتِّجاهِ الرِّياحِ،
لِتَرْتَفِعَ الوَرَقاتُ الشَّريدَةُ والرّيشُ والماءُ،
حتّى إِذا سَقَطَتْ قُبَّعاتُ المُهَرِّجِ،
أَدْرَكْتُ أَنَّ الوُجودَ تَنَقَّحَ،
والجاذِبِيَّةَ عادَتْ إِلى رُشْدِها!
عين البحر
عَمودُ الضَّوْءِ أَعْمى،
فالمَصابيحُ التي عَلِقَتْ بِهِ لَيْلاً،
يَراها الآخَرونَ فَقَطْ!
لِنُصْبِحَ أَصْدِقاءَ لِمَوْجَةٍ،
يَجِبُ احْتِرامُ صَديقِها السَّمَكِ المُحِبِّ لَها..
وكُلُّ إِزالَةٍ للخَيْطِ مِنْ صَنّارَةِ القَصَبِ العَدُوَّةِ،
لَيْسَ إِلاّ دافِعاً لِصَداقَةٍ مائِيَّةٍ مَعَ مَوْجَةٍ أُخْرى!
يَصيرُ البَحْرُ أَعْمى،
عِنْدَما تَلْقى المُوَيْجَةُ حَتْفَها..
سَأَكونُ عَيْنَ البَحْرِ.. لا صَنّارَةَ الصَّيّادْ!
الشّبح
النُّقْطَةُ فَوْقَ السَّطْرِ،
وجُثَّةُ جَدّي فَوْقَ التّابوتِ الخَشَبِيِّ،
وكَلْبَةُ جاري فَوْقَ السَّطْحِ،
وبِضْعُ وُرَيْقاتٍ فَوْقَ الصِّهْريجِ،
وسَبْعَةُ أَضْرِحَةٍ تَتَراءى فَوْقَ التَّلِّ،
ونوحٌ فَوْقَ الماءِ،
ورَبّي فَوْقَ العَرْشِ،
ووَحْدي لَمْ أَكُ فَوْقَ مَكانٍ؛
لَسْتُ سِوى شَبَحٍ يَتَسَكَّعُ في طُرُقاتِ اللَّهْ!
النّار
نَحْتاجُ يَداً لِوِلادَةِ نارٍ،
لا تَكْفي أَبَداً أَعْوادُ ثِقابٍ فَوْقَ رُكامٍ مِنْ حَطَبٍ!
***
قَطَراتٌ تِسْعٌ أَوْ عَشْرٌ،
لا تَكْفي أَحْياناً لِمُراوَغَةِ العَطَشِ الأَعْمى،
نَحْتاجُ غَديراً كَيْ تُمْحى النّارُ المَسْكوبَةُ،
مِنْ شَفَةِ العَطَشِ العاري!
***
سَأَكونُ يَداً لا عُودَ ثِقابٍ،
حَتّى أَمْنَعَ ميلادَ النّارْ!
النّبلة
يَحْضُنُ النَّبْلَةَ غُصْنٌ عاشِقٌ،
في الجِهَةِ الأُخْرى غَزالٌ يَمْضَغُ العُشْبَةَ،
والنَّبْلَةُ جَوْعى،
غَيْرَ أَنَّ القَوْسَ لا يَتْرُكُها تَرْحَلُ،
والوادي على مَقْرُبَةٍ،
والشَّمْسُ تَمْضي في اتِّجاهِ البَحْرِ،
والنَّبْلَةُ تَمْشي،
تَسْقُطُ العُشْبَةُ فَوْقَ الدَّمِ،
يَمْشي القَوْسُ في الوادي،
عَسى أَنْ تَتَراءى نَبْلَةٌ أُخْرى!
السّدّادة
سَدّادَةُ القِنّينَةِ التي سَتُرْمى آخِرَ السَّهْرَةِ،
في قُمامَةِ الحَيِّ،
سَتَلْهو قِطَطُ اللَّيْلِ بِها،
أَمّا أَنا،
لَسْتُ سِوى سَدّادَةٍ أُخْرى،
سَأُرْمى في قُمامَةِ الحَياةِ،
ثُمَّ تَلْهو قِطَطُ النَّهارِ بِي!
