جدي الأكبر ومجاهل النسيان.. قصة للمغربي رشيد سكري

جدي الأكبر ومجاهل النسيان.. قصة للمغربي رشيد سكري

آخر تحديث : الجمعة 9 أبريل 2021 - 2:08 مساءً

قصة قصيرة

                            جدي الأكبر … ومجاهل النسيان

                                                                       

Screenshot 2021 01 17 at 15.49.18 e1610898713403 - قريش

رشيد سكري 

   بجيدها الطويل ، كسيجارة مالبورو الأمريكية ، كانت سيلفيا تشرئب من شرفتها المطلة على شارع سانتوان دي لا بيري بحي الأندلس . وبالقرب من قنطرة طارق بن زياد ، تقف  كرجل واحد ، أشجار نخيل باسقة في شموخ وكبرياء أزلي . فقبل الظهيرة ، كانت سيلفيا تلقي التحايا ، وتوزع ابتسامات مستقيمة ، من ثغر مبسام ، على العابرين في زمن عابر . 

   تتردد سيلفيا على حي الأندلس ، وهي ذات الأربعة عشر ربيعا تعلقت بجدها الأكبر ، الذي استقر، منذ أن عاد من حرب الهند الصينية ، بحوافي ضياعات المروج المطلة على عرائش الصنوبر في غابة المعمورة . ومن خصاصات البيت الخشبي ، كانت سلفيا تراقب الجد الأكبر ، وهو ممدد على السرير ، يحمل حماما من دواء لرجْل فقد ساقها في مجاهل غابات تونكين . كالظل كالماء كالشمس كالحياة ، تقف لميمة فاليري خلف لوحات فان كوخ الشهيرة ؛ ” آكلوا البطاطس ” و ” الأب تانغي ” و ” الطائر والقمح ”  المصلوبة على الجدار الأملس ، وهي تبصر بعينيها المائيتين والدامعتين بقايا رجْـل ملفوفة في ثوبها القطني الرطب . ما أن يتقلب الجد الأكبر على السرير حتى تجد لميمة فاليري ، بشعرها الأشمط ، منتصبة كالصفصافة .

  هي ذي فاليري المرأة الحديدية ، المرأة الفولاذية ، بلباسها العريق ؛ بتنورتها المسدولة على جسدها النحيف ، تطوف أرجاء بيتنا الخشبي … خببا ، تمشي دائما ، كالخيول البرية المجنونة . جلبها جدي الأكبر لميمة من أحراش جبال الريف ، تائهة بين عروق المورسكيين النازحين من غرناطة و إشبيلية ، إثر الاضطهاد الذي تعرضوا له بفعل جرائم القشتاليين ، ومحاكم التفتيش … هو الحديد والصليب ، إذن ، والنار . والتعذيب . والسحل . في الساحات العمومية . 

  لميمة فاليري تعلمت الأمازيغية بسرعة جنونية في زمن قياسي ، وعشق أبدي للريف . كانت تنظر إلى جدي الأكبر كالمنقذ من الضلال ، وتحب دائما أن تناديني باسم الدلع والشوق و الصبابة : 

ـ سيلفي … سيلفي … يا نوارة الشمال .            

   بالشمال أكثر كان مرتعنا أكبر ، ونحن صبايا و ولائد صغار ؛ على طول الخط ، الذي يربط بين تطوان والخميس أنجرة ، كنا نقف عند مزرعة خيول برية جنب الرصيف ، وتبدأ فاليري من خلف الحواجز و المتاريس الخشبية ، بموال عشق وصبابة لذات الحوافر الذهبية ، وهي تركض في الجنة بين أشنة و غياض . تقول ببحة صوتها الدافئ الوهج :

ـ ” زوادة … زوادة  عمري … 

ـ نسيتك بالأندلس … وها أنت … في مرمى حجر من عيوني …

ـ نسيتك صغيرة … وعشقك صار أكبر … كالجبل الجليدي العائم “

قالت لي : 

ـ الحلم فيك يكبر يا سيلفي . 

    بهذا الحي الذي يطل على ساحة النصر ، كان مستقر جدك الأكبر بين القديسين والشرفاء . فبعد ما تأثر بمرضه جراء القذيفة اللعينة ، التي أصابته في الحرب المدمرة ، حملناه على وجه السرعة إلى العين الحمراء ، في مجاهل الريف ، حيث  تذرف في سخاء ماءها كالدم القاني . عند نزولنا في منعرجات الجبال الوعرة ، كانت المنحدرات تشي بالجبروت  والقساوة . نفسه الحارة والباردة تزفر داخله وتتحشرج كوعل مذبوح ، ما أن استنشق هذا الأريج ؛ رائحة الزعتر الساخنة الفائحة ، والشيح البلدي الذي غطى سفوح  وقنة الجبال ، حتى عادت إليه الروح ، التي غادرته إلى حين . 

   في زفرات الريح … وهبوبها .

  مطين هذا المكان ، يستقبل العرين بالنصر ، يستقبل هذه الأضواء البعيدة على مشارف التيه . في المنحدرات ، في قلب التاريخ ، هذه سيلفيا ترتدي معطفها الأسود ، وشالا أسودَ أيضا ، وقبعة مكسيكية تخفي ملامح وجهها الأندلسي ، تنظر إلى الحفرة في مقاس جدي الأكبر ، هي التي ستستقبله … تحتضنه إلى الأبد . 

مع الفقيه  تردد كلمات وتتمتم . بما يرفع بها عقيرته  … من الذكر الحكيم …  وبين الفينة والأخرى ، يبتسم الفقيه على ثنيتين فضيتين … ويرحل .  

القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن    

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com