جمال بدومة
شاعر وإعلامي مغربي مقيم بفرنسا
الجوائز الادبية تثير الزوابع والسجالات والضغائن. اذا فزتَ بها أنت واحد من ثلاثة: عبقري او محظوظ او وصولي، يعرف كيف ينسج العلاقات ومن أين تؤكل الكتف، لكن اسمك لن يخلّد في تاريخ الادب، لحسن الحظ، حتى لو فزت بكل جوائز عصرك في الرواية والشعر والمسرح والرسم والرقص والغناء، ماعدا في الحالة الاولى: اذا كنت عبقريا. غير ان الجوائز نادرا ما تتوج العباقرة والمبدعين الحقيقيين، لانهم مزعجون، ويكتبون بمكنسة، في وقت يسعى فيه منظمو الجوائز إلى تحقيق اهداف سياسية أو تجارية أو دعائية، لا علاقة لها بالكتابة. الابداع الأصيل ضد المؤسسات، رسمية كانت أو غير رسمية. العباقرة لا تعرفهم المؤسسات والجوائز الا بعد رحيلهم. احيانا يحتاج المبدع الى وفاة مزدوجة كي يحظى بالاعتراف: موته الشخصي وموت العصر الذي عاش فيه. لذلك قال اندري بروتون، بعد ان ضاق ذرعا بالاسماء التي كانت تلهم معاصريه في بداية القرن العشرين: “هناك موتى ينبغي قتلهم”…
الابداع سباحة عكس التيار، والجوائز تتبع الموضة. الكتاب الكبار يمرون من الشوارع الخلفية لعصرهم، في بعض الحالات يتم استدراك الحيف، وإعادة الاعتبار للمبدع قيد حياته. في بدايات القرن العشرين، رفضت دار گاليمار إصدار الجزء الاول من “بحثا عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست. اعتبرت أنه لا يستحق النشر، مما اضطر أحد أكبر الكتّاب في القرن العشرين الى اصدار “من جهة سوان” على حسابه الخاص، لدى ناشر مبتدئ وقتها اسمه برنار گراسي. غير ان الكتّاب المشرفين على گاليمار و “المجلة الفرنسية الجديدة”، وفي مقدمتهم اندري جيد وگاستون گاليمار، سرعان ما انتبهوا الى نبوغ بروست، وندموا على اغلاق الباب في وجهه: “رفض هذا الكتاب سيبقى اكبر خطإ ترتكبه المجلة الفرنسية الجديدة”، يقول جيد، الذي بذل جهدا جبارا لاقناع مؤلف “الزمن المستعاد” بنشر الاجزاء الموالية من الرواية لدى گاليمار، وهو ما تحقق في النهاية، ومنح للدار اول جائزة گونكور في تاريخها، عن الجزء الثاني من “بحثا عن الزمن الضائع”، عام 1919.
ولهذه الجائزة بدورها قصة، لانها اثارت زوبعة في فرنسا، وخرجت تظاهرات تندد بمنحها الى كاتب يقضي وقته بين الصالونات الارستقراطية والبورجوازية، ويسرد مغامراته مع الامراء والبارونات والدوقات، في وقت تضمد فيه فرنسا جراح “الحرب الكبرى”، التي خلفت ملايين القتلى والمعطوبين ومن كانوا يسمون ب”الوجوه المهشمة”. الكتب الجديرة بالمجد وقتها هي تلك التي تؤرخ للمأساة، وتروي حرب الخنادق، مثل رواية « أصحاب 14 » لموريس جونڤوا الذي ادخله مؤخرا ايمانويل ماكرون الى “البانتيان”. بروست حصل في النهاية على المجد قيد حياته، بضربة حظ طائشة، على الارجح. مات الرجل ومات عصره، ولا احد يجادل اليوم في انه من أكبر الروائيين في كل العصور والحقب.
غير ان اشهر الشعراء الفرنسيين لم يربحوا اي شيء، ما عدا النبذ والتهميش والبؤس، والسجن احيانا. لا رامبو ولا فيرلين ولا بودلير ولا لوتريامون… كل ما ربحوه السجن والمحاكم. لكن اسماءهم بقيت خالدة، فيما كُنِس كثير ممن فازوا بالجوائز من صفحات التاريخ.
قبل أيام، أعلن “بيت الشعر” في المغرب منح “جائزة الارگانة العالمية” لمحمد الاشعري، ولا يسعنا الا ان نبارك له التتويج، رغم أن نعت “العالمية” يبدو مضحكا عندما نعرف تشكيلة لجنة التحكيم، الذين احييهم بالمناسبة -ومعظمهم اصدقائي- ولا جدال في كفاءتهم. المشكلة ان كلهم مغاربة، والتمويل مغربي، والفائز مغربي … وحتى لو لم يكن مغربيا، هل يكفي ان تُمنح الجائزة لوديع سعادة او ميشال دوگي كي نسميها عالمية؟ على كل حال، إن هي الا اسماء سميتموها…
هناك مشكلة اخرى. البعض يعتبر ان “الأرگانة” غرست في غير تربتها هذه السنة، وأن محمد بنيس أولى بها من صاحب “سيرة المطر”، لأنه من وضع أساسات “بيت الشعر”، ولانه مخلص للقصيدة منذ خمسة عقود، بخلاف الاشعري الذي يخونها مع الرواية والسياسة والبوكر والحقائب الوزارية. في الحقيقة، كلاهما يستحق الجائزة، كما يستحقها عبد الرفيع جواهري وعبد الله زريقة ومبارك وساط واخرون… لكن الاشعري يملك نفوذا واصدقاء في “بيت الشعر”، بخلاف محمد بنيس الذي تربطه علاقة متوترة من ورثوه في “البيت” وهو على قيد الحياة، وهذه سنة الجوائز!
في النهاية، لن تتغير قصائد بنيس ولا نصوص الاشعري بالارگانة ولا بالزيتونة ولا باللوزة. التاريخ غربال الادب، والجوائز في العالم العربي لا تصنع شيئا آخر، غير تاجيج الضغائن والاحقاد والمعارك، وتدفئة جيب الفائز احيانا.
الجوائز تفقد الناس صوابهم. عندما ربح نجيب محفوظ نوبل عام 1988، لم يتوقف يوسف ادريس عن التنديد بالاكاديمية السويدية، والتعريض بمؤلف “الشحاذ”. ظل يردد انه الاجدر بالتتويج، و”إذا كان هناك أديب عربي واحد يكتب القصة أفضل من يوسف إدريس فإنه مستعد للتوقف عن الكتابة”… كان يتحدث عن نفسه بضمير الغائب، مثل ألان دولون. النرجسية في مرحلة الميتازتاز. ولكي يؤكد أحقيته بالجائزة، لجأ الى حجة طريفة مفادها أنه اجدر بنوبل، لانه اصغر من نجيب محفوظ وبامكانه التمتع بأموالها، عكس مؤلف “بداية ونهاية”، الذي بلغ من العمر عتيا. ثلاث سنوات بعد ذلك، في غشت 1991، سيموت مؤلف “الحرام” وعمره لم يتجاوز الرابعة والستين، في حين اطال الله في عمر مؤلف “الثلاثية”، حتى اصبح أهم وأشهر من هرم خوفو.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة