ئازاد دارتاش
كاتب من اربيل – العراق
قوباد جلي زادة، من احد الشعراء الكورد الذين استطاعوا بموهبتهم و تجربتهم و ادواتهم الفنية، ان يتركوا بصمات رائعة في قاموس الشعر الحديث، قوباد هذا الشاعر المتمرد الهادئ، يكتب بشكل جميل بحيث يمزج بين المألوف و اللامألوف، يعطي للاشياء بعدا جماليا و عمقا في المعنى. يكتب بلغة شعرية رقيقة، له قاموسه الخاص الخارج و المختلف عن ما هو السائد، لديه من وسائل الطرح و التعبير والالقاء ما يؤهله لجذب انتباه المتلقي. إنه يختار الكلمة و يشحنها بدلالات و معانٍ جديدة، و يكون لذلك اثر على تركيب الجمل و تكوين الصور، يختار تلكم العبارات التي تعبر عن روحه المتمردة و المنحازة للخير و الحق و الجمال.
هذا الشاعر يكتب باسلوب سهل ممتنع، ولكنه بذلك الاسلوب يمزج مابين الواقعي و المتخيل، يعطي للكلمة المألوفة طاقة انفجارية تشدنا الى فضاء القصيدة، و يعطي للجملة تلك المسحة الجمالية التي تجعلنا ان نعيد قراءة قصائده ثانية و نتوقف عند كل كلمة او سطر شعري، لاننا سنرى أن وراء هذه الجُمَل و الكلمات عالماً اخرَ، نحن لا نراه لكن الشاعر يدفعنا كي نحس بوجوده، بوجود عالم جميل و مدهش خلف هذا الواقع المتأزم.
حول الاسلوب والتقنيات اللغوية والفنية الذي تتميز به النصوص الشعرية للشاعر قوباد جلي زادة، يقول الكاتب مكرم الطالباني( يمتاز عمل هذا الشاعر بالتعبير و الجمل القصيرة و المعاني القوية التي تصدم المتلقي و تؤثر فيه ليشعر بجمال تلك التعابير و الابداع الشاعري الجميل المتفرد، الذي يدفعه الي التفاعل مع الصور المعبرة و الاندهاش و الانبهار بها)[1].
قوباد من خلال صوره الشعرية و اسلوبه السلس و عباراته الجريئة، يريد ان يقول لنا ، بانَّ الجمال رغم بؤسنا و شقائنا مازال موجوداً فينا، و إن تأملنا في أشياء و مفردات هذا الكون اللامتناهي سنراه في كل مكان. و حتى القبح ليس خاليا من الجمال بصورة من صوره، حيث النزعة الانسانية هي اللبة الأساسية والفكرة المركزية في كل نصوصه، هذه النزعة التي تثق بالانسان و التي تعتبره سعادة الانسان و رفاهيته ينبغي أن يكون الهدف الذي نسعى اليه.
قوباد شأنه شأن الكثير من الشعراء و المفكرين يرى بأنّ الانسان هو من اجمل الكائنات، يبدو أنَّ الشاعر الكردي قوباد جلي زادة، قد ضاق هو الأخر من اليقينيات و تأثر بالفلسفه الأنسانوية، التي تسعى الى أعادة الاعتبار للانسان بوصفه يستطيع تحقيق ذاته و ممارسة حريته و ادارة اموره خارج الدوائر التقليدية والمعابد المغلقة التي لا تنتج الا المزيد من التطرف و التعصب.
حين اقرأ قصائد قوباد اشعر بأنّني امام اديب محترف، حيث يلعب بالكلمات بمهارة، حين اتوقع بأن يصنع منهم شيئا ما قريب من المتداول لدينا ثقافة و شعرا، لكن سرعان ما يجعلني انصدم حين اراه يحلق عاليا، خارجا عن المألوف ليضعني امام مشهد غرائبي، اراه مالكاً لعناصر الدهشة المتمثلة في جمالية الصور الشعرية التي يخلقها بلغة رقيقة عبر الفكرة البسيطة التي يحولها الى سؤال وجودي فضائي، عابر للأمكنة و الأزمنة المتعارفة:
يقول قوباد في احدى قصائده:
تخليتُ عن كُلّ الاشياء …
انهمكتُ بمدّ جسر الصراط
لك أنت.
هذا البعد الانساني يبدو واضحا خلف هذه الجُمل الشعرية، لعل الشاعر يشعر بالخيبة و الأنكسار حين يرى أنّ ثقافة الدمار و الهدم هي السائدة و منطق ارسال الآخر الى الجحيم هو المهيمن على تفكيرنا ويحدد مسار اتجاهاتنا الفكرية، لذلك يسعى من خلال الطرح الفكري و التشكيل الفني الى إرساء اسس ثقافية و فنية اخرى مختلفة، يسعى الى معانقة المختلف معه فكريا و العمل معه من اجل تطهيره من خطاياه.
نرى في هذه الاسطر الشعرية تناصّاً مع القصص الدينية و لكنه تناص يضفي المزيد من الجمالية على النص، تناص من نمط اخر. أخذ الشاعر الفكرة من النص الديني لكنه تمرد عليها واعاد صياغتها بشكل اخر، لعل هذا الشكل من التناص يتفق مع التعريف الذي طرحه ميخائيل باختين حين قال( التناص هو امتصاص أو تشرّب لنص اخر أو تحول عنه)، حيث العلاقة بينهما هي علاقة تحويل و محاكاة و الشاعر هنا كتب نصا موازيا للنص الأصلي، لكنه يختلف عنه في الطرح و المعالجة، المعروف في القصص الدينية و خصوصا في الدين الأسلامي بأن الصراط هو الجسر أو الطريق المستقيم و هو موقف من مواقف القيامة، جسر يمر فوق جهنم و هو أدق من الشعرة و أحدّ من السيف، ليمر عليه المؤمنون الى جنات النعيم و المشركون الى جهنم و بئس المصير، فهو قنطرة بين الجنة و النار( كما جاء في صحيح المسلم)، اذن هو الجسر الذي يسأل فيه الانسان عن عقيدته و أعماله، هنا لا أرى بأنّ الشاعر قد أساء للنص الديني، (حيث في الكثير من المناسبات أتهم قوباد بأنه يسيء أو يتجاوز على النص المقدس!!)، و هنا حين يقول( أنهمكت بمد جسر الصراط ..لك انت)، قد يكون هناك نوع من التحوير أو تبديل، لكن ليس هناك اي مساس بالنص الاصلي أو أي تدنيس له، هو تحوير مجازي يخدم غرضاً فنياً، هذا الخروج عن المألوف له ابعاد فنية و جمالية و اخرى فكرية.
الشاعر يوظف النص الديني و الاسطوري و التأريخي توظيفا فنيا، لأنه يرى في هذا النص ما يؤهله لأن يكون مصدراً مهماً و ثرياً من مصادر تخصيب الخيال و توليد الصور و التقاط الفكرة.
البنية الشعرية لدