سامي مهدي
شاعر وكاتب عراقي
الشائع في تاريخ الشعر العالمي أن الشاعرة الغنائية الإغريقية ( سافو ) هي أقدم من عرف من النساء الشواعر . غير أن هناك شاعرة عراقية موهوبة وبارعة تقدمت عليها بنحو سبعة عشر قرنأ هي ( إنخيدوانّا ) . فسافو عاشت خلال القرن السادس قبل الميلاد ، في حين عاشت أنخيدوانا في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد . بل أن أنخيدوانا هي أقدم مؤلف وشاعر معروف في العالم ، حتى اليوم ، بكونه شخصية تاريخية . وإنخيدوانا هذه هي ابنة العاهل العظيم سرجون الأكدي ، الذي وحد البلاد ، وبنى مدينة أكد ( أكاد ، أكادة ) وجعلها عاصمة لها ، وأسس امبراطورية امتد نفوذها حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط ، وأعماق بلاد الأناضول ، وحتى الخليج العربي وسواحله في عمان ، ودام حكمه نحو خمسة وخمسين عاماً ( 2371 _ 2316 ق. م. ) .
وقد كانت أنخيدوانا ابنته الوحيدة بين أبنائه الخمسة . ومع ذلك عينها ” كاهنة عظمى ” في معبد الإله القمر ننا ( سين ) في مدينة ( أور ) . ويبدو أنه عينها في أواخر عهده ، فقد كانت ما تزال على قيد الحياة في عهد حفيده نرام _ سين الذي حكم نحو ستة وثلاثين عاماً . ويرى بعض الباحثين المختصين أن دوافع هذا التعيين كانت سياسية ، وهي كسب ود رعاياه من السومريين . ومما يؤكد حقيقة أن إنخيدوانا شخصية تاريخية عثور المنقبين على قرص مدور صغير من المرمر في معبد الإله القمر يصور كاهنة تترأس طقساً من الطقوس الدينية ، وكان هذا القرص مكسوراً ومشوهاً بصورة متعمدة ، وبعد ترميمه برز على ظهره نقش بخط أنخيدوانا ، بحسب وستنهولز ، تصف فيه نفسها فتقول : ” إنخيدوانا ، امرأة نانا الحق ، زوجة نانا / ابنة سركون ملك الجميع / في معبد إيننا في أور / منصةً أنتِ بنيتِ / ومنصة / مائدة السماء (آن) أنتِ سمّيتِ ” . كانت إنخيدوانا ، بإجماع الباحثين المختصين ، شاعرة موهوبة وقديرة ، كتبت شعرها بلغة سومرية عالية ، ولهذا ذهب الظن ببعضهم إلى أنها من أم سومرية ، وليست من زوجة أبيها الأكدية ” تشلتم ” . وهذا ضرب من التخمين لا يستند إلى أساس .
ويمتاز شعر إنخدوانا بسعة الخيال ، وجمال التشبيهات ، وحرارة العاطفة ، وقوة التعبير عن حياتها الباطنية . وقد عثر المنقبون لها على ثلاث قصائد طويلة في تمجيد الإله _ القمر ( سين ) وثلاث طوال اخرى في تمجيد الإلهة ( إيننا ) إضافة إلى اثنتين وأربعين ترتيلة لـ ( إيننا ) نفسها .
وختمت الترتيلة الثانية والأربعين بتذييل جاء فيه ” الذي وضع هذا اللوح / هو إنخيدوانا / مليكي / ما أبدع هنا / لم يبدعه أحد من قبل ” . ويذكر الباحثون ان مؤلفاتها درست في العراق القديم واستنسخت على مدى أكثر من خمسة قرون ، حتى لقبها أحدهم بـ ( شكسبير الآداب السومرية ) . ويظهر من شعر أنخيدوانا انها كانت امرأة ذكية ، قوية الشخصية ، صلبة الإرادة ، ذات شمم وكبرياء ، وكانت تدرك أهمية موقعها ، وتتخذ الموقف الذي يليق بها كأميرة وكاهنة عظمى ، وتفخر بكونها ” امرأة نانا الحق ، زوجة نانا ، ابنة سركون ملك الجميع ” . وكان لها ولشعرها تأثير كبير في التفكير الديني في حياتها وبعد وفاتها بقرون . وقد وصفتها كاهنة عظمى جاءت بعدها بأنها ” امرأة بخواصر مؤهلة في طهرها ، جديرة بالكهانة ” . وبرغم أنها كانت كاهنة عظمى في معبد نانا ، وأعلنت أنها زوجته ، برغم ذلك عظّمت إيننا وأسبغت عليها من الصفات ، ونسبت إليها من القوى والقدرات ، ما يضعها في قمة البانثيون الرافديني .