دموعُ النّعاج
تَنْتَظِرُ القَرْيَةُ ميلادَ سَحابَةٍ،
يَمُرُّ الشَّهْرُ دونَما مَخاضٍ،
يَخْرُجُ الفَقيهُ والفَلاّحُ والتّاجِرُ،
والمُقاوِلُ الصَّغيرُ،
ثُمَّ البَرْلَمانِيُّ..
وتُرْفَعُ الصَّلاةُ خارِجَ المَسْجِدِ..
بَعْدَ ساعَتَيْنِ تُمْطِرُ السَّماءُ،
لَكِنْ يا تُرى:
هَلِ اسْتَجابَ اللَّهُ للرِّجالِ في القَرْيَةِ،
أَمْ لأَدْمُعٍ داخِلَ أَعْيُنِ النِّعاجْ؟!
الثّقب
الثُّقْبُ في السَّقْفِ مَجازٌ،
ويَراهُ النَّمْلُ مَسْكَناً،
وقَدْ تَجْعَلُهُ الرّيحُ مَمَرّاً،
وإِذا جاءَ الخَريفُ مُرْعِداً،
أَغْلَقْتُ ثُقْبَ غُرْفَتي ونِمْتُ،
غَيْرَ مُدْرِكٍ،
بِأَنَّ نَمْلاتٍ تَشَرَّدَتْ،
وأَنْفاقاً لِريحٍ نُسِفَتْ!
الخيط
لَيْسَتْ يَدُ الخَيّاطِ مَنْ يُرَتِّقُ الثَّوْبَ،
ولا إِبْرَتُهُ – والخَيْطُ مَوْصولٌ بِها-
وإِنَّما يُرَتِّقُ الثَّوْبَ دَمٌ بِأُصْبُعِ الخَيّاطِ..
كُلُّ مِعْطَفٍ مُلَوَّنٍ،
تَنْشُرُهُ الحَواسُّ فَوْقَ مِشْجَبٍ بِغُرْفَةٍ،
يَحْمِلُ بِالتَّأْكيدِ خَيْطَيْنِ مُتَيَّمَيْنِ،
خَيْطٌ مِنْ قَطيفَةٍ،
وخَيْطٌ مِنْ دَمٍ!
الخيّاط
أَنا الخَيّاطُ أُولِجُ إِبْرَةً بَيْضاءَ في بَدَنِ الحَياةِ،
وأَسْحَبُ الخَيْطَ الرَّقيقَ مِنَ الأَشِعَّةِ،
ثُمَّ أَصْنَعُ مِعْطَفاً لأَميرَةٍ تَأْتي شِتاءً مِنْ بِلادِ الثَّلْجِ.
خَيّاطُ الكَلامِ بِوَرْشَةٍ مَنْسِيَّةٍ،
ثَوْبُ المَجازِ بِضاعَةُ المَوْتى،
ولا أَحَدٌ مِنَ الأَحْياءِ يَعْرِفُني،
لَقَدْ صاروا عُراةَ الرُّوحْ!
أَنا الخَيّاطُ أُولِجُ إِبْرَةً حَمْقاءَ في بَدَني،
يَسيلُ دَمي،
يُبَلِّلُ كَوْمَةَ الخَيْطِ التي بِيَدي،
يُبَلِّلُ وَرْدَةً مَرْكونَةً تَحْتَ المِقَصِّ،
تَمُرُّ سَيِّدَةٌ.. تُجَفِّفُني.. وتُدْخِلُ خَيْطَها في إِبْرَتي،
وتَقولُ لي: قُمْ أَيُّها الخَيّاطْ!
المسافة
المَسافَةُ بَيْنَ الفَريسَةِ والنَّسْرِ،
طَوْراً تَضيقُ بِخَوْفِ الفَريسَةِ تِلْكَ،
وطَوْراً يُوَسِّعُها بِعَزيمَتِهِ النَّسْرُ،
حَتّى إِذا ما أَتى حارِسُ الغابَةِ الهَمَجِيُّ،
تَصيرُ المَسافَةُ بَيْنَ رَصاصَتِهِ ودَمِ النَّسْرِ،
أَصْغَرَ مِنْ حَرْفِ نُونٍ على وَرَقٍ،
وإِذا سَقَطَ الحارِسُ الغابَوِيُّ بِهاوِيَةٍ،
صِرْتُ وَحْدي أَقيسُ المَسافَةَ،
ثُمَّ كَبُرْتُ سَريعاً،
وأَصْبَحْتُ بَعْدَ غَدٍ حارِسَ الغابَةِ!
