مساحة ليل…
شميسة غربي
قاصة جزائرية
/ سيدي بلعباس / الجزائر
جلستْ على كرسِّيها العتيق أماَم آلةِ الخياطة؛ وبيْن يديْها قطعَة ثوْب نادر.. لم يسْبِقْ لها أن صادفتْ نوْعِيتهُ طيلة سنواتِ اشْتغالها بحِرْفة الخِياطة. راحتْ أناملها – بِبُطء- تتحسّسُ الثوب… تفْرِشُهُ، تقْلِبُه، تتفحّصُ خيوطه، تارة تجمعه كله بين راحتيْها، وتارة تُرْسِله؛ وكأنّها تتحقّقُ من جودته بعدم انكماشه… تمتمتْ بكلمات لعلّها: سأصنع منه رداء… تُحْفة….
قامت إلى الطاولة المستطيلة المركونة في زاوية الغرفة، بسطت الثوب فوقها، تأمّلتْه… ثمّ تركت المقصّ يشتغل ِبتوْجيهٍ من أناملها الرقيقة. عَملُ الخِياطة، كان هِوايَة لديْها؛ قبل أن يُصْبح حرفة.. تجد رَاحَتها بين الإبْرة والخيط، وضجيج الآلة وألوان الأثوَاب وتكوُّماتها، وأنواع الأزْرَار.. إنّها التشكيلة الأخرى لعالمها الخاص بين أرْكانِ غُرْفةٍ شهِدتْ تاريخ حياةِ “زُليْخا” منذ قدِمَتْ عَرُوساً في زمنٍ ولّى، ولم يبق منه سوى الظّلالِ المُكتئباتِ في سلسلةٍ من الِاكْتئاباتِ…
حين ينكسر الوجدان على صخرةٍ منْ صقيع، يتشتّتُ العُمْر على ِبساطِ ذرّاتٍ تائِهاتٍ بيْن رذاذ المطر، وسُحُبٍ عالقاتٍ على رُقعَةِ الرّوح الُمنْدسّة داخل جَسدٍ؛ أنْهَكتْهُ الأسْقام، وقتَ أنِ ابتسمتْ له الأحْلام…! هي المفارقة الفاصلة بين الإلغاء والِاستحقاق…
للمطر والشمس؛ تعويذة عجيبة.. تُنَقّي ندوب الذات، وتنتشلها من أتون لهيبٍ مستعر.. أضرمه الوجع والقلق تحْتَ سَقْفِ المُوَاجَهات.. شِئْنا؛ أمْ أَبيْنا… نحْن غرَباء في هَذه الدُّنيا، مسافرون من محطة إلى أختها.. زادُنا؛ ثوبٌ يستر الجسد، وجرعة ماء تُبَلّل العروق.. وربّما؛ ريْحانُ “كلمة” ُينْعش الرُّوح، ينْتشِلُها ِمنْ وقْعِ الإغْماء حين يُصْبِحُ الإغْماء أحَدَ المحطّات السّالبة لِلقُدُرَات…هو مِهادُ الِانْسِحاب من مُشاكسة الكوْنِ بِوَاسِع تجَلّياتِه… تتذكّر “زليخا” تلك الإغماءات المتكرّرة التي اعترضتْ سبيل تكملة مشوارِها الدّراسي… تَهُزُّ رأسها وهي تنظر إلى عُلب الدواء المرصوصة فوق الرّف، تعود لتخفض عينيْها؛ فتنزل الرُّمُوش مُبلّلة… تنهض، تأخذُ مِنْديلَ ” الذكرى “…
قصة هذا المنديل؛ تعود إلى أحد أعياد ميلاد زوْجِها، بعد كل هذه السنوات ما تزال تحتفظ به.. وكأنها تشمُّ رائحة الزَّمن الجميل من بيْن خيُوطِه الرّفيعة… هي مَنْ طرّزتْهُ بِكُلِّ شغفِها، بكلِّ فرحها، بعظيم شوقها إلى تخليد اللحظة… أخذهُ مِنْهَا في جوٍّ بهيج، قبّلهُ، وقبّلَ رأسها، ثمّ جلس بيْنها وبيْن طِفْليْهِ، وحولهم مائدة مزركشة بالحلويات والمكسّرات والمشروبات، تُظلّلُهُمْ سعادة كبيرة؛ في بحر يومٍ؛ لن يتكرّر…! وَضَعَتِ المنْديلَ على خدِّها بعْدَ أنْ مَرّرَتْهُ على عينيْها وغاصت في مِلفّ ذكرياتها، ليمتلئ المكانُ مِنْ حوْلِها بأوْراقٍ مُتناثراتٍ مِنْ شجَر خَرِيفٍ أسْوَد… تلُفُّ فيه عُمْراً مِنْ جِراح…
حضَرَتْها صُورَةُ “رشيد”… توالتِ الزَّفرَات… تسارعتْ دقّاتُ قلبها، أغمضتْ عينيْها، عضّتْ على شفتيْها، وهي تستشعر وَجَعاً يَقُدُّ أضْلُعَها… يُطوّحُ بها في متاهات كوْنٍ ضبابي؛ تتسلّلُ منه أنّاتُ رَجُلٍ صَرِيع… كان “رشيد” سائق سيارة أجرة، يعْملُ بِنِظام التنقّلات ما بين المدن… قضى في هذه المِهنة ما يُقارِبُ العشر سنوات، يغادر بيته في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر مباشرة، وقد يعود مع منتصف الليل أو في صباح الغد. مُنْهَكاً، ُيفضّلُ قضاء بقية اليوم بيْنَ أحضان عائلته الصغيرة… يسأل عن حاجيات البيت، يقرأ بعض الجرائد، يتفقّدُ أقْفالَ الباب الخارجي الكبير والشرْفة والنّوَافِذ، وكلّ ما يضْمَنُ أمْنَ العائلة وسلامتها عنْدَ غيابه… يُخصّص سويعات من كل أسبوع؛ لزيارة إخوته وعمّاته، ويقف على قبْرَيْ والديْه؛ كلما سنحتْ لهُ الفُرْصَة. يشهد له الجيران بِالطِّيبة والعِشرَة الحسَنة.. كان لا يرُدُّ مُحْتاجاً، ولا يتباطأ في تقديم المساعدة مَهْمَا كان الظرْف؛ حتى باتت الأغلبية من سكان الجوار، تنْتظرُ عوْدته، لقضاءِ المآرب ( زيارة مريض أو نقله إلى المستشفى… الذهاب إلى السّوق الكبير… المُعايَدة… وغير هذا كثير من شؤون الناس وحيواتهم…)
سُمُومُ الطريق..
خرج “رشيد” كعادته إلى محطة سيارات الأجرة، ينتظر دوره… بعد حواليْ ساعة تقريباً؛ غادر المكان؛ برفْقةِ المُتنقّلين إلى إحْدى مُدُن الوَسَط.. أربعة زبائن من فئات مختلفة؛ مُعَلّمٌ متقاعد، طالبُ طبّ، صحفي شابٌّ حديث التَّخرّج، عاملٌ بِمصْنَعِ مُعَلّبات.. ذاكَ ما فهِمَهُ “رشيد” مِنْ مجْموعِ الأحاديث التي تبَادَلها الرُّكّاب وكأنّهُمْ يسْتأنِسُونَ بِعَرْض الحَال ويسْتحْضِرونَ حكايات؛ تُخفِّفُ مَللَ المسافة…كانت السيارة قد قطعتْ كيلومترات مُعْتبَرة قبل أن تضطرّ للتوقف… شِجارٌ غريبٌ في عَرْض الطريق، رَجُلان يجُرّان امرأة وقد تمزقتْ ثيابها وسال دمها.. وثلاثة رجال يحاولون إنقاذ المرأة؛ يُلاحقون الرّجُليْن بِالعِصِيّ والحِجارَة؛ توقّفَ صُراخ المرأة وكأنّها دخلتْ في غيْبوبَة… خرَج “رشيد” من السّيّارة ومَعهُ الزبائن، حاولوا أن يتبيّنوا الأمر؛ نصَحهُم المُعلِّمُ المُتقاعِد بِالِاتّصال بِالشرْطة أوِ الدّرك. تكلّفَ طالبُ الطبّ بالِاتصال… بعد وقت قصير؛ طوّق الشرطة المكان، اسْتسْلم أحدُ الرّجُليْن؛ بينما هرَب الثاني؛ رَغْم إصابتهِ بِطلْقٍ في ساقِه…
عاد رشيد ومن معه إلى السّيارة، بينما حُملت المرأة في سيارة إسعاف، وركب الثلاثة رجال إحدى سيارات الشرطة؛ بأمْرٍ ِمنْ رَئيسِ الشرْطة. كان هذا الحدث؛ فرصة ذهبية للصحفي الشابّ؛ الذي سارع إلى تقديم بطاقته المهنية للأمن؛ حتى يسمحوا له بالتصوير وبالتقاط المعلومات الأوّلية… الموضوعُ دَسِم… المرأة مُتّهَمة بأخذ المُخدّرات المُخبّأة في البيت العائلي، لم تكن تعلم أن زوجها أحد أفراد العصابة. كانت تُدْلي بكلماتٍ ُمتقطّعَة حين أسعفتْها الشرطة. الرجال الثلاثة إخوتها، كانوا قد قدموا عندها؛ يسألونها عن أخبار زوجها الغائب منذ أسبوع… صادفوا المشهد؛ صدمتهم الحكاية…
حرّرَ الصحفي رؤوس أقلام على كنّاشته، وبدأ باتصالاته الهاتفية.. السيارة تُتابِعُ سيْرَها، الزبائنُ يُعلّقون ويتكهّنون… “رشيد” يكْتفي بالتَّأفّف.. ُيحاوِلُ التّرْكيز؛ فالمُنْعرَجَاتُ مُتوَالية والطرِيقُ مُهْترئة، وقدْ ضاع من الوقت ما يجب تدارُكُه… خمّن “رشيد”: سأخْتصرُ الطريق بالمُرُور من الجهة المُحاذِية لغابة الصنوبر… وَافق الجميع، ما عدا العامل في مصْنَع المُعلّبات… أبْدَى امْتِعاضَه في البداية، ولكنّهُ لمْ يلبثْ أنْ ترَك الحُرِّية لِلسّائق.
يتذكر “حميد” العامِل؛ ما حصل في هذا الطريق منْذ ثلاثة أشهر… الذكرى تُنغِّص عليْه اللحظة… يُغْمض عينيْه وكأنه يهْرُبُ مِنْ مُلاحقة مشْهدٍ قديم… المشهد يُلحّ… الصورة تنْبسِط داخلَ عيْنيْه المُغْمَضتيْن.. يضعُ يديْهِ فوْقَ رَأسه، يُريدُ أن ُيزيحَ ثِقلاً.. أنْ يتخلّصَ مِنْ كوابيس تضجُّ في عقله الباطن… لكن؛ لا فكاك… مادامَ الطّريق نفسه..!
كانت الشاحنة المملوءة بالمُعَلّبات؛ تسير ببطء شديد؛ بسبب الكثافة الضبابية التي غطت المنطقة. “حميد” إلى جانب السائق “جلال” يتحدّثان عن سُوءِ الرُّؤية وعن هذا الوزن الزائد الذي تحْمِلهُ الشّاحِنَة، بسبَبِ تعَنُّتِ صاحبِ المصْنَع، الذي لا يهُمّهُ سِوى الرِّبْح السّريع… كمْ نبّههُ العمّال إلى ضرورة إضافة شاحنةٍ أخرى؛ تكون مُساعِدة على تخْفيف الحُمولة، غير أنه كان يلجأ دائماً إلى التّسويف بحُجة صِغَر المصْنع…! “حميد” و”جلال” يجِدانِ نفسيْهِما أمام طريق مقطوعٍ بالحجارة الضّخْمة وبالمتارِيس… ينْزِلانِ من الشاحنة، تعْقِدُ لِسَانيْهِما الدّهْشة… وقبل أن يستطيعا التفكير؛ تخرج جماعة من الُملثمين، تُحِيط بالشّاحنة. وَعِيدٌ وتهْدِيدٌ بالأسْلحة البيْضاء؛ أفْضَيا إلى الإذْعان… رُبِط السّائِق ورفيقه إلى جذع شجرة، في الوقت الذي قفز أحدُهُمْ إلى الشاحنة وساقها في اتِّجاهِ الضّوْء المُنْبعِث ِمنْ جِهة مُعيَّنة داخِلَ الغابة. تبادَلا النّظرَات في انتظارِ المَصِير… بعد لحظات ُيبْصِرُ “حميد” طابوراً من المُلثّمين يصْطفّون بين يديْ مُسَيِّرِهِمْ في انتظار التوْجِيهات المُوَالية… يهْمِسُ لِرَفيقه في هلع: ” يا ربّ، يتركوننا وشأننا…” ينْتِبهُ أحدُ المُلَثِّمِين إلى المرْبُوطيْن، يتقدّمُ مِنْهُما بضْع خطوات، يسأل في عنْجهية ومَكْرٍ بَادِيَيْنِ: ” نوعُ الميْتة التي تُفَضِّلانِها؟ الشنق؟ الذبح؟ رصاصة؟ كلُّ المرْغُوب؛ مُتوَفِّر..”! لم يكن بالإمكان حتى رفع البصر نحو هذا المتسلّط… كانت اقتراحات سبُلِ الموت فوق كل صورة؛ يستقيمُ معها الِاسْتِجْداء… أشار المُسيِّر إلى ضرورة الِانْسِحاب الجَمَاعِي نحْوَ الوِجْهَة الأخْرى، وأمَرَ بِترْكِ الرَّجُليْنِ للحظّ…. ابتعد المتسلّط وهو يرْفِسُهُما ِبرِجْليْه…
يظلّانِ في غيبوبة عدم التّصْديق؛ حتى تكونَ النّجاةُ على يَدِ عجُوزٍ حَطّاب يعْتلي ظهْرَ حِمارِه الواهن.
يشْعُرُ ” سِي مَعْطِي” المُعَلِّم المُتقاعِد بِالِاخْتِضَاضِ في معِدتِه؛ يطلبُ منَ السّائق التّوَقُّف، يسْتفيق “حميد” من كوابيسه… ينزل مع بقية الزبائن لِلاِعْتناء بالمُعَلّم الشّاحِب اللوْن…
أوْرَاق… قُرْمُزِية..
وهم يتعاونون على فتْح أزْرَار مِعْطف الموْعُوك؛ وتمْديدِه على العُشْب الكثيف بجانب الطريق، تُطِلُّ حفْنة ورَق من الجيْب الوَاسِع لِمعْطفِ “سي معطي”، يُبادِرُ “رشيد” إلى إخْرَاجها بِنِيَّةِ طيِّها وإعَادتِها إلى الجيْب… بحركة بطيئة، يرفع المُعَلم إحْدى يديْه، يضعُها على الجيْب وكأنّهُ يَطمئِنّ على عوْدة الأوْرَاق إلى مَخْبئِها…وبصَوْتٍ ضعيف؛ يطلبُ إعادته إلى السيارة؛ بعد أن تقيّأ ما في جوْفه…. غسلوا وجْهَه، بلّلوا يدَيْه، بدأ ينْتعِش، ألْقى برَأْسه على الكُرْسِي وأخذتْه سِنَةٌ مِنَ النّوْم، رفرفتْ بِرُوحِه في محَطاتٍ بعيدة… يُطِلُّ ِمنْ نافِذة الذّكرى، تتزاحمُ الصُّور في مُخيّلته: ها هو أمام السّبّورة السّوْداء الكبيرة؛ وقد امتلأت بالحروف والكلمات … وبين يديْه أحدُ التلاميذ؛ ُيقدِّمُ حلّ تمارين الإعْراب، بيْنَما تِلميذة على الجهة اليسرى من السبورة؛ – وربْحاً للوقت – تشْتغِلُ على جدْول الإعْلالِ والإبْدال في شكل إجابة نموذجية تخصُّ تصْحيح الِامْتحان الأوّل مِنْ تلك السّنة…المُعلم يمُرُّ بيْن الصُّفوف… يُرَاقبُ مُتابعَة التلاميذ لِعَمَلِيتَيْ التّصْحيح. ضجّة كبيرة؛ بيْنَ مجموعةِ تلاميذ آخرين في ملعب المدرسة؛ كانوا في حصّة الرياضة البدنية؛ عندما تناهى إلى أسْماعِهم صوْت جلبة غير عادية، تسارعوا إلى ناحيةِ المخْزَن حيث الجلبة… أحد التلاميذ؛ مَرْمِيّ على الأرْض وجُرُوحٌ غيّبَتْ ملامِحَ وَجْهه…سيتّضِحُ فيما بعْد؛ أن ثُلّة منَ التلاميذ المُنْحَرِفين، كانوا وراء هذه الحادثة وأنّ أحدَ زُمَلائِهم؛ كشَفَهُمْ وهمْ يتعاطوْن السُّمومَ المعْرُوفَة وهدّد بِالإبْلاغِ عنْهُمْ… يتحسّسُ “يوسف” طالب الطبّ؛ جبينَ “سي معطي”؛ لِلِاطْمِئْنانِ عليْه، حرَكة نافعة؛ جعلت المُعلّم يصْحو لِلحْظة، ينْظرُ بِامْتنانٍ إلى هذا الطالب الذي فتح بابَ ذكرياتٍ أخْرى… يستخرج “سي معطي” الأوْراق القُرْمُزِية، يتأمّلها، بيدٍ مُرْتجِفة؛ يُدْنيها مِنْ فِيهِ الذي اعْتلاهُ شارب خالط رماده سواده؛ يُقَبِّل الأوراق ويُعيدُها إلى جيْب مِعْطفه، وقد سرحتْ عيناهُ في فضاءٍ لا يراهُ إلّا هو…! افترت شفتاهُ عنِ ابْتِسامةٍ عجيبة وهو يدخل قاعة الدرس التي تحولتْ إلى ما يُشْبهُ قاعة احْتِفالات….! لقد فكّر تلاميذه في تكْريمه؛ بعد أنِ اسْتأذنوا مدير المدرسة، وساعدهم المعلّمون الجُدُد؛ فقاموا بالتجهيزات طِوال الأسْبوع في سِرِّية تامّة… كان يوْماً جَميلاً، مَهيباً، بارَكتْهُ اللحظة ودوّنتْهُ أقلام الحبّ الكبير على أوْراقٍ طفولية، صنعتْها العُقول النّظيفة… زُيّنتِ القاعة بخيوطٍ ذهبية اللون، تتدلّى من السقف، وتغطّت الجُدران بمساحاتٍ ورقية مُخْتلفةِ الألوَان، تناثرتْ عليها كنوزٌ مِنَ الحِكَم التي كان “سي معطي” يفتتح بها دروسه كل صباح… دوّنَها التّلامِيذ بِخُطوطٍ رائِعة، بحُروفٍ مُفَخَّمة، وتفنّنوا في توْزِيعِها على الألوان الزاهيات… تقدّمَ التلميذ “نوري” وهو أحد النوابغ؛ المشهور في المدرسة بالفوْز في كلِّ المُسابَقات الأدَبِية التي كانتْ تشارِكُ منْ خلالها هذه المُؤسّسة مع المؤسّسات التّرْبوية الأخْرى عنْدَ نِهايَة الموْسِم الدِّرَاسِي. “نوري” الأديب الصاعد؛ يُلْقي “مقامة” كان قد حفظها خِصّيصاً لهذه المُناسِبة. أدّاها بمُكْنة مُذهلة ومهارة فائقة؛ انْتزَع معَها تصْفيقات الحَاضِرين.. بعد بضعِ كلمات تناوب عليْها بعض التلاميذ احتفاءً بمُعَلّمهم، تقدّم “نوري” مرّة أخرى بين يديْ مُعلّمه؛ ولكن هذه المرّة؛ ليُقدّم له هدية رمزيةً؛ صنعها بمساعدة أحد أصدقائه… كانت عبارة عن طرْبوشٍ من الورق المُقَوّى، قرْمُزِي اللوْن، تفنّنَتْ ذِهْنِية “البراءة” في تشْكيلهِ وتزْييِنِهِ رغم بساطة مادّته…! وقف “نوري” على أصابع رِجليْه حتى يصل إلى رأس المُعَلِّم الذي ما لبث أنِ انْحَنى وكلماتُ الشُّكْر تتسابق على شفتيْه.. ثبّتَ الصَّبِيُّ الطرْبوشَ على رأس “سي معطي”، سلبتْهُ الدّهشة، حين همس “نوري” في أذنِ مُعلّمِه: ” تستطيع حَمْلهُ في جيْب بِدْلتِك؛ عِنْدمَا تفكُّ الأوْرَاق؛ سَتَجدُهَا مُرصّعة بأبْياتٍ شِعْرية أحْبَبْناهَا لِأنّكَ أحْبَبْتَها…!”
يعتدل “سي معطي” بعد أن كان مائلاً بعض الشيء على كتف “يوسف”.. يُخرج الأوراق، يبسطها فوق رُكْبَتيْه، يُبْرِقُ وجْهُهُ وكأنّهُ يعيشُ لقاءً خَاصّاً… يتفقّدُ نظّارَتيْه، يُثبّتُهما على عينيْه، ويدخل واحة الشعر وقد فاض به الحنين إلى كلّ شيء… يقرأ بصوتٍ مسموع تارةً وكأنّهُ في قاعة الدرس:
وَلَائمةٍ لامتْكَ يا فضلُ في النّدى*** فقلتُ لها هلْ أثّرَ اللوْمُ في البحْر؟
أتنْهَيْنَ؛ فضْلاً عنْ عطاياهُ لِلْوَرَى*** ومَنْ ذا الّذي يَنْهَى الغَمَامَ عنِ القطْر؟
وبنفس النبرة ويداه ترتجفان؛ يقرأ:
(وظلم ذوي القرْبى) بلادي حملتها*** على كتفي شمْساً، وفي الرُّوحِ مَوْقِدي
إذا جفّ ماءُ القطر؛ أسْقيْتُ غرْسَها*** بدمْعي، ووَجّهتُ الزِّمامَ لِتهْتَــــــــدِي
وتارة يخْفتُ الصّوْت، بالكاد يسْمعُه حتّى “يوسف” -الذي بِجَانبِه- وهو مُنْتشٍ يُرَدّد:
أيا منازِلَ سلمى؛ أيْنَ سلْماكِ*** منْ أجلِ هذا، بَكيْناهَا بَكيْنـَـــاكِ
ينتقل إلى ورقة أخرى فيقرَأ:
خليليّ في بغدادَ؛ هلْ أنتما لِيّـا*** على العَهْد مثْلي، أمْ غَدا العهْدُ بَالِيَـا ؟
وهلْ أنا مذْكورٌ بخيْرٍ لَدَيْكُما*** إذا مَا جرَى ذِكْرٌ لِمَنْ كانَ نائِيــــــا!
كتابيَ عنْ شوْقٍ شديدٍ إليْكُمـا*** كأنَّ على الأحْشاءِ منْه مَكاوِيَـــــــــــا
فلا تيْأسا؛ أنْ يجْمعَ اللهُ بيْنَنــا*** كأحْسنِ ما كُنّــا عليْهِ تصَافِيـــــــــــا
فقدْ يجْمع اللهُ الشِّتيتيْنِ بعْدَما*** يظنّانِ كلَّ الظنِّ؛ أنْ لا تَلاقِيَــــــــــــا
وكمْ قائلٍ:« لوْ كان ودّكَ صادقاً*** لِبغدادَ؛ لم ترْحلْ» وكان جوابيا:
يُقيمُ الرِّجالُ المُوسِرونَ بأرْضِهــمْ*** وترْمي بالمُقتِرينَ المرَامِيــــــا!
يتجدّد نشاطه، تكسو ملامحَهُ مِسْحة انشراح وهو يُقلّب بقية الأوْرَاقَ القرْمزية، تسقط عيناه على أبياتٍ طالما ردّدها مع “نوري” التلميذ النابغة وهو يقوم بتقْطِيعِها عَرُوضِياً على اللوْحِ الأسود الكبير؛وقد زركشتْه رموز التقطيع: /0 /0 /0 /0 /0:
أقولُ لها، والعيِسُ تُحْدَجُ للِسُّرى*** أعِدّي لفقْدي؛ ما استطعْتِ من الصّبْرِ
سأُنْفِقُ ريْعانَ الشّبيبَـــــةِ آنِفــاً*** على طلب العلْياءِ أوْ طلبِ الأجْــــــــــرِ
أليْسَ من الخُسْران؛ أنَّ ليَالياً*** تمُرُّ بلا نفْعٍ؛ وتُحْسَبُ منْ عُمْـــــــــــري!
بِأرْيَحِيَةٍ باديَة؛ يطْوي الأوْرَاق، يُعيدُهَا إلى جَيْبه، تظلُّ معه صورة “نوري” طوال الطريق المُتبقّي.. كم كان هذا التلميذ مفْتوناً بالأدَب..! توَسّمَ فيه كلُّ مَنْ درّسَهُ العبْقرِية الفذّة.. وفعْلاً أتمّ الصّغيرُ تعليمه – حسب ما وصل ِمنْ أخبارٍ إلى مسامعِ “سي معطي” – إلا أنّ الحياة بِمُفاجَآتها؛ زَحْزَحَتْهُ عن المسار الذي عَشِقَه. اضطرّ إلى أنْ يُوَاِصلَ حِرْفة والِدِه: التِّجارة. فبعْدَ أن توُفِّيَ الوالد؛ لم يكن منَ المنْطقي؛ التفريط في رِزْق العائلة المُتعدّدة الأفراد. شيء واحد أثلج صدر “سي معطي” هو أنّ “نوري” الذي أصْبحَ شابّاً؛ بدأ يكتبُ وينْشرُ مَادّتهُ كَهَاوٍ؛ في مجَلاتٍ مُتنوّعة ولهُ مِنَ القُرّاءِ نِسْبَة حَسَنة…
السيارة تسير… “رشيد” يسوق، يسْتشْعرُ وخْزاً خفيفاً يتسلّلُ إلى رُكْبتيْه، يُطمْئنُ نفسه؛ فقد بدأت مشارِفُ المحَطة الأخِيرَة تظهر من خلال الضوء البعيد. غير أنّ اطمئنانه لم يلبث أن تزعزع حين أبصر شخصاً يُلوِّحُ بمنْديلٍ وسط الطريق بينما سيارة كبيرة مركونة على الجانب الأيمن؛ يصْعُبُ تبيُّنُ ما بِداِخلها… وقبل أن يستشير “رشيد” الرّاكبين حول جدْوى التوقف أو عدمه؛ بادر “بلال” بِفُضولهِ الصّحَفي إلى اقتراح التوقف؛ فلربّما يكونُ المُلوِّحُ في حاجة إلى مُساعدة، رُبّما يكون معه أطفالٌ ونساءٌ في تلك السّيارة… مَنْ يدري..؟
نزلوا جميعاً ما عدا “سي معطي”. فهِمُوا أنّ الرّجلَ الُملوِّح أبْكَم؛ أو هكذا خُيِّلَ إليهم..! دقائقُ معدودات ويخرُجُ مِنْ وراء السيارة الكبيرة؛ نفرٌ مِنْ أشْبَاحِ الليْل… يشْهَقُ “حميد” شهقةً تُفْزِعُ مَنْ معَه..! صوْتٌ يأمُرُ ِبرَفْع الأيْدي فوْق الرُّؤوس، ثُمَّ القرْفصاء..! يتّجهُ أحَدُهُمْ إلى المرْكبة؛ يُخْرِج المُعَلّم “سي معطي” إلى العَراء.. سيْلٌ من الِاسْتِفْسَارات تتلاحَقُ بِصَوْتٍ آخر؛ غرِيبِ اللّكْنة… يتجمّعونَ حوْل المرْكبة، يتفحّصون داخلها، وهم كذلك؛ يُغافلُهم الصحفي “بلال”، يستخرج هاتفه من جيبه، يكتب رسالة للنجدة… غير أن أحدَهمْ – وبالمصادفة – يسْتديرُ فيُلاحِظ حرَكة “بلال”….!
