ليون برخو
قبل بضعة أيام استدعاني رئيس قسم اللغة والإعلام في جامعتنا إثر شكوى تقدمت بها إحدى زميلاتي. فحوى الشكوى قد يثير كثيرا من الشجون وعلامات الاستفهام لدى قرائي الكرام.
وكانت الشكوى مثار استغراب وتعجب لدى رئيس القسم، حيث قال: إنه استدعاني لأن التعليمات تستوجب تبليغي بالشكوى وليس بالضرورة أنه يتفق مع فحواها.
الشكوى لم تثر أي استغراب لدي، لا بل شكرته وشكرت الزميلة التي بلغت عني. موقفي الإيجابي أثار دهشة رئيس القسم: “ماذا تقول؟ هل هي على حق وأنت مذنب؟”
قلت: “لا هذا ولا ذاك. إنها مسألة الضمائر والضمير”.
هنا كاد رئيس القسم يقفز من على كرسيه، وكأنني استفزته: “هل تعلم اعترافك قد يستوجب إجراء انضباطيا أو إداريا”.
قلت: “لا هذا ولا ذاك أيضا”.
قال: “إن ثبت أنك أسأت إلى زميلتك لن يفيدك منصب الأستاذية مدى الحياة الذي تحمله ولا مكانتك العلمية، أي لا هذا ولا ذاك”.
نحن لا نجري وراء شيء مثلما نجري وراء ميولنا. وميولنا تجري في الأغلب مثلما تنطق شفاهنا، أو تسطر أناملنا.
كانت الشكوى حول استخدامي غير الموفق، حسب قول الزميلة، للضمائر في اللغة الإنجليزية، حيث استهجنت استخدامي للضمير “هي” أو she للغائبة المؤنثة، عدة مرات عند الإشارة إليها في جلسة خاصة.
قلت: “المسألة ليست بالتعقيد الذي تنظر به الزميلة إلى الأمور. إنها مسألة اللغة وسطوتها، السطوة التي لها وشائج قوية مع الضمير”.
وبدأت أشرح لرئيس القسم التناغم والتواصل بين الأوتار الصوتية (الشفاه) وشغاف القلب (العقل أو الضمير)أ وكيف أن وقع اللغة أو الكلام الذي ننطقه أو الكلمات التي نكتبها تستقي معانيها وتأثيرها من السياق الذي تجري فيه.
والسياق هو الحياة التي تشكلنا مع لغتنا. واللغة التي نستخدمها وتقع على مسامعنا أو تقع عليها عيوننا هي السيماء. فكما أن الوجه يعكس من نحن، كذلك اللغة والسياق الذي تجري فيه.
ونحن لا نجري وراء شيء مثلما نجري وراء ميولنا. وميولنا تجري في الأغلب مثلما تنطق شفاهنا، أو تسطر أناملنا.
وماذا تنتطق الشفاه؟ وماذا تسطره الأنامل؟
الشفاه والأنامل تجري وراء اللغة، واللغة ليست فقط تحرك الشفاه والأوتار الصوتية والأنامل، إنها تهز أوتار القلب كما يهز عازف الكلمان الماهر قلوب سامعيه وهو يلامس بقوسه أوتار آلته.
وهكذا هز استخدامي لضمير الغائبة المؤنثة “هي” أوتار قلب زميلتي، حال وقوعه على مسامعها. الميل الذي هي عليه -أي كان لا شأن لي به- لا يستأنس سماع ضمير الغائبة المؤنثة للإشارة إليها.
لا علم سابق لي -ولن يكون لاحقا له- لما هي أو غيرها من الناس عليه من الميل. هذا شأنهم. ومن أنا كي أقرر أو أبحث عن أو أتدخل في ميل الآخرين؟
لكن لدي شأن باللغة، التي تجري ورائي، وتظهرني على ما أنا عليه. أنا بريء، لكن براءتي وجهة نظر. وزميلتي بريئة، وبراءتها وجهة نظر.
أنا مستشرق، متشبع بحضارة ولغة ضمن سياق لفظي وكتابي وثقافي، ليس فيه ضمير واحد للغائب إلا ويميز بين المذكر والمؤنث.
زميلتي متشبعة بثقافة وحضارة ترى في التميز حتى على مستوى ضمير الغائب أو الغائبة أمرا غير مستساغ. في ضميرها (عقلها وقلبها) يجب أن تعامل على قدم المساواة مع الرجل حتى إن تعلق الأمر بانتقاء واحد من ضمائر الغائب.
من العسر في مكان انتقاء ضمير في العربية للمخاطب أو الغائب يجري وراء ميل مثل هذا. ضمائر المخاطب والغائب إما مذكرة أو مؤنثة بالعربية.
وتقترب الإنجليزية من العربية عند عقد مقارنة بين ضمائر الغائب، عدا ضمير واحد له مدلول مزدوج (مذكر ومؤنث في آن) عند الإشارة إلى الجمع وهو they (هم أو هن).
زميلتي تريدني أن أستخدم they عند الإشارة إليها، وليس she. ولأن اللغة وعلومها جزء من اختصاصي، اعتقدت أن استخدامي المتكرر لـ she عند الحديث عنها أثناء وجودها في الاجتماع كان تعمدا مني للحط من قدرها.
هل يجوز استخدام they بالإنجليزية للدلالة على she؟
هكذا استخدام كان يعد خطأ فاحشا في السابق، لكن ليس اليوم.
لو ذهبنا إلى قاموس مريم ويبستر Merriam-Webster الشهير بحثا عن they لرأينا أن مفردة she صارت واحدة من معانيها المهمة.
واختار المعجم المؤثر هذا مفردة they أكثر مفردة استخداما بهذا المعنى في عام 2019.
اللغة تجري وراء الميول وتشكلها، والميول تجري وراء اللغة وتشكلها.
قال رئيس القسم، بعد هذا المداخلة: “نعم لا هذا ولا ذلك”.
اللغة ثروة والعارفون بخباياها ثروة. وكل ضمير للضمير نسيب.
الاقتصادية
عذراً التعليقات مغلقة