وإيننا هي إلهة الحب والخصب والحرب في المعتقدات السومرية . وقد عرفت عند الأكديين ، ومن بعدهم البابليون والآشوريون ، باسم ( عشتار ) . ويرى بعض الباحثين أنها كانت في ما مضى الإلهة _ الأم . وعادة ما كان يرمز إليها بكوكب ( الزهرة ) . ويقترن اسمها في أدب العراق القديم باسم الراعي : دموزي ( تموز ، عند البابليين ) . فهو حبيبها وزوجها وشريكها في طقس احتفالي سنوي كان ملوك العراق القديم يقيمونه في الربيع لكي تنعم البلاد بالخصب ، هو ما يعرف بطقس : الزواج المقدس . وكانت إنخيدوانا تشعر بوجود صلة حميمة عميقة بينها وبين إيننا ، وتعتقد أن حياتها ومصيرها يتوقفان على هذه الصلة ، ولعل هذا هو سر تعلقها بها وتعظيمها لها . وهي تصفها فتقول : ” إيننا / طفلة الإله القمر / برعم ناعم يتفتح / ثوبها الملكي يحمي الفنن النحيف / تخطو بقدمها الرشيقة / على ظهر ثور لازوردي متوحش / وتخرج ” . ويبدو أن إنخيدوانا قد تعرضت للاضطهاد في أواخر حياتها ، فقد أقصيت من منصبها الكهنوتي ، ونفيت ، فاستنجدت بإيننا على من أقصوها ، فاستجابت لها إيننا ، وأعيدت إلى منصبها . ونظمت في ذلك واحدة من أجمل التراتيل ، وسردت فيها قصة إقصائها .
ويبدو أن من أقصاها رجل يدعى لوكال أنا ، فقد ثار هذا على نرام _ سين ، في أوروك ، ويرجح بعض الباحثين أنه هو الذي قام بعزلها ونفيها . ويرى نيسين أن تعيين إنخيدونا في الكهانة العظمى كان ، في الأصل ، إهانة للكهنة المحليين ، وربما كان هذا هو سبب عزلها ونفيها من قبل الثوار . وفي عام 2003 صدر كتاب بالإنكليزية عنوانه ” إيننا السيدة ذات القلب الأرحب ، قصائد الكاهنة العظمى إنخيدوانا ” والكتاب من تأليف الباحثة الأمريكية ” بتي دو شونغ ميدور ” وهي محللة نفسية يونغية ، ذات نزعة جنسانية ، تعرفت مصادفة على شخصية إيننا فراحت تبحث عن كل ما يتعلق بها ، وقادها هذا البحث إلى التعرف على إنخيدوانا وشعرها ، وصار بحثها عن إيننا يمتزج ببحثها عن إنخيدوانا حتى كأن كلاً منهما هي الأخرى . وواضح أن اهتمامات ميدور الجنسانية هي التي خلقت لديها هذا الشغف بالبحث عن طقوس الزواج المقدس لدى السومريين ، وبإيننا حبيبة دموزي ، وبإنخيدوانا التي بجلت إيننا وعظمتها .
ولذا جاء كتابها عن إنخيدوانا وشعرها في سياق بحثها عن إيننا ، واستلزم هذا منها أن تضع الشخصيتين في سياقهما من تاريخ العراق القديم . وقد تضمن الكتاب ترجمة ثلاث قصائد طويلة من شعر إنخيدوانا ، هي قصائدها الثلاث الطوال عن إيننا ، مع تحليل واف لكل منها . وبرغم سلاسة ترجمة هذه القصائد وجمالها يصعب على المرء الإطمئنان إلى دقتها . ذلك أن ميدور لا تعرف اللغة السومرية ، وهي استعانت ببعض من يعرف هذه اللغة من الأكاديميين وطلبتهم ، فقاموا هم بإملاء ترجمتها عليها ثم تولت هي صياغتها بالإنكليزية . و زاد تحفظي على هذه الترجمة عندما قارنت ترجمة إحدى القصائد بالترجمة التي وضعها العالم العراقي المختص الدكتور فاضل عبد الواحد علي ونشرها في كتابه ” سومر ، أسطورة وملحمة ” .
فالفارق بين الترجمتين كبير حتى ليصح وصف ترجمة ميدور بأنها : ترجمة بتصرف . وهذا واضح من ثلاث نواح : الأولى : أن ميدور لم تلتزم بعدد سطور النص الأصلي ( السومري ) ووزعت الجمل والعبارات على السطور على هواها . والثانية : هي التصرف بالنص إما لغموض بعض مفرداته وتعبيراته ، وإما لتجميله ، ومن ذلك حذف التكرارات ، وهذا مما ابتعد به عن الدقة . والثالثة : عدم مراعاة بيئة النص اللغوية ، ومحاولة إيجاد بدائل لبعض التعبيرات والمفردات التي استخدمها السومريون ، وشاع استخدامها بين علماء السومريات . مثل الـ (مي ME) وتترجم عادة بـ ( النواميس الإلهية ) وعبارة ( بيت الأحزان القديمة ) وهو تعبير بلاغي عن العالم السفلي و ( قيثارة البكاء ) وهو تعبير بلاغي آخر . ومن المؤسف ان المجال لا يتسع هنا للمقارنة بين الترجمتين لكي نلاحظ الفارق الكبير بينهما .
ومما يجدر ذكره أن كتاب ميدور قد ترجم إلى العربية ، وقد قام بترجمته الأستاذ كامل جابر وصدر عام 2009 عن دار الجمل . والأستاذ جابر ، كما عرّفته دار الجمل ، عراقي مقيم في الولايات المتحدة ، نال الدكتوراه في العلوم الطبيعية ، وهو يعيش ويعمل في نيويورك ، وقد نشر القليل من الكتابات النثرية والترجمات المتفرقة عن العراق القديم . وحسناً فعل الدكتور جابر إذ قام بترجمة هذا الكتاب ، فهو إضافة مهمة إلى ما نعرفه عن هذه الشاعرة الرائعة . وجاءت الترجمة بلغة عربية سلسة ، لا التواء فيها ، تيسر عملية قراءته وتغري بها . غير أننا نلاحظ على الترجمة أنها لم تستخدم ما استقر العلماء العراقيون المختصون من تسميات للمواقع والأشخاص والآلهة ، بل اعتمدت على النص الحرفي للأسماء كما جاءت باللغة الإنكليزية ، فوقعت في بعض المفارقات .
فاسم الشاعرة الذي استقرت عليه مؤلفات العلماء العراقيين وترجماتهم هو إنخيدوانا ، وليس إنهيدوانا . والطور الانتقالي الثالث من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري الحديث هو : طور سامراء ( المدينة العراقية المعروفة ) وليس طور ( سامارا ) المجهولة الغامضة كما جاءت في الترجمة . والموضع الذي قامت عليه هذه الحضارة هو ( تل الصوّان ) وليس ( تل السوان ) . والطور الحضاري الذي تلا طور العبيد هو طور ( جمدت نصّر ) وليس ( جمدت ناصر ) . والإله _ القمر هو ( سين ) وليس ( سيون ) . وقد اصطلح على تسمية مدينة ( نيبور ) المقدسة باسم آخر هو ( نِفّر ) .
وتفضل كتابة اسم الملك ( لوكالزاكيسي ) الذي ورد ذكره في الترجمة بـ ( لوكال زاكيزي ) فالاسم يتكون من كلمتين هما : لوكال ، وزاكيزي . واسم الملك ( لوكالنموندو ) الصحيح هو ( لوكال أنيموندو ) . واسم الملك الكلداني ( نابونيدس ) الثابت في المؤلفات العراقية هو ( نبونئيد ) . واسم الملك ( أدنداكان ) الصحيح هو ( أدن داكان ) من كلمتين . واسم إله مدينة لجش هو ( ننغرسو ) وليس ( ننكير سوا ) واسم ملحمة الطوفان التي أعاد الآشوريون إنتاجها هو ( أتراحاسس ) وليس ( أثراهيسس ) ..
وهكذا .. وبرغم هذه المآخذ يبقى الكتاب مهماً ومفيداً ، وخاصة بما يقدمه من تحليل للفكر الديني ، ولتطور الوعي الفردي ، في حقبة مهمة من حقب التحول الفكري والسياسي في تاريخ العراق القديم .
عذراً التعليقات مغلقة