قراءة نقدية
احمد الحاج
كاتب من العراق
سأنتشي عبق أحلام السعادة
وهي تداعب البكاء
سأنسج الأمل بابتسامتي
فوق رضاب الأرض
لتوقف عجف السنين
سأنسج بالذكرى أطلال الزمان
عندما تتوقف عقارب الساعة
بهذه المفردات تعبر الذات الشاعرة عن تجلياتها السيسيو ثقافية بعفوية وصدق، وهي تجري مقارنة ما بين الواقع والمتخيل، فهي ترفض الواقع المعاش وتتهمه بالاستسلام وعدم الحيادية، لذا فهي تنشد حياة أفضل بكثير مما هي عليه، كما تقف بعناد وشموخ بوجه الآخر ليس من خلال البحث عن الأمل المنشود، بل هي مصرة على ايجاده وتكوينه حتى ولو حفرت بأظافر مدماة في صخر الواقع الصلد، يضاف إلى ذلك عدم وقوفها عند حدود الحلم بما هو آت في المستقبل القريب فقط: “سأنتشي عبق أحلام السعادة”، ولا تلتزم بحدود الحاضر: “سأنسج الأمل بابتسامتي لتوقف عجف السنين”، بل تغوص في أعماق الماضي لتعيد تشكيله من جديد حسب المتخيل الشعري: “سأنسج بالذكرى أطلال الزمان عندما تتوقف عقارب الساعة”، وفي نفس الوقت ليشكل انعكاساً للأمل المنشود في الحاضر والمستقبل، ولكن عقارب الساعة لن تتوقف حتى بتوقف حياتنا ورحيلنا عن هذه الدنيا.
يقول الشاعر الاسباني لوركا: “يا لها من أحزان عميقة لا يمكن تجنبها، تلك الأصوات المتوجعة التي يغنيها الشعراء”.
وعلم الدلالة (Semantics) هو العلم المختص بدراسة معنى الكلمات والعبارات والجمل، ويأتي جنباً إلى جنب مع التداولية (Pragmatics) التي تختص بدراسة معنى النص. وهو أحد فروع علم اللغة العام قبل أن يكون أحد المناهج النقدية الحديثة. وفي عملية التحليل اللغوي التي أشار اليها بالمر (F. R. Palmer) وجون لاينز (John Lyons) هناك دائماً محاولة للتركيز على معنى الكلمة المعجمي أكثر مما يريد المتكلم من معنى لهذه الكلمة في مناسبة ما، ويؤكد هذا المدخل الناحية الموضوعية والناحية العامة. فهو يتجنب الناحية الذاتية والمحلية حيث يتناول علم الدلالة اللغوي المعنى التقليدي والمعنى الاقتراني، او بعبارة أخرى المعنى القاموسي والمعنى المعياري في استعمال الكلمات والجمل. ويستعمل الشعراء وأصحاب الإعلانات مصطلحات مثيرة للمعنى الاقتراني بدرجة تجعل بعض علماء اللغة يصر في بحث وتحديد ما يؤدي إلى خلق معنىً ذهنياً لهذه المفردات، وهنا يبحث العلم عما وراء المفردة من معنى ودلالة وقصدية.
وفي قصيدة النثر يعد الأمر مختلفا نوعا ما عن بقية النصوص اللغوية والأدبية، فهي تعتمد على الجملة القصيرة، والعبارة المختصرة، كما تبنى على الفكرة المقتضبة، وتركز على المفردة والصورة الشعرية أكثر من التركيز على تقنيات الشعر الأخرى. وفي منهج قراءتنا هذه سوف نتناول أحد اهم المفاهيم اللغوية في علم الدلالة وهو المفهوم الذي يبحث في العلاقات المفرداتية للنصوص النثرية الواردة في الديوان البكر للشاعرة المغربية نعيمة أوهمو المعنون “رحلة صمت” والصادر عن دار دريم بن للطباعة والنشر في القاهرة عام 2020.
ولكن قبل أن ندخل في معمعة التحليل والنقد الدلالي، وهي أن النص اللغوي عبارة عن رسالة موجهة من المرسل/ الباث عبر مودم اللغة التي تشكل الرسالة/ النص إلى المستلم/ المتلقي، حسب المنظومة الياكوبسونية، وهذا النص يجب أن يكون مبني على قيمة فنية وإبداعية بهدف إغواء الأخير وجذبه للنص وهي حق مشروع في حقل الإبداع على العكس من الإعلانات التجارية التي قد يشوبها النصب والاحتيال وممارسة عملية إغواء غير مشروعة، وبالتالي علينا العروج على مسألة مهمة جدا تتعلق بمنظومة ثلاثية يشترك فيها كل من المؤلف والمتلقي والناقد، وهي عملية توريد المفردات ذات القيمة الدلالية في النص الأدبي بشكل عام والنثري بشكل خاص. وهذا طبعاً لا يأتي من فراغ وإنما يعتمد على حرفة الكاتب وتنوع معارفه وعمق تعليمه ومصادر ثقافته. وشاعرتنا نعيمة أوهمو قد امتلكت ناصية المعرفة بعمق كونها مهندسة معمارية وفنانة تشكيلية وتجيد اللغة الفرنسية وهذا ما خلق لها جو من التفاعل الخلاق والخزين المفرداتي الخصب يتجلى من خلال بلاغة المفردات الواردة في الديوان، وهذا ما سوف نجده من خلال مكونات الدراسة والتي ستناقش عدة جوانب من العلاقات اللغوية ذو قيمة فنية ونقدية كبيرة.
المترادفات:
تتكون المرادفات (Synonymy) من صيغتين أو أكثر لها اتصال قريب في المعنى وتكون عادةً وليس دائماً بدائل متداخلة في الجمل وتأتي بشكل مترادف.
ونجد هذه المترادفات قد وردت بعفوية ربما غير مقصودة في معظم قصائد الديوان، بحيث تجدها قد ساعدت كثيرا في توكيد المعنى المعياري الذي أوغلت فيه الشاعرة. وفي قصيدة “هدوء” (الديوان: 49) نجد القصيدة تبدأ بمترادفتين أحدهما معطوفة على الثانية:
هدوء وسكوت
كقلم بدون حبر
يغازل ورقة عجفاء
وكحرف غريب بين حروف مجد الكتابة
وكذلك مفردة مثل “حروف” ممكن تترادف مع “كتابة” في إشارة دلالية لوجود ردة فعل نفسية تعتمل في أروقة الذات الشاعرة. ويتكرر المشهد نفسه في الكثير من قصائد الديوان. ففي قصيدة “الشروق الأخير” تقول الشاعرة:
أوقف الساعة واتني ها هنا
لا تترك اللحظة حائرة
ولا عيني الذابلتين يوصدان نوافذ العالم
يدخران كل أرق الأمنيات
عند غروب محياك
هذا اللقاء التائه
قد أحيا وديان اللهفة
كنت حيرى
أعاتب الساعة الصامتة
أحاور جدائلي المنتشية
المتدلية على عناقيد سهوك
هل كنا نمازح الحب
أو بتنا كخسوف الشمس
نعانق الغواية
تعال ها هنا
ننفض كل معالم الوجد
ننتحل كل لغات العشق
نجعل ليومنا شروقاً آخر
قلبي الذي يحبو باتجاهك
لا يملك حلماً سوى إعلان الحضور
لأني يا سيدي أريد فجر حب
غير ذاك الساكن في عيونك (الديوان: 60)
نجد هنا المترادفات قد ساعدت كثيراً في توكيد المعنى الإشتغالي للشاعرة، فهناك حدثين يتعلق أحدهما بالذات الشاعرة والثاني بالآخر الحبيب الغائب، فهي “حائرة، تائهة”، كما انها “متلهفة، متعطشة لحنو”، فهي ترفض الماضي بما فيه من أحداث: “هل كنا نمازح الحب؟” كما ترفض الحاضر كواقع معاش: “أو بتنا كخسوف الشمس؟” عبر أسئلة افتراضية لا تنتظر الإجابة، ولكنها على أية حال تنشد حضوره “تعال ها هنا” ولكن ليس كالمعتاد، وانما تنشد حدثاً جديداً أكثر اشراقة ولمعانا مما هي أو هما عليه عبر مفردتين يحملان المعنى نفسه: “شروق، فجر”، وهذا الحلم هو ما شكل الثيمة الرئيسية لمعظم أدباء الشرق وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المتناقضات:
تشمل المتناقضات (Antonymy) في النص الشعري على كلمتين تحمل معان متضادة.
تبدأ المتناقضات الدلالية بدءاً بالعنوان “رحلة صمت” بشكل ضمني، كون الظاهر غير المضمر، فهو في الحقيقة “رحلة صخب” كونه مبني على فعل القول المعبر عن تجليات الذات الشاعرة وصرختها بوجه البيئة السيسيو ثقافية من حولها.
ويتكرر المشهد في الكثير من القصائد النثرية كما في نص قصيدة “أحتاجني سراً”:
نزل مطر الوجع
ليكفن الصمت الوفير
لا أدري أين أنا منه
غائبة داخل الأرض
تلك الأرض التي لا خريطة لها
ولا لوناً يدثرها
باتت معتمة الرؤيا
أغزل خطواتي المتجمدة
الصامدة..
لِمَ يُخلعُ صبري
وتجافى ناري؟ (الديوان:7-8)
وهنا نجد مفردة “صمت” في عبارة “ليكفن الصمت الوفير” والمعروف عن الصمت بأنه يناقض مفردة “كلام” والمفردة الأخيرة هي المعبرة أكثر عن أمل الذات الشاعرة من صفة الصمت التي لا طائل من وراءها، وهي كحال مفردة “معتمة” في عبارة “باتت معتمة الرؤيا” والتي تناقض مفردة ضوء ونور وعالم أكثر اشراقة تبحث عنه الذات الشاعرة، وعلى العكس تماما من العلاقة الدلالية في المتناقضات الواردة في العبارة: “أغزل خطواتي المتجمدة، الصامدة..”، فهنى تحيلنا الشاعرة الى وجود “انجماد” عكس “حركة” ولكن حتى مع فعل الانجماد فهو عبارة عن صمود وتحدي.
الإنضواء:
يبحث الانضواء (Hyponymy) في صيغة واحدة متدرجة في معنى آخر فأنّ العلاقة توصف بالإنضواء. وفي الديوان قيد الدرس نجد الشاعرة قد وضفت هذه التقنية في معظم قصائد الديوان، وفي مقطع من قصيدة “أكذوبة زمن قصير” نموذجاً للتحليل.
كلما هجرنا الصمت
يفنى الحجر من صراخنا
لا الشجرة ستبيع أغصانها
المتدلية على رفوف الطمع
ولا الأوراق ستقع هامدة
فوق تابوت الأرض (الديوان:47-48)
وهنا نجد المرجع الأصلي “الشجرة” وتنضوي تحتها كل من المفردات “الأغصان والأوراق” وقد تم توظيفها بصورة بلاغية لاستحالة الشجرة من أن تتخلى عن أغصانها والأخيرة لا يمكن أن تتخلى عن أوراقها فهناك علاقة حياتية بنيت على علاقة روحية.
وفي قصيدة “فارغة الرؤيا” نجد المقطع:
رُسمت لوحة تجريدية
لا عنوان لها
بالطلاسيم لُونت
ومن الثبات جُردت. (الديوان:51-52)
هنا نجد أن اللوحة هي جزء من الفن وينضوي تحته الرسم ثم التشكيل ثم اللوحة ينضوي تحتها كل من العنوان والريشة والألوان… الخ. ولكن هذه اللوحة قد جردت من كل شيء، العنوان والألوان وحتى الثبات، وهي حالة تشاؤم تعبر بها الذات الشاعرة عن حالة نفسية تعتريها. وهنا نجد مفردات قاموسية خاصة بالفن التشكيلي يسميها علماء الخطاب “الريجستر” لا يعلمها سوى المختص بهذا الفن، ولكن إن علمنا أن شاعرتنا فنانة تشكيلية سوف نفهم المسألة.
المتصاحبات
تعد المتصاحبات (Collocation) إحدى الظواهر الأخرى لمعرفتنا للكلمات والتي ليس لها علاقة مع أي من العوامل التي تمت دراستها لحد الأنّ، فنحن نعلم أن الكلمات لها الميل لتصاحب كلمات أخرى فنقول، شجرة باسقة، وشعر أشقر، ومياه عذبة، في الخطاب اليومي، ولكن في الشعر أو قل في الأدب عموماً ينشد الشاعر تحقيق معاني مفرداتية قائمة على الانزياح الدلالي لتحقيق نص ذو قيمة بلاغية ومعرفية تشد المتلقي.
وفي الديوان نجد الشاعرة قد اعتمدت على مجموعة من الانزياحات الدلالية كما في القصيدة “عند حضرة السلطان” نذكر منها ما نصه:
بين أمواج بحور عينيه
خططت حدود عشقي
بوضع سياج الجوى..
أبحرت عند محيط
ألمي…
كل يوم يتلون
حلمي الضائع
يؤسس مساحة تعبي
بأفرشة الغضب (الديوان:23-24)
نلاحظ أن المصاحبات اللغوية في النص أعلاه تقترن بإنزياحات مفرداتية غير متوقعة في ذهن المتلقي وهي ربما عملية مقصودة من قبل الشاعرة وهي حق مشروع في حقل الإبداع الأدبي والفني. فهي تقول: “بحور عينيه” فهي ترى أن عينيه تشكل بحوراً من الجمال كرمز للسعة، لذلك فهي اتخذت هذا المكان النفسي كمنطلق لتأسيس ثيمة نصية تعبر عن رؤية ذاتية، “خططت حدود عشقي”، ومن المعلوم أن تخطيط الحدود ترسم على الأرض فهي فعل حركي يؤدى على مساحة مادية محددة في ذهن المتلقي، بينما نجد “خططت حدود عشقي”، فعل حركي مادي يبنى على مفردة معنوية روحية وإن كان العشق لا حدود له ولكن عندما نكمل المقطع بالعبارة التي تليه “بوضع سياج الجوى”، هنا سوف ندرك بأن هذا العشق لا حدود له كونه قد أحيط بسياج الحرقة واللهفة، بالإضافة للإنزياح المفرداتي للجمع بين متصاحبتين “سياج وجوى” فالمعلوم عن السياج أنه يتصاحب مع مفردة مادية كأن يكون من الإسمنت أو الحديد، ونفس الشيء ينطبق على “يتلون حلمي الضائع”، صفة مادية بنيت على مفردة معنوية/ روحية، وكذلك “يؤسس…. بأفرشة الغضب” لتكتمل الصورة الفنية المعبر بها عن انثيالات الذات الشاعرة.
المشترك اللغوي
يقسم المشترك اللغوي (homonymy) الى نوعين: المشترك الكتابي (homograph) والمشترك اللفظي الصوتي (Homophony). وهنا نجد الشاعرة أوهمو تشتغل بكل من المشترك الكتابي والصوتي، وتجري توظيف التدوير الدلالي للمفردة من معناها المعجمي إلى المعنى السياقي الذي تفرضه بسطوة على المفردة في سبيل تحقيق مسألتين: الأولى تحقيق أكبر قدر من البلاغة اللغوية للمفردة، والثانية تحقيق أكبر قدر من الإنزياح المفرداتي تجاه الثيمة المقترنة بالنص.
وفي قصيدة “ستنسى” (الديوان: 79)
ستنسى يوم يقف القدر
عندما يجهل قطار الشوق
فمحطة النهاية…
حين تفرغ حقيبة الوهم
لتزرع الشرايين من جديد
وسط حقل الأماني
نجد مفردة قطار متطابقة لفظياً وحرفياً مع قطار المسافرين ذو المكون المادي، في حين نجده سياقياً قد حمل معنىً معنوياً يؤشر إلى شعور نفسي يعتري الذات الشاعرة، ونفس الشيء نجده في “محطة”، و”حقيبة”، و”حقل”.
خلاصة القول أن ديوان الشاعرة أهمو على الرغم من أنه ديوانها البكر إلّا أنها قد أبدعت فيه من خلال تنوع المفردات وتلون المعنى وبلاغة الكلمة وعمق التوظيف.
الدراسة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة