صباح شتوي ..قصة قصيرة للكاتبة المغربية لطيفة حمانو

صباح شتوي ..قصة قصيرة للكاتبة المغربية لطيفة حمانو

آخر تحديث : الإثنين 25 يناير 2021 - 11:53 مساءً

صباح شتوي

Screenshot 2021 01 25 at 22.45.59 - قريش
لطيفة حمانو

لطيفة حمانو

قاصة من المغرب

البرد قارس في الصباح, والضباب عباءة بيضاء تلف المدينة, وتحجب رؤية الأشخاص والأشياء.

 وحدها أضواء السيارات تخترق الضباب الكثيف, ليقع نظر بسمة على الشوارع الفارغة الا من تلاميذ يتوجهون لمدارسهم في جنح الظلام، فلا أحد يغامر بالخروج في هذا الطقس العابس الا مضطر دعته الضرورة لمغادرة دفء الفراش ليلحفه صقيع  ذلك الصباح. 

تذكرت بسمة أحاديث جدتها عن أربعينية الليالي الشتوية وما تعرفه من قر وزمهرير وقولها: “إذا طلع سعد الذابح لا باب انفتح ولا كلب نبح”. وتقسيمها لليالي البيض والليالي السود التي رغم شدة برودتها تتفتح فيها أوراق الأزهار والأشجار وتردد:” الليالي السود يتفتح فيها كل عود “.

تنظر بسمة الى ساعتها اليدوية التي تشير الى الثامنة صباحا بالتوقيت المحلي، تحدّث نفسها بضيق: والسابعة بتوقيت جرينتش، تلعن ذاكرتها التي تحن الى توقيت جرينتش في الصباحات التي يكون فيها البرد قارسا ، الذاكرة لعنة الانسان المشتهاة والسعادة تكمن في الذاكرة الضعيفة كما قال ارنست همنغواي لذلك قررت بسمة ألا تتذكر مرة ثانية توقيت جرينتش لتسعد في صباحاتها الشتوية.

 عبرت الشارع لتنتظر سيارة الأجرة، انتظارها جعلها تفكر أن الحياة ما هي الا مجموعة من الانتظارات، فالانتظار ملازم للحياة كما قالت رضوى عاشور.

 بعد وقت وجيز توقفت سيارة أجرة أمامها، أخذت مقعدها في الخلف ،وهي تتوقع شخصية سائق اليوم ، فمن تعاملها اليومي مع سائقي سيارات الأجرة بدأت تميز كل سائق عن الاخر ، وهذه الشخصيات هي نماذج إنسانية يمكن مصادفتها في جميع المهن والوظائف ، فهناك السائق العصبي الذي يصرخ في وجهك بمجرد أن تصعد السيارة : “تمهل على باب السيارة كدت أن تكسره ،عندما تنزل أغلقه بهدوء” .وهناك السائق المتهور الذي يتخيل الشارع حلبة سباق فينطلق بسرعة قصوى يتجاوز يمينا ويسارا ،وهناك السائق الطماع الذي يضيفك الى زبون اخر و يخبرك أنه ذاهب في نفس اتجاهك ويضيف زبونا اخرا اليك و يعمد الى توصيل الزبون الأول الى حي بعيد وعندما يشعر بامتعاضك ينصحك بالصبر ويخبرك أن العجلة من الشيطان ويختم خطبته بقوله : “مصاب غير السلامة “.وهناك  السائق الساخط الذي يقوم بدور المحلل السياسي الذي ينتقد البلاد والعباد ،ويلعن البلدية التي لم تقم بإصلاح الطرق وتغطية الحفر و لم تصبغ ممرات الراجلين ويشكو من السلب والنهب وينتقد الرشوة والريع لكنه لا يتوانى عن تسريع عداد سيارته وسلك أطول طريق توصل الزبون الى وجهته ،ويكيل سيلا من الشتائم لسيدة تسوق سيارتها  اضطرت للتوقف فجأة للسماح لطفل بعبور الشارع ،يعتقد أن اصلاح البلاد هو اختصاص الدولة فقط ولا يدرك أن الدولة هي مجموعة أفراد قبل أن تكون مجموعة من المؤسسات ،وأن كل مواطن يجب أن يحمل مشعل التغيير من المكان الذي يتواجد فيه ،فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

مقهى اخر جديد في شارع المقاهي 

قطع صوت السائق حبل أفكار بسمة فأجابت:

أجل قبل يومين فقط كان الافتتاح.

أكمل السائق حديثه: عندما انتشرت المقاهي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان مؤسسة اجتماعية تساهم في نشر الوعي وتهذيب الحس وإنضاج الفكر فمقهى بروكوب Procope بباريس كان ملتقى الأدباء وفلاسفة الانوار ومنها انطلقت شرارة الثورة الفرنسية ومقهى مونبارماس Mont Parmasse كان ملتقى الرسامين، أما مقهى كلوني Cluny فقد كان يجتمع فيه المعارضون السياسيون، وكتب نجيب محفوظ ثرثرة في مقهى كلوني بعدما كتب ثرثرة فوق النيل وثرثرة فوق دجلة.

سألته بسمة: من أين لك بهذه المعلومات القيمة؟

أجابها قائلا: أنا مجاز في التاريخ، وهذه معلومات قليلة مازالت راسخة في ذهني.

أكملت بسمة الحديث عن المقهى قائلة:

 وفي بلادنا يجتمع الناس في المقاهي لتبادل الأخبار والأحاديث ونهش أعراض الناس ونبش اسرارهم، فهم يرتادونها بغرض التسلية وتمضية الوقت، كأن الوقت لا قيمة له. قاطعها السائق قائلا: “وبعض المقاهي ملاذ للعاطلين للعب الورق وتدخين وترويج المخدرات، بالأمس وقعت جريمة قتل في احدى المقاهي بعد شجار بين شابين”.

تابعت سيارة الأجرة طريقها ومن خلال الضباب الكثيف، لمحت بسمة مشردا نائما في باب عمارة ملتفا بأغطية بالية.  موسيقى جميلة تنبعث من الراديو ويصدح صوت أم كلثوم:

أين مني مجلس أنت به؟ فتنة تمت سناء وسنى

تفر الدموع من عيني بسمة فور سماعها للمقطع المؤثر من قصيدة الأطلال.

أين نحن من مجالس الأهل والأصحاب؟ أين نحن من ود الأحباب؟ فالأيام بعثرتنا وتفرقت بنا سبل الحياة هناك من غادر بلدته وهناك من غادر وطنه وهناك من غادر الدنيا الى دار البقاء.

أخرجها صوت السائق من تأملاتها: تفضلي سيدتي، يومك سعيد. ناولته ورقة نقدية وترجلت من السيارة.

أخرج رأسه من النافذة قائلا: انتظري لأرجع لك نقودك،

أجابته: انه ثمن افطارك في المقهى الجديد.

دخلت بسمة الى الوكالة البنكية، ألقت التحية على الجميع وهي لا زالت تستمتع بقصيدة الأطلال 

وإذا ما التأم جرح   جد بالتذكار جرح 

فتعلم كيف تنسى   وتعلم كيف تمحو 

تعلم كيف تنسى، تعلم كيف تمحو، تعلم كيف تسامح وكيف تتغافل ان أردت أن تعيش سعيدا..

أخذت بسمة مكانها خلف مكتبها لبداية يوم عمل جديد، شغلت الحاسوب وقالت لنفسها: حي على العمل.

القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com