علامة ”قِف“
أَمامي عَلامَةُ ”قِفْ“،
والهَواءُ يَمُرُّ بِدونِ مُرَكَّبِ نَقْصٍ،
تَمُرُّ اليَعاسيبُ والحَشَراتُ السَّريعَةُ،
أَدْخِنَةُ الحافِلاتِ تَمُرُّ،
غُبارُ الوُجودِ يَمُرُّ،
ولَكِنَّني أَقِفُ الآنَ في مُلْتَقى طُرُقِ الأَبَدِيَّةِ،
مَرَّتْ ثَوانٍ فَيَوْمٌ فَعامٌ فَقَرْنٌ،
ولَكِنَّني لَمْ أَزَلْ واقِفاً،
وعَلامَةُ ”قِفْ“ صَدِئَتْ،
وأَنا أَتَعَلَّمُ كَيْفَ أَصيرُ صَديقاً لِأَيِّ غُبارٍ،
تَراكَمَ فَوْقَ رَصيفِ الحَياةْ!
النّهار
في الحَقيبَةِ أُخْفي النَّهارَ،
وشَمْسَ المَصيفِ،
وأُخْفي كَذَلِكَ مِشْطَ الأميرَةِ،
ثُمّ أَقولُ لِرَبّي: ”أُريدُ خَريفاً“.
وأَدْعوهُ جَهْراً بِأَسْمائِهِ وجَلالِ الصِّفاتِ،
فَيَفْنى النّهارُ وتَنْطَفِئُ الشَّمْسُ.
بَعْدَ دَقائِقَ يَأْتي الخريفُ على عَرَباتِ الهَواءِ،
وفي يَدِهِ غَيْمَتانِ مُتَيَّمَتانْ..
عِنْدَما انْسَكَبَ اللَّيْلُ بَرْقاً وماءً،
فَتَحْتُ الحَقيبَةَ حتّى أُحَرِّرَ مِشْطَ الأَميرَةِ،
لَكِنَّني لَمْ أَجِدْ في الحَقيبَةِ إِلاّ النَّهارْ!
الإقامة عاليا
المَرْأَةُ التي أُحِبُّ،
عِنْدَما أَموتُ تَمْشي في جَنازَتي،
وفي مُنْتَصَفِ السَّماءِ،
فَوْقَ الجاذِبِيَّةِ التي تَشْرُدُ تَحْتي،
تَطْرُدُ المُشَيِّعينَ والمُعَزّينَ،
لِكَيْ تُقْنِعَ قَبْري بالمُكوثِ عالِياً بَيْنَ النُّجومْ!
مَرَّتْ دُهورٌ،
صِرْتُ نَجْماً صارَتِ المَرْأَةُ نَجْمَةً،
ولَمْ يَعُدْ بِوُسْعي الالْتِفاتُ نَحْوَ أَيِّ هاوِيَةْ!
الفينيق
لأَنَّني لَسْتُ نَبِيّاً،
فَمِنَ المُحْتَمَلِ السُّقوطُ في هاوِيَةٍ..
ما لي كِتابٌ أَوْ حَوارِيّونَ،
وَحْدي في فَمِ السِّرْدابِ،
يَمْحوني لِسانُ العَتْمَةِ الحافي،
فَأَفْنى مُتَلَذِّذاً بِمَوْتي،
وقُبَيْلَ رَقْصَةِ الرُّوحِ على عَزْفِ الأَلَمْ
يَخْتارُني اللهُ لِكَيْ يَغْرِسَني في المَلَكوتِ،
حينَها أُبْعَثُ فينيقاً بِغابَةِ العَدَمْ..
القيامة
القِيامَةُ تَبْدَأُ مُنْذُ الوِلادَةِ،
يُصْبِحُ خَيْطُ الوُجودِ صِراطاً،
ويُصْبِحُ جيرانُكَ الطّيِّبونَ زَبانِيَةً..
وإذا نَزَلَ اللَّيْلُ يُنْفَخُ في الصُّورِ،
حينَئِذٍ تَتَعَرّى الكَوابيسُ،
ثُمَّ تَصيرُ عِظاماً يُخاطُ بِها الخَوْفُ،
حتّى إذا أَشْرَقَ الصُّبْحُ،
جيءَ بِنا للإِقامَةِ داخِلَ بَهْوٍ،
يُسَمّى النَّهارْ!
قصيدة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة