فاتح عبد السلام: المفارقة السردية وسطوة الذاكرة في “عين لندن”

فاتح عبد السلام: المفارقة السردية وسطوة الذاكرة في “عين لندن”

آخر تحديث : السبت 22 مايو 2021 - 10:41 صباحًا

فاتح عبد السلام: المفارقة السردية وسطوة الذاكرة في “عين لندن”

أحمد الحاج جاسم العبيدي

thumbnail PHOTO 2021 01 30 15 01 11 - قريش
احمد الحاج

كاتب عراقي

في مجموعته القصصية “عين لندن” الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون والتي تحوي على سبع قصص قصيرة هي: عين لندن، الشظية لا تزال في ساقي، ماراثون المسافات القصيرة، الناقوس لا يقرع الآحاد، لحظة الاستنساخ البشري، حديقة عباس في ساوث هول، جنية الساعة الحادية عشر، يعود القاص والروائي الدكتور فاتح عبد السلام إلى موطنه الأول مرة أخرى وهي عودة ليست بالجديدة، وهو الذي حمل أمتعته في نهاية تسعينات القرن الماضي ليعيش في أرض المهجر، ولكن بالرغم من البعد الزمكاني الذي يعيش فيه، إلّا أنه بقي قريباً جداً من هذا المكان بما حمله في حقيبته من آلام وحنين لهذا الوطن الجريح ما زالت تحفر في ذاكرته، وتنعكس في كتاباته الأدبية والصحفية حتى أصبحت قضية هذا الوطن هي القضية الرئيسية التي يكتب من أجلها ولأجلها.  

وجميع القصص تشترك في ثيمة واحدة مأساوية هي ثيمة الحرب، وعندما نتكلم على حالة الحرب في بلد مثل العراق، فإننا لا نتكلم عن حرب واحدة، بل مجموعة حروب، أو سلسلة مطولة أبادت أجيالاً كثيرة وأعاقت أجيالاً أكثر، كما انها استنزفت موارد البلد من طبيعية وصناعية وزراعية، وتسببت بنزوح أعداد كبيرة من المواطنين جلهم من الكفاءات إلى كل دول العالم حتى الفقيرة منها ناشدين الأمان والحرية والعيش بكرامة، وربما أكثر من ذلك بقليل إن كان هذا المهاجر مبدعاً، لينشد قلماً وورقةً بلا حسيب ولا رقيب. 

من الجدير بالذكر أننا سوف نتبع المنهج النقدي الدلالي (Semantics) في التحليل النصي وذلك لإرتباط مصطلح المفارقة بالمعنى الذي تحمله المفردة من جهة، وفي سياق الحال من جهة ثانية، مع حاجة ملحة لربط علاقة هذا المعنى في الذاكرة التي تقع منهجياً ضمن اشتغال علم النفس الادراكي Cognitive Psychology)). 

Screenshot 2021 05 22 at 10.33.45 - قريش
غلاف المجموعة القصصية

وعلم الدلالة هو العلم المختص بدراسة المعنى. ويعد هذا الحقل المعرفي الذي نشأ في ميدان علم اللغة العام الحديث الذي أرسى قواعده فرديناند دي سوسير، ولكن من الملاحظ أن علم الدلالة شهد تقدماً كبيراً على أيدي كل من بالمر في كتابه الصادر عام 1976([1])، وجون لاينز في كتابه الصادر عام 1977([2])، وقد حمل الكتابان نفس العنوان “علم الدلالة” (Semantics) ليصبح علماً قائماً بذاته، و منهجاً لغوياً شبه مستقل، ويأتي بعد الدراسات البنائية في عملية الإسقاط النقدي في المدرسة النقدية الحديثة. ويشمل علم الدلالة على دراسة المعنى للمفردة في الكلام المنطوق والمكتوب كدال لغوي وعلاقتها بالعالم الحقيقي كمدلول سيسيوثقافي، كما يبحث في المعنى السياقي، والتركيب البنائي للمفردة والذي يشمل على معاني المفردات وعلاقاتها من خلال كل من المترادفات، وتعدد المعنى والمشترك اللفظي، وعدم الانسجام، والإنضواء، والمتضادات([3])، كما يبحث أيضاً في المصاحبة اللغوية ضمن سياق الحال والتعابير الجاهزة([4]).

