فينوس فائق
شاعرة وكاتبة – هولندا
رواية «الطوفان الثاني» للروائي العراقي فاتح عبد السلام الصادرة عام 2020 عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت.. هي من الروايات التي تستحق أكثر من قراءة واحدة، لجمال لغتها السردية الراقية ولما لها من بوح من نوع آخر وتصوير دقيق لواقع المجتمع العراقي الذي عانى و مازال من الحروب و إفرازاتها و المآسي التي خلفتها.
تعالج الرواية أو هكذا بدا لي مفاهيم: الوطن، الانتماء والغربة والانقسام بين وطن الاغتراب وغربة وطن و بين كل هذا قضية هوية مشتتة بين المنفى و الداخل، فضلاً عن انشغالات قلوب الشخصيات. جميع ذلك يتحرك على فرشة فيها تجلي لثقافات أخرى، فضلاً عن تداخل الذاتي والموضوعي، بما يشكل الحياة الأخرى التي لا تكون الا في الفن الروائي ، ولعلي وجدتها واضحة في رواية(الطوفان الثاني).
أخذتني الرواية من صفحتها الأولى مع سالي وأدغار “كمال” إلى تصورات أخرى عن الوجع و وجوه أخرى للحرب التي نهشت حياة العراقيين على مدى عقدين من الزمن و لا تزال.
يرسم كاتب الرواية بدقة عالية صورة واضحة و مؤلمة لتبعات الحرب و تراكماتها النفسية الثقيلة من خلال حياة البطلة سالي، و بعد ذلك من خلال رحلة كمال “أدغار” إلى بغداد.
فالحرب هي ذاكرة العراقيين المشتركة، كل من خلال قصة عاشها في ظروف الحرب أو فاجعة أو ألم تسببت به الحرب، كما أصاب كل عراقي سواء في الداخل أو في الخارج.
يقرر كمال أن يخوض رحلة بحثه عن هويته الضائعة، عن انتمائه الذي طالما سبب له الألم ، و بسببه كان يعاني من كابوس عنوانه الغرق في بحر إبتلع أبويه و تركاه وحيدا في هذا العالم يبحث عن هويته.
يبدأ رحلته محملا بِكَم كبير من الأسئلة التي تبدأ الأجوبة تنهال عليه منذ أول محطة له في عمان/الأردن إلى أن يصل إلى بيت عمّه في بغداد، ويتعرف على عمّته التي بفضل نوع من نفحات روحية تسكنها، ويسميها الناس الكرامات ، كانت تمارس تطبيب الجرحى نفسيا و المتعبين و المقهورين بسبب الحروب الإيرانية و الطائفية و العرقية، فيصور كل هذا الكاتب بعناية فائقة و يسردها بأسلوب ليتتابع فيه التشويق.
في حين تواجه سالي آلامها و أوجاعها و التراكمات النفسية التي خلّفتها الحرب في ذاكرتها بطريقتها الخاصة و سعيها المستمر لئلا تفقد إنسانيتها في مكان يتوافر على تناقض بين انها لا تنتمي إليه وبين انها تشعر بالإنتماء إليه، من جهة ، و بين وطن كل ما تحمله في وجدانها عنه صور و آلام عاشتها و مازالت لم تتخلص منها.
رواية (الطوفان الثاني) تستحق حتى عناء المشي إلى المكتبة لإقتنائها أو إستعارتها من صديق بعيد، و حين تقرأ الصفحة الأولى لن تترك الكتاب إلا وقد أفرغته في وجدانك و أصبحت إما “سالي” بكل ما تحملها من وجع الماضي و آلام الغربة، أو كمال “أدغار” و سعيه للعثور على هويته التي كادت تغرق في عرض البحر، و رحلته الشاقة إلى العراق.
عذراً التعليقات مغلقة