محمد بو مهدي
المغرب
بعد أن شحَّ الماء في العيون والآبار، واشتدَّ القيظ ولم تعد تظهر في السماء غيمة واحدة، اجتمع رؤوس أهل الدوار من الشيوخ في المسجد وتذكرُّوا بعضا من سنين القحط التي مروا بها في حياتهم وماجرَّت عليهم من مآسي الجوع والعطش والمرض، وقرَّرُوا أن يقصدوا سيدي بن قاسم لطلب الغيث من الله بذبح بقرة يشتركون فيها ليطعموا الناس ويُفرحوا الأطفال الجياع. أهل الدوار مازحوا علال في ذبح بوخاتم لكنهم كانوا يعرفون ردَّه: لن يقع ذلك حتى لو متم جميعا من العطش، اذبحوني واتركوا بوخاتم.
يجتمع أهل الدوار، شيوخ ونساء وأطفال، بالقرب من المسجد، وينطلقون جماعات في مسيرة مهيبة يتقدمهم رجل أَشْمَطْ يَجُرُّ بقرة صفراء قرنها الأيمن مكسور، وقد وضعوا فوق ظهرها منديلا مطرَّزا يخفي شيئا من هُزَالِها. وامرأة عجوز تلبس دفينا مزركشا وترفع رَايَة بيضاء بقصبة. وأطفال صغار يروحون ويجيئون ويجرون مثل الدجاج والمرأة العجوز تردد بصوت مبحوح و تستغيث: غَيْثَكْ غَيْثَكْ الله والشْتَا انشاء الله، البْهيمَة عطشانة يسقيها مولانا، ثم يرددون من ورائها ويزيدون.. الشْتاَ.. تَا.. تاَ..تَا.. أوليدات الحرَّاثا .. غَيْثك غيثك بها يا ربِّ ترويها..
يصل الحشد إلى سيدي بن قاسم الذي يوجد على ربوة تُمكِّن من رؤية الفضاء الشاسع من كل الجهات، الجموع تدعوا في فرح وسرور، والأطفال لا ينتظرون شيئا إلا ذبح البقرة وأكل الكسكس المُمَرَّق بلحمها، وهم من زمان لم يتذوقوا شَنْتِيفَة َلحم واحدة.
يأخذ رجال أشداء ناصية البقرة ويربطون قوائمها، ويجعلونها تخِرًّ على الأرض، تَبْرُزُ عيناها وتوجِّهُ نَظَرات غريبة إلى الأطفال، يتعاطفون معها لكن أفواههم يسيل داخلها لعاب لذيذ وهم يَتَخَيلُون لحمها، يتمنُّوا رؤية هذا المشهد كل يوم، لكنهم يدركون أن هذه اللحظة لا تكون إلا في مرات قليلة في حياتهم وعليهم أن يغتنموا الفرصة كاملة، وأن يأكلوا أكثر ما يطيقون، وأن يتلذذوا بالطعام أكثر ما يتاح لهم. لكي يقهروا رغبة دفينة في أعماقهم، وينتقموا من ليال سود يبيتون فيها على معدة بئيسة.
يُشَمّر فقيه المسجد سي احمد عن يديه ويُمسِك سِكِّينا، يقبض أحدهم قَرْن البقرة ويلوي عنقها بِمَشَقَّة، الفقيه يتمتم بذكر الله ثم ينزل عليها بكل قواه ويذبحها فتتفجر الدماء من أوردتها مثل شلال، وتتعالى أصوات النساء بالزغاريد..
في الجهة المقابلة توجد نساء قد هَيَّئنَ القُدُور وأفرانا من حَجر ووضعن الحطب وأشعلن النار لِغَلي الماء.. الأطفال ينظرون إلى سَلْخِ البقرة في خُشوع، أحدهم يضع دراعه على كتف صديقه بمحبة، يتخيلون لو أن الناس كانوا يسلخون الأطفال. يصرخ أحد الرجال فيهم: ما لكم ساكتين .. الغيث الله .. فينطلقون جميعا: الغيث الله والشتا ان شاء الله.. غيثك غيثك بها.. يارب ترويها..
في عمق اللَّيل يسمع علال وَقْعَ زخَّات مطر على سقف بيته القزديري، ويتصاعد صوتها شيئا فشيئا حتى يعم السقف هدير كبير. يوقظ زوجته، بدأت تمطر. يخرج من بيته إلى فناء الدار، ويقف. المطر ينسكب عليه. يرفع وجهه إلى السماء ويفتح فاه ويغمض عينيه حتى تتبلل ثيابه ولحيته بالماء فتنتعش روحه. لم يحس بهذا الفرح من زمان بعيد، يا الله ..الحمد لله..
عبد الغني منذ 4 سنوات
صورة جميلة لزمن جميل، وقدرة فاءقة على تصوير ذلك المشهد الرائع السائر إلى الإنقراض بكل مكوناته ..
.. سيدي بن قاسم مكان جميل وذو القصص شبه الخيالية كيوم أصبح الدوار على وقع اكتشاف وسرقة صندوق كنز كبير يعود لحقبة مقاومة الاستعمار، ويوم انقلب عرس في دوار انقاقشة إلى جريمة قتل بشعة بجوار احجاره المصبوغة بالجير الأبيض، يقال ان سبب الشجار غيرة وانتقام…