حين يسيلُ اللُّعَاب..
يعودون إلى جماعة القرفصاء، يتحلّقون حولَهمْ، يُدَقّقون النظر في الهيئات… يتقدّم أحدهمْ؛ يجرُّ “بلال” مِنْ أحَدِ كتفيْه…يرمقه بنظرة غير مفهومة المعنى… يفْتَكُّ هاتِفَه، يقْرَأ الرِّسَالة، يسيلُ لُعَابُه.. يبْصق على وجْهِ “بلال”، وفي رمْشة عيْن؛ يقطع السّيْفُ الرَّأسَ على مرْأى من البقية…! لمْ يعُدْ بالإمكان؛ سوى التفويض… أجْهَش طالبُ الطبّ “يوسف” بالبكاء وتذكّر حِصَصَهُ التدْريبية في المُسْتشْفى؛ حين كان يُرخَّصُ له بحُضور بعْض العمليات الجرَاحية.. كم كان الجميع داخل غرْفة العمليات؛ يتسارعون من أجْل إنقاذِ حياة إنسان…! المُعادَلة خاطئة في هذا المكان…! كلُّ الحِساباتِ مقْلوَبة في عُرْفِ مَنْ لا إنْسانيَةَ له…! أصبح الموت أسهل من الحياة…! غاص “يوسف” في المقارنة بين المُعادَلَتيْن، بينما بدأ المُعْتَدون يُهرْوِلونَ للمُغادرة؛ وهم يجُرّون معهم السائق “رشيد” وَسَاقِيةٌ من دمِ “بلال” تسِيحُ بيْنَ الأرْجُل.. بعد إشاراتٍ غامضة بيْنَهُمْ غيَّروا رَأيَهُمْ؛ فضرب وَاحِدٌ مِنْهُم “رشيد” على رأسه ثمّ انصرفوا في موْكبهمْ وكأنّهُمْ يحْتفلون بمُتْعَةِ التّوحّش…ِ!
دقائق العمر، تختلط بدقائق اللحْظة الرّهيبة، منظر الرأس المرمي…منظر السائق وقد استفاق من الضربة وبدأ يزحف على رُكبتيْه؛ فتَخُوناهُ… فيَقبعُ في مكانه، لا يدري هل يُصدّق أنهم تركوه، أم أنه يعيش جحيم الوسواس.. “سي معطي” تشرّبَتْه الصُّفرة ووقف شعر حَاجِبيْه وفقدَ القُدْرة على الكلام، فبدأ يلوّحُ بِيَديْه في ُكلِّ الِاتّجَاهات… “حميد” طوّحتْ به هسْتِيريَا فظيعة، فصارَ يتمرّغُ وسط التراب المُخْتلط بالدّم، ويُتَمْتِمُ بكلماتٍ لا يفْهَمُها إلاّ هُو…!
أجْنِحَة الحياة…
ثلاثتُهُم؛ “يوسف”، “حميد” “سي معطي”، يستفيقون تحت أضواء كاشفة، في غرفةٍ بيضاء؛ وقد تحلّق مِنْ حَوْلهم جمْعٌ من ملائكة الأرْض…أطّباء ومُمَرِّضون؛ يتهامسون، يَبْتسِمُون.. يسمع “نوري” بالحادثة عن طريق وسائل الإعلام؛ فيُسارع إلى زيارة مُعَلّمه في المستشفى؛ مُصْطحِباً معه مُساعِدَهُ الشابّ “ميمون”.. تختلط الدهشة بالبهجة في مشاعر”سي معطي” وهو يرى تلميذه القديم بين يديْه…يُكْبِرُ فيه هذا الإخلاص، يتحسّس صدره بحثاً عن أوراقه القرمزية، لا يجد شيئاً… يتذكّر أنه في المستشفى وأنّهُمْ غيَّروا مَلابِسَهُ، ينْحني “نوري” يسْتفْسرُ مُعلّمَه؛ إن كان يُريدُ شيْئاً.. يتنهّدُ “سي معطي” وهو يُمْسك بيَد تلميذه النابغة، يُباغِتُه: “لماذا تركت الدّراسة يا بُنيّ..!” ثمّ يستدرك: ” أما زِلتَ من عُشّاقِ الأدب؟” يتدخّلُ “ميمون” بطريقة لطيفة ويقول: “إطمَئِنْ يا سيّدي؛ تلميذُكَ لم يقطعْ علاقته بالشِّعْر… أراهُ يقرأ في قُصاصاتٍ بين الفينة والأخرى، وأسْمَعُه يتغَنّى بِكلامٍ جَمِيل، وعندما أسأله عن صاحب الكلام؛ يُجيبُني بِحُرْقة بادية: “مات صاحبُ الكلام وبقي الكلام….!” نظر “نوري” إلى مُساعدِهِ “ميمون”، فهِمَ الشابّ…. وصمت….