يشتغل القاص عبد السلام في مجموعته القصصية([5]) التي بين أيدينا على المفارقة النصية كتقنية سردية ذات دلالات ايحائية تحيلنا لثيمة النص الرئيسية بأسلوب فني ممتع وبليغ. والمفارقة (Paradox) كمصطلح لغوي لم تكن معروفة في اللغة العربية، كما أنها مصطلح حديث في اللغة الإنجليزية إذ لم ترد حتى عام (1502) ـ بحسب العالم ميويك ـ ولم تفعل كمصطلح نقدي حتى بداية القرن الثامن عشر([6])، وقد اشتقت من المصطلح الاغريقي (Paradoxons) وتعني عملية إحداث اضطراب فكري ولغوي بقصد ايهام المتلقي بتوقع حدث بينما يحصل العكس منه([7]). وقد استعمل الكثير من الكتاب هذه التقنية في كتاباتهم، يقول أوسكار وايلد في مسرحية (Lady Windermere’s Fan) على لسان اللورد دارلنكتون: “يمكنني مقاومة كل شيء ما عدى الإغراء”، وفي رواية ويليم فوكنر (As I Lay Dying)، يقول على لسان شخصية أدّاي بوندرين: “بالكاد اذكر أبي الذي اعتاد أن يخبرنا على أن سبب حياتنا كانت من أجل الاستعداد للموت على طول الوقت”([8]).

IMG 2546 scaled - قريش
فاتح عبدالسلام

وينضوي([9]) تحت مصطلح المفارقة ثلاثة مصطلحات لغوية ذات معنى فرعي: السخرية (Irony) وهي أداة أدبية يكون فيها ما يبدو أنه يقال أو يتوقع أو يحدث على سطح عمل أدبي مختلف تمامًا عما هو عليه في الواقع([10])، ومصطلح التناقض الفكري (Antithesis) وهو أحد الصور البلاغية للخطاب والتي تورد فكرتان متناقضتان، فهي تركز على معارضة الأفكار الواردة في النص، وقد عبر عنها أرمسترونغ عندما وطئت قدمه سطح القمر عام 1969 فقال: “تلك خطوة صغيرة للإنسان، قفزة هائلة للبشرية جمعاء”، والمصطلح الثالث، هو التناقض اللفظي (Oxymoron) الذي يشير إلى اتصال كلمتين بمعنيين بحيث يناقض أحدهما الآخر([11]). وخير مثال على التناقض في الكلام هو ماورد في مسرحية وليم شكسبير “روميو وجوليت” في مشهد وقوف جوليت في الشرفة وهي تصرح بسبب مغادرة روميو فتقول: “حزن لذيذ”([12]).

ويستخدم العالم ميويك مصطلح المفارقة (Irony) وقد قسمها على قسمين:

أ – المفارقة اللفظية.
ب  – مفارقة الموقف. 
        وحسب ما يشير فإن المفارقة اللفظية نمط كلامي؛ أو طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى المقصود فيها مناقضا أو مخالفا للمعنى الظاهر، وهي نمطان؛ أطلق على الأول أسلوب “الإبراز” وعلى الثاني أسلوب “النقش المضمر”. ([13])
       أما مفارقة الموقف (Situational Irony) الناتجة عن موقف ما، فإنها لا تتضمن بالضرورة وجود شخص يقوم بالمفارقة، لكنها مجرد حالة أو ظرف أو نتيجة لأحداث من شأنها أن تضيف إلى ذلك، ويتم رؤيتها والشعور بها كنتيجة للمفارقة ([14])؛ وقد قسمها على خمسة أقسام هي:
1- مفارقة التنافر البسيط: ويتحقق هذا التنافر حينما يكون هناك تجاور بين ظاهرتين بينهما تنافر شديد، يمكن إدراكه بسهولة.
2- مفارقة الحدث: تتحقق مفارقة الأحداث عندما يكون هناك تناقض أو تعارض بين ما نتوقعه وبين ما يحدث وحينما يكون لدينا وضوح أو ثقة فيما تؤول إليه الأمور، لكن تسارعًا غير متوقع للأحداث يغلب ويخيب توقعاتنا أو خططنا.
3 – المفارقة الدرامية: وهي مفارقة المسرح، فهي وإن كانت متضمنة في أي عمل مسرحي، لكن هذا لا يعنى عدم وجودها خارج المسرح، وهى تكون أبلغ أثرًا عندما يعرف المراقب ما لا تعرفه الضحية. وخير مثال على المفارقة الدرامية ما ورد في مسرحية وليم شكسبير “يوليوس قيصر”، في مشهد عندما يلتفت القيصر إلى صديقه المقرب بروتس لكن الأخير يعاجله بطعنة، فقال القيصر مستغرباً: “بروتس! فليسقط القيصر.” ([15])
4 – مفارقة خداع النفس: ويتمثل هذا النوع من المفارقة حينما يظهر شخص ما بشكل ـ غير واعٍ ـ جهله أو ضعفه أو خطأه أو حماقته بما يقول أو يفعل، وليس بما يحدث له.
 5 – مفارقة الورطة: يذهب ميويك إلى أنه يوجد في هذا النوع من المفارقة مستويان؛ المستوى الأدنى وتمثله ضحية المفارقة، والمستوى الأعلى ويمثله صاحب المفارقة أو المراقب. وهذان المستويان يعارض أحدهما الآخر، حيث تأخذ المفارقة فيه أشكال التناقض الظاهري أو المنطقي أو شكل الورطة ([16]).

         وفي كلا النوعين، المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، يوجد شكل من أشكال المواجهة أو المقابلة حيث يتم وضع شىء بجانب شىء آخر من الأشياء المتعارضة ([17]). وتعد مفارقة الحدث هي المتصلة بالحدث الزمني (Aspect) خاصة الماضي التام المتصل بالحاضر، وهذا الحدث وإن كان قد انتهى في الزمن الماضي ولكنه محفوظ في الذاكرة البعيدة (Long-Term Memory)([18]) بل متجذر فيها ويتم استدعاءه عبر آلية المنعكس الشرطي التي أشار إليها العالم النفسي الروسي إيفان بافلوف، وتعنى رد الفعل التكيفى للكائن تجاه منبه خاص بحيث يكتسب هذا التكيف من وضع الكائن مكررا في الموقف نفسه، وبذلك يظهر تأثيره عبر سلوك الشخصية البطلة (Protagonist)، وتفكيرها وأفعالها المغايرة للواقع المعاش، أو لدى الشخصيات المضادة (Antagonist). 

وفي قصة عين لندن، نجد أن المفارقة اللفظية قد جاءت بشكل مفارقة دلالية عندما لعب المشترك اللفظي دوراً مهماً في تشكيل المشهد الدرامي للحدث، ففي حوار “يوسف”/ الشخصية البطلة، مع صديقته “كوشا” وامها العجوز، يقول: “أجل. أنا ذلك المهندس المعماري الذي تبحثين عنه. أعِدُكِ أن أنسف نصف المدينة في يوم واحد”، (المجموعة:10). وهنا تحدث المشكلة، فهو يقصد بالنسف أي الازالة، من أجل بناء مدينة أجمل وأحدث من تلك المباني القديمة، كما ورد في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً ۝ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ۝ لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ۝} (طه: 105-107)، ولكن هذه المفردة (النسف) لديها مشترك لفظي (Homonymy) من نوع المشترك الصوتي (Homophony) ذو معنى دلالي آخر ومفهوم متناقض متجذر في الذاكرة الجمعية من صنع النظام العالمي الجديد تشير إلى عملية التفجير بعملية إرهابية ، وهذا ما حدث بالفعل عندما فسرت الأم العجوز كلامه بهذا المعنى الأخير، فما كان منها إلّا استدعاء الشرطة للقبض على الإرهابي المفترض الذي يروم نسف نصف لندن!

وفي قصة “الشظية لا تزال في ساقي” يتكرر المشهد هنا ولكن عبر آلية المنعكس الشرطي بما علق في الذاكرة البعيدة من ويلات ومآسي نتيجة الحروب المتكررة والصراعات التي أحدثها الغرب نفسه وبقيت آثارها ماثلة بشكل صدمات نفسية وعاهات جسدية على بطل القصة الواصل لندن قبل ثلاثة أسابيع، “وهذه الشظية التي في ساقي من أين أتت، ألم تأت من ضربة طيار لا أدري أهو أمريكي أم بريطاني”، (المجموعة:38). ثم ما علق في الذاكرة القريبة من حديث مضيفه عن التظاهرات التي قام بها الشعب البريطاني ضد الحرب في ساحة لندن قبل أكثر من أسبوعين، والآن ستكون التظاهرة غداً هي لسواق النقل للمطالبة برفع أجورهم، ولكن الشخصية البطلة علق في ذهنها كلمة “حرب” كمنعكس شرطي: “وحدثت نفسي «قال، ساحة حرب. يا ترى كيف سيكون شكلها؟ مثل حروبنا». (المجموعة:39) وهذا مما أدى بالشخصية إلى الاندفاع وسط المتظاهرين والاعتداء على الشرطة بالضرب لا شعورياً، وعندما تم القاء القبض عليه والتحقيق معه من قبل الضابط كان رده:

  • “أنا أتظاهر ضد الحرب مع المتظاهرين”.
  • لكنك لا تفهم بماذا يهتفون. إنهم يطالبون بزيادة الأجور وتقليل ساعات العمل”.
  • –      “ألم يهتفوا ضدَّ الحرب؟”
  • –      “لم يهتفوا أبداً ضدَّ الحرب”. (المجموعة:44)

وهنا نجد أن الشخصية البطلة قد وضعت نفسها في ورطة لم تكن بالحسبان نتيجة تفسير متناقض لموقف لم يكن معد له مسبقاً. وتتكرر ردة فعل المنعكس الشرطي البافلوفي مع توماس بطل قصة “الناقوس لا يقرع الآحاد” عندما يقترن قرع الناقوس في غير وقت الصلاة بوصول جثة جندي بريطاني من احدى جبهات القتال في الدول التي أُقحموا للقتال فيها، مثل العراق وافغانستان وكذلك سوريا وليبيا واليمن والسودان، وكل دولة تعيش الحرب بفعل أيادي الساسة الملطخة بالدماء والملوثة بالبارود، “فجأة، تمزقت سكينة الخضرة بصوت ناقوس الكنيسة القريبة من السور الخشبي للحديقة…” (المجموعة:64) مما يسبب رهبة تسري في جسده تجبره على الذهاب للكنيسة ليتأكد من النعش الذي وصل هل لإبنه “بيرت” الجندي الذي ارسلوه للقتال في البصرة لسنوات ثم نقلوه لأفغانستان.

ويتكرر الموقف نفسه مع بطل قصة “لحظة الإستنساخ البشري” عندما أنكرته الممرضة التي يعرفها جيداً وعمل معها في نفس المكان ولمدة طويلة، وعلى الرغم من تبرير الراوي لسلوكها الغير مقنع بقوله: “لا بأس هناك كثيرون بدأوا حياة جديدة في لندن ظلوا يرفضون استذكار أيّ شيء عن حياة سابقة.” (المجموعة:78)، إلّا أن هذه الحادثة قد تدخلت في آخر لحظة ومنعته من مصافحة استاذه الذي كان يحلم بلقائه بعد مطاردة مضنية ومتابعة شاقة عبر تقاطعات لندن وشوارعها المزدحمة، ويصف الراوي المشهد بأسلوب بلاغي جميل: “تجمّدتْ تلك اللحظة المجنونة بيني وبينه، ثم تكسرت كمرايا منتحرة، من دون أن يتناثر زجاجها المتشقق. وانبعثت من تلك الصدمة لحظة أخرى،… لأعبر نحو ذلك الرصيف الآخر.” (المجموعة:81) وهذه اللحظة هي التي عبر عنها الكاتب في العنوان “لحظة الاستنساخ البشري” وهو عنوان يحمل مفارقة حدثين في نفس الوقت، وحالتين من التكوين؛ الانسان الأصل/ المتجذر في الوطن، ثم الإنسان المستنسخ/ المنسلخ عنه. 

وفي قصة “ماراثون المسافات القصيرة” نجد شخصية البطل “أبو إسماعيل” قد وقعت تحت تأثير الذاكرة الملوثة بالحروب والصراعات التي أنهكت المواطن العراقي والتي لا طائل منها سوى أنها وضعته في أخر الماراثون بعد أن كان هو بطله وهو الفائز الأول فيه، نعم فهو أول من علم البشرية  نقش الحروف وصياغة الجملة وكتابة النص، وهو الذي شكل أول حضارة، وهو من علم البشرية الأدب والفن، ولكن الحروب الثلاث “تك” الأولى القوية التي أبادت أجيال بكاملها واستنزفت ما استنزفت من موارد البلد وطاقاته، ثم جاءت “التك” الثانية والتي اقحمته في مغامرة هوجاء أنهكت جسده المتعب وما جنى منها سوى حصار دام ثلاث عشرة سنة وخلفت أجيالاً يفتك بها الجوع والجهل والتخلف، ولم يكد يخرج منها حتى ختمها بـ “تك” ثالثة قلبت كيانه رأساً على عقب، وخلفت العنف والتهديد والتغييب والقتل والخراب المبين، “… ولا علاج له في بلدنا المخرَّب، كل الأطباء القدماء تلقّوا تهديدات بالقتل وهاجروا”. (المجموعة:48) فكانت النتيجة أن شاخ هذا الوطن قبل أوان شيخوخته، “الآن يبلغ الخمسين، لكن تبدو عليه علامات الكهولة. ظهره منحنياً…، ويده ترتعش…، وعيناه غائرتا في محجرين عميقين، وخطواته توحي بساقين واهنتين”. (المجموعة:51) حتى بات يبحث عن شخص ينصت إليه ولو لدقيقة كي يوضح له حقيقة نفسه ويسرد له مشكلته بتروي، ولما لم يجد هذا الانسان حتى من عائلته وهم أقرب المقربين له، راح في خداع نفسه بعملية إسقاط نفسي بادعائه فقدان السمع كوسيلة لاحتواء الصدمة، أو قل الصدمات المتكررة التي تعرض لها طوال حياته.

  • “هل شخصوا مرضه؟”
  • –      “كانوا يستهزؤون به ويجدون فيه شخصاً متمارضاً لسبب أو غاية”. (المجموعة:48)

وتحدث المفارقة عندما يتم عرضه على طبيب في الأردن الذي راح يتواصل معه عن طريق الكتابة بحسب نصيحة مرافقيه كل من الزوجة والابن وهو يرد عليه بهدوء وطمأنينة. وبعد أن أكمل الطبيب سماعه لقصة الأب وأخذ في المعاينة ليكتشف أن الأخير لا يعاني من أي علة في حاسة السمع، ولكنه بحاجة إلى شخص ينصت اليه. 

“ثم التفت الطبيب إليهما قائلاً: “كلّ ما قاله أبوك ليس له علاقة بأذنيه، فهما سليمتان…؟ ولو لم أخشَ أن أثقل عليه بالأسئلة المكتوبة لجلست أصغي إليه ساعات.

قال أبو إسماعيل وهو يفرش ابتسامته:

  • دكتور، لا حاجة بك إلى أن تكتب لي أسئلتك على الورقة أنا أسمعك جيداً، والمهم أنك أول شخص يسمعني جيداً”. (المجموعة:57)

وهنا يكمن مربط الفرس، فإن كان أبو إسماعيل قد وجد من يصغي إليه وينتشله من حالته التي وضع فيها، فمتى نجد نحن من يصغي الينا وينتشلنا من واقعنا المزري ويعيدنا إلى وضعنا الطبيعي، وكيف تتم ونحن من سلمنا الأرض لأناس غرباء لحرثها وزراعتها، أما نحن فجلسنا نتفرج ورحنا ننتظر المأمول في رحاب المجهول، “الأرض تتبارك بالإنسان الذي يحرثها ويزرعها أول ما ينزل فيها.” (المجموعة:86)، بل “لا بدَّ من قيام المرء بالحراثة بنفسه. كل امرئ يصنع بركته لذاته ثم تنتشر البركات”. (ص 95)

وتأتي مفارقة الموقف أيضاً في قصة “حديقة عباس في ساوث هول” عندما يعمد عباس الى استغلال دعاية عملية حراثة الأرض على يد أبيه وما نتج عنها من شهرة درت عليه أرباح طائلة عبر انشاء موقع الكتروني باسمه، ولكنه في النهاية يقع في ورطة مع اثنين من رجال القصر الملكي البريطاني الذي يصر أحدهما على مقابلة أبيه من أجل تعديل تعليماته في حراثة الأرض من صاحبها إلى شخص ينوب عنه، ولكن المفاجأة تحدث عندما يرد عباس على الرجل قائلاً:

  • “أنا آسف جداً سيدي لا تستطيع مقابلة أبي”.

اندهش الرجل واحمرت عيناه. ولكنه ظل على هدوئه المتماسك يستمع إلى عباس الذي أكمل:

  • –      “أبي غادر إلى العراق منذ سبع سنوات، وتوفي هناك قبل سنتين”.

وشاء الكاتب أن يختم مجموعته القصصية، بقصة “جنّية الساعة الحادية عشرة” والتي ممكن الحكم عليها على أنها من نوع مفارقة الفكرة (Antithesis)، فالبطل المشار إليه بضمير الأنا قد ظن في شخصية المرأة العجوز التي تسكن في جواره على أنها جنية، وقد استمد هذه الفكرة من حوار مخزون في الذاكرة البعيدة عندما كانت جدته تحدثه عن وجود جني مسلم يسكن في سرداب بيتها:

“قبل ثلاثين سنة كنت أسمع من جدتي أن سرداب منزلها في أقدم أحياء المدينة، كان مسكوناً بجان مؤمن يؤدي الصلوات الخمس كلما توضأ جدي وصلى. سألتها مرة إن كانت ترى بنفسها ذلك الجان. وكانت تقول بثقة أن جدي وحده يراه أحياناً بشكل خاطف. وسألتها ثانية عن حركة ذلك الجان وعمله ولماذا جاء إلى ذلك السرداب…”. (ص 103) ولكن فكرته عنها قد تبددت عندما طلب منه جاره الكاريبي مساعدته في حمل جثة المرأة العجوز التي توفيت قبيل الفجر وكانت هي نفس المرأة العجوز العرجاء التي كان يرقبها من خلف النافذة يومياً وهي تمر عبر الشارع عند الحادية عشر. ولكن البطل يصر على التمترس خلف النافذة في اليوم التالي عند الساعة الحادية عشرة في انتظار جنيته المزعومة. وهنا يشير الكاتب إلى رواسب الماضي العالقة في فكرنا والتي تشدنا إليها مهما حاولنا الفكاك منها. فالجنية لا وجود لها سوى في بنات أفكارنا ونحن من يحاول تأصيلها بعد أن أمسينا مسكونون فيها بدل ما هي تسكننا.

المجموعة القصصية “عين لندن” تعد إضافة إبداعية للمكتبة السردية العربية بما تحمله من أسلوب هادئ ودقة في الوصف ومعالجة ثيمة بطريقة درامية تشد المتلقي وتجعله يسافر عبر شخصياتها جميعاً والتي من الملاحظ أنها كدال نصّي متنوعة المشارب والمآخذ، ولكن تلتقي جميعها في المدلول السِسيوثقافي من خلال الثيمة ومشهد المفارقة.

الهوامش:


([1]  F. R. Palmer, (1976), Semantics, Cambridge University Press, 1st Ed, Cambridge. 

([2]  John Lyons, (1977), Semantics, Cambridge University Press, 1st Ed, Cambridge. 

([3]  F. R. Palmer, (1997), Semantics: A New Outlines, Cambridge University Press, 2nd Ed, Cambridge, Pp 59- 78. 

([4]  F. R. Palmer, Pp 92- 100.

([5]  فاتح عبد السلام، عين لندن، مجموعة قصصية، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، بيروت 2011.

([6] ) Muek , D. C. (1982), Irony and Ironic, Methuen, London, p82.

([7] )  دي سي ميويك، المفارقة وصفاتها، ت عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 (بيروت، 1993)، ص18.

([8]  https://www.masterclass.com

([9] )  عملية الانضواء (Hyponymy) هي تقنية دلالية يتم بموجبها البحث في صيغة واحدة متدرجة في معنى آخر. أنظر:

  • A. P. Cowie, (2013) Semantics, Oxford Press, Oxford. Pp 9-10.  

([10]  https://literarydevices.net/paradox/

([11]  https://literarydevices.net/paradox/

([12]  https://www.masterclass.com

([13] )  دي سي ميويك، المفارقة، مصدر سابق، ص 42-63.

([14]  نجاة علي، المفارقة في النقد الغربي، مجلة نزوى، العدد (53)، سلطنة عمان، 1 يناير، 2008، ص 74.

([15]  في المسرحية المذكورة يقول يوليوس قيصر: “Thou Prots! Caesar fall.“، وهنا يستخدم الممثل صيغة الارتفاع والانخفاض في النبرة الصوتية (intonation) كي يبين تعجبه من الموقف، لذلك ترجمها عدة مترجمون بصيغة: “حتى أنت يا بروتس! فاليمت القيصر اذن”، ولكني ترجمتها مع الحفاظ على روح النص الأصل وتجنبت الإطالة، كما استخدمت مفردة السقوط كمكافئ لمفردة (Fall)، فالملوك يسقطون اولاً، ثم يموتون.

 ([16]  Muek , D. C. (1988)The compass of Irony, Methuen, London and New York, p 102-103. 

([17]  نجاة علي، مصدر سابق.

([18]  يقسم علم النفس الادراكي الذاكرة على ثلاثة أنواع رئيسية: الذاكرة اليومية (Sensory Memory)، والذاكرة القريبة (Short-Term Memory)، والذاكرة البعيدة (Long-Term Memory)، والعلاقة ما بين الثلاثة هي علاقة تشفير وخزن واستدعاء. أنظر: 

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com