عدنان أبوزيد
لا يزال تحويل التنظير الى تطبيق، إشكالية بنيوية لدى الكثير من الشعوب. وفي العراق يكتسب اعتبارية استثنائية بسبب الإخفاق الواضح في التنمية وإرساء التأسيسيات للتطور، واستفحال الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية.
الوصف للمجتمع العراقي بانه تنظيري، تأمّلي، صحيح، نتيجة الفشل في تجربة البناء المادي والمعنوي، ولو عاينت الفعاليات التنظيرية théorie، فانك تجدها في كل القطاعات، ولها من المنابر ما لا يُعدّ، فيما التطبيق خاو، وأجوف.
تكثر الاطاريح الجامعية الهائلة العدد في العراق، وأغلبها المطلق إِنْشاءات أَدَبيّة وخواطر، وهي لا تعدو كونها حبرا على ورق، وهو امر لم يحدث في أي بلد في العالم، حيث الافراد يتسابقون على ألقاب اكاديمية، لا تأثير لها على الإنتاج وتغيير الواقع.
تتضخّم أعداد الكتب المطبوعة في العراق، في مجالات الأدب والثقافة والعقائد، من دون ان تجد ما يدل على انها تحفر في الواقع، او حتى وجود قرّاء حقيقيين لها، فيما يقرض الكثير من افراد المجتمع، الشعر، لاسيما الشعبيّ منه، حتى يخال لك ان كل العراقيين، شعراء، وينطبق الامر على التحليل السياسي والاقتصادي، فيما تزداد اعداد الناشطين المدنيين، والسياسيين، وكل ذلك فضاء تنظيري، لا يُرصد له فعل مادي انتاجي على الأرض.
مقابل كل ذلك، تُهمّش الكوادر الإنتاجية، والمشاريع العملية، واذا وُجدت لا يُحتفى بها، وتغيب الآليات التنفيذية، التي تنقل النظرية الى التطبيق الحركي، وتنحسر الإنتاجية المادية التي تحوّل الأفكار الى صروح مادية.
يعاني الشباب بشكل خاص في العراق، وعلى مختلف توجّهاتهم اليسارية أو اليمينية او الليبرالية والاسلامية من
المثالية السلوكية والفكرية، التي تواجه صعوبة التطبيق، ويعود سبب ذلك الى التطرف الطوباوي، وعدم امتلاك المنهج الإجرائي، الذي يحول الكتب الى انجاز شاخص، فضلا عن تهافت فرضيات البحث بسبب استسهال الكلام، وتأليف المفاهيم.
يتجاوز الأمر، الشباب الى النخب، حيث الأفكار تحتاج الى قادة تنفيذيين لها، لإقناع الجمهور بان العقائد والأفكار،
خُلقت من اجل التطبيق والتنفيذ وليس من اجل المباهلة، او التفاخر الفكري، أو الترف الأيديولوجي أو الصورة الملائكية المرسومة في الخيال فقط.
انّ الشعارات التي لا تطبّق على أرض الواقع، تتحول الى سفسطة ترفيّة، فيما الواقع يئن من نخب تقول ولا تفعل.
يقول ألبرت أينشتاين ان “محك النظريات في التطبيقيات”، ولابد لها ان تتحول الى مزاولة اختبارية أولا لحين حسم صحتها، وينطبق ذلك على كل المجالات، حتى المعتقدات، بل ان الممارسة هي التي تقود في النهاية الى تعديل النظرية وملائمتها لتصبح إيجابية التنفيذ.
على سبيل المثال، فانك مهما وصفت نفسك بانك جوعان او عطشان، فانك لن تجد ابلغ واعظم من تجربة ذلك بنفسك، عندها تدرك الفرق بين الوصف النظري، والاستنتاج العملي.
من الناحية التأملية، يتم وضع العديد من الافتراضات لشرح ظاهرة ما، بينما في الحياة الواقعية، لا توجد افتراضات وشروط فريدة دائمًا.
وفي العراق، بشكل خاص يبقى الانقسام عميقا بين النظرية والتطبيق، لان اغلب افراد مجتمعنا أصبحوا افرادا نظريين، اما خطباء او منظّرين أو تلقينيين، أو محللين، أو أكاديميين شفاهيين، فيما يندر الناس الإجرائيّين بسبب غياب المشاريع، والمختبرات التي تفحص النظريات والمثاليات.
يتحدث فيليب هوفمان من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، كيف ان الصينيين وصفوا صناعة البارود، في كتبهم، لكن الأوروبيين الذين طوّروا تكنولوجيا انتاجه بشكل عملي، نجحوا في الاستيلاء على جزء كبير من العالم، بسبب مهاراتهم العملية قبل أي شيء تنظيري، ولازالوا يتفوقون على العالم لهذا السبب.
عذراً التعليقات مغلقة