أمّا “رشيد” فقد وُضِع في غرفة خاصة، بعد أن خضع لعملية جراحية على ُمسْتوى الرأس… سيظلّ الثلاثة في المستشفى لمدّة شهر تقريباً؛ مِنْ عِلاجٍ نفسي إلى آخرَ عُضْوِي، ماعدا “رشيد” الذي سيطول مُكوثه بالمُسْتشْفى. بيْنَ غيْبُوبة وصَحْوٍ، تمرّ ثمانية أشهر و”زليخا” تجوبُ أرْوِقة المُسْتشفى، تدعو الله النجاةَ لزوْجِها.. بيْنما أوْدَعَتْ طِفْليْها لدى إحْدَى قرِيبَاتها.. ذات صباح؛ تخرج “زليخا” لِاقْتِناءِ دوَاءٍ غْير مُتوَفِّرٍ في المُسْتشفى؛ تعود متأخّرة بسبب البحث والتنقّل بين أغلب صيدليات المدينة؛ تُفاجَأُ بجمْعٍ من الأطباء مُتَحَلّقين حول المريض.. ترمي كيس الدواء، تقتحم الحلقة، تنظر إلى “رشيد”؛ وكأنه كان ينتظر عودتَها… يمدُّ يداً مرتعشة نحوها، يئنُّ أنّتَهُ الأخيرة… يحمل الممرضون الزوجة المنهارة إلى سرير جانبي؛ يعملون على إسعافها…
عودة بنِصْفِ رُوح…
تمرُّ الأيام بطيئة، ثقيلة، موجِعة، في زمن الموت والحاجَة والصقيع…. يكبر الطفلان، تزداد مصاريفهما، يتكاثف عمل “زليخا”، الخياطة بالليل والنهار…يضعُفُ بصرها، لا تأبه… المُهمّ؛ أن تمنع أطفالها ذلّ السؤال… يتقدّم لخطبتها أحد الجيران بعد وفاة زوجته؛ ترفض بكل أدبٍ ولباقة، وتتابع المشوار…أصبح الطفلانِ شابّيْن، أحدهما يختار الحياة العسكرية؛ بينما الثاني يدخل عالم التجارة؛ برأس مالٍ بسيطٍ؛ يأخذه من توفير والدته، وسُلْفة من أحد أعمامه.. يتحسّنُ وضع العائلة الصغيرة شيئا فشيئا؛ ومع ذلك؛ تأبى “زليخا” التوقف عن مزاولة حرفتها. لا حياة لها خارج الخيوط والأزرار والقماش… تدفن نفسها بين جدران غرفتها، حتى إذا ما تعِبتْ؛ غادرتْ ماكنة الخياطة، إلى غرفة الجلوس، ترتاح على الكنبة، تمتطي صهوة الذاكرة وهي ترْتِشفُ كأس الشاي؛ في انتظار عودة “إبراهيم” من تجارته…
تمرُّ السنوات… يتزوّج إبراهيم، يُرزق بطفلة؛ تُغَيِّرُ نظامَ البيْت كله… تتوقف “زليخا” عن الخياطة، حتى تتمكن من الِاعْتناء بالطفلة؛ فوالدتُها عاملة في إحْدى المؤسّسات العُمومية؛ و”إبراهيم” مشغولٌ بتجارته؛ مُتحمّسٌ لتحقيق أحْلامه.. يُكافِحُ ليْل نهار؛ في سِباقٍ مع الأيام…تكبُرُ الطفلة شيئاً فشيئاً؛ تُصاب بحمّى شديدة؛ لا ينفع معها دواء…يختطفها الموت… ينهار الوالدان؛ أمّا “زليخا”؛ فتصبحُ هيكلاً عظميا متحرّكاً.. تعاف الأكل، تعزف عن الكلام، يهجرها النوم، تجمع ثياب الطفلة تارة في الخزانة الخشبية؛ وتارة تبسط الثياب على اللحاف وتغرق في مُناجاةٍ؛ لا تستفيق منها إلا بعد دخول ابنها عليها في أوقاتٍ متأخرة.. ضاع “قرنفل” البيت – كما كانت تسّميها جدّتُها – وأصبح البيت فارِغاً، بارِداً، صامِتا، وكأنّ الحياة تنسحب من جنباته رويْداً رويْدا…
يدفن “إبراهيم” نفسه في تجارته؛ بدأ يسافر إلى الأسواق الكبرى بنفسه؛ لم يعد؛ كما كان؛ ينتظر وُصول السّلع.. بل وجد في التّنقّل مرْهَماً يُسكّنُ أوْجاعه، ومُتنفّساً يُفرّجُ كرْبه. تتكرر سفرياته، تتسِعُ علاقاتُه، تكبُر تجارته، تتضايق زوجته من تتابع غياباته عن البيت… تحاول “زليخا” تهدئة الوضع، غير أن الزوجة؛ تغادر المنزل لتستقرّ عند عائلتها بعد أن أصيبتْ بانهيار عصبي مَرَدُّه تراكمات نفسية منذ فقْدِها لِطِفْلتِها… حاول “إبراهيم” إرجاعها إلى البيت كذا مرّة؛ إلا أنها تعنّتتْ؛ فلم يجِدْ بُدّاً من تركها وشأنها…
لا حال يدوم…ستتغير حياة “إبراهيم” بعد زواجه الثاني من أختِ أحد التجار… صديقه “عبد النور”، الذي ما فتئ أن هاجر إلى السعودية وكلّف صهره الجديد بأمور تجارته عن طريق وكالة رسمية؛ تخوِّلُ لإبراهيم التصرُّف التّام عند الضرورة. انتقل إبراهيم إلى سكنٍ جديد؛ نزولاً عند رغبة زوجته الثانية… في حين؛ لم تقبل والِدتُهُ “زليخا” ذلك؛ فبقيتْ في منزلها مع ذكرياتها، واستأنفت عمل الخياطة، لِمَلْءِ الفرَاغ…كان ابنها يزورها مع نهاية كل أسبوع؛ وقد يقضي الليل عندها مرفوقاً بزوجته، وطفلهما الذي وُلِد حديثاً.. تعتاد “زليخا” على هذا النظام الجديد لبِضعِ سنوات؛ ثمّ لا تلبث أنْ تُعْلن عنْ رغبتها الشديدة في زيارة بيت الله الحرام. تسْتعدُّ العائلة لمتطلبات هذه المناسبة العظيمة؛ ويبدأ “إبراهيم” في تجهيز وثائق والدته… شوق “زليخا” إلى رؤية الأماكن المقدّسة يزداد يوماً بعد يوم.. تتلهف لمعرفة تاريخ السفر… تسأل ابنها في كل حين؛ إلى أن لم يبق على المغادرة سوى يَوْمَيْن…يخرج إبراهيم في الصباح الباكر إلى أحد الاسواق الكبرى في البلدة المجاورة؛ يقتني كل لوازم والدته بعد أنْ أجرى متعلّقات تجارته. في المساء يعود في مركبته الخاصة ومعَهُ مُساعِدهُ الشابّ “نجيب”. يقصد بيت والدته، يقدم إليها ما اقتناهُ مِنْ أجْلها، ثم يتفق معها على صحبتها إلى منزله في الغد؛ حيث ينوي أن يقوم بوليمة؛ يحْضُرُها الأهْلُ والجِيران والمعارف لتوديع “زليخا”؛ كما هي العادة في مثل هذه المناسبة العظيمة..
كان عليه أن يذهب لِاستقدام أخيه من المطار؛ فـ: “خالد” العسكري؛ لم ير الأهل منذ ستة أشهر، ولما اعتزمت أمه الذهاب إلى الحجّ؛ قرر استغلال هذه المناسبة؛ للاجتماع مع عائلته؛ ومشاركتهم الفرحة.. ركب إبراهيم السيارة وقصد المطار؛ الذي يَبْعُدُ عن البلدة بحوالي 400 كلم… وهو يسوق؛ تحدّث بالهاتف مع زوجته؛ وطلبَ إعداد غرْفةٍ لأخيه القادم من أبعد ولاية في الجنوب…طمْأنتْهُ الزّوْجة وتمنّتْ لهُمَا طرِيقَ السَّلامَة…
التقيا… تعانقا… تحاكيا في استراحة زمنية جميلة في إحْدى المقاهي المملوءة بالعابرين… ركبا السيارة وراحا يتفكّهان بأحاديثِ الطفولة وقصص الشّغب التي عاشاها مع والدتيْهما وهي تكافح لِتصْنعَ مِنْهُما رِجَالاً بمعْنى الكلمة… وهما في قمة الانشراح؛ تُفاجِئُهما شاحنة يسوقها صاحبها بسرعة جنونية؛ يحاول إبراهيم الانحراف قليلاً بسيارته، لعله ينجو من الاصطدام… وكان الذي كان…
يفتح إبراهيم عينيْه في المستشفى؛ ليجد “زليخا” باكية عند رأسه… يسأل عن أخيه “خالد” تشير بأصبعها إلى الجهة الجانبية؛ يحاول إبراهيم أن يستدير ليرى موضع الإشارة.. غير أنه لا يستطيع… ينظر إلى أمه بهلع… تشيح بوجهها عنه… يدخل الطبيب وبيده صور الأشعّة وملفّ العملية، يُبشّرُ “زليخا” أن العملية نجحتْ… لكن؛ تظلُّ الرِّجْلَانِ عاطِلتيْنِ، حتى أجلٍ غيْرِ معْروف…يغرق “إبراهيم” في دمْعه، تنحبس الكلمات في حلقه، يضع إحدى يديْه على عيْنيْه وكأنه يهرب من مشهد صادم….!
تشعر زوجته باضطرابه في الفراش، تضع يدها على جبينه؛ إنه يسيل عرقاً… تهزّه برفق وهي تهمس بصوتٍ رقيق:” قُمْ… قُمْ… إنه وقت الفجر… ولم يبق إلا القليل على اصطحاب والدتك إلى المطار…. كلُّ شيء جاهز للرحلة…. أخوك “خالد” يتفقّد السيارة ويضع فيها أغراض والدتك.”..!
يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ وهو يتأمل رجليْهِ؛ يقف بصعوبة … يسير بخطواتٍ بطيئة وكأنه يتأكّدُ من صحّة جسده… ومِن.ْ.. شراسَةِ الكابوس الذي شوّش نوْمَه….! يسمع صوت أمّه وهي تبْحثُ عنْ مِسْبحَتها… يُهرْوِل إليْها، وقد غادر الكابوس ذاكرته، وحلّ محلّه لمعانُ حبّات المِسْبحة؛ فوق الطاولة الكبيرة إلى جانب نظارات “زليْخا”….
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة