وجه أبي نهارٌ دائم
كريمة نور عيساوي
شاعرة وأكاديمية من المغرب
حضن أبي المكان الوحيد الذي لا أشيخ فيه.
المساء رعشة النهار، سيمفونية اللقاء منذ الأزل، تجتمع الأماني من كوة السديم لترقص على وتر الفكر المتعب، كل مساء يأتي أبي يحمل قوس قزح يئن من ثقل التعب يضعه في حجر أمي التي ترتق ساعات النهار بسرعة لتنسج في المساء بساط اللقاء.
لازالت صور أبي تتخطفني تهزني وهو يمسح عن وجهه التعب بابتسامته المعهودة ونحن نقف في طابور التحية، تقبيل الأيادي نشوة لا تكتمل إلا بسماع عبارة الله يرضي عليك، حروف موشومة في الذاكرة تطرب الأذن لرقصها على الطبلة الداخلية.
لاشيء يعادل المساء في بيتنا القديم، بقدوم أبي نتنفس السكينة في حضرة حكاياته، ونستمع لتراتيل الصلاة في صمته المطبق كلما ضاقت عليه أرجاء الكون، لا شيء يعادل شغب أبي في لبنة الأسرة وهو يتوسط عرش مملكته التي شيد أساساتها من عظام شبابه، وبنى طبقاتها من عضلات جسده، وأثث سقفها من خصلات شعره الأبيض.
كلما نظرت اليوم في هذه العيون الرمادية اللامعة تذكرت فرات الشاي في قبضة أبي المفتول العضلات، عضلات اشتدت من حمل الأثقال في ساحة حرب لقمة العيش وليس في قاعات الرياضة الفارهة، هذا الفارس المغوار حمى تحت جناحيه فراخه الصغيرة وناضل بهن في ساحات الوغى الكثيرة حتى أوصلهن بر الأمان، تسع بنات وزوجة وأخت أرملة هي بذور غرسها ووريقات يانعة سقاها من عرق جبينه الذي خطت مساراته ودروبه وجع الليالي المظلمة، وجه أبي نهار دائم لا تكدره غيوم مصاعب الحياة ولا تغير ملامحه تجليات السعادة عيناه ثابتة على هدف واحد ووحيد، قليلا ما كنت أرى حروف أبي ترقص على وتر اللقاء أو تذبل أمام سيول الفراق، أبي بركان نشيط لا تشاهد له انفجارا مهما قست عليه محن الدهر، أبي جبل لا تهزه رياح الألم ولا عواصف الوجع، أشتاق لحضن أبي في عز الصيف يحميني من قيظ الأيام، عرق أبي روح وريحان و جنة قرنفل لا يلجها إلا من رفل في صرحه المشيد من التحدي…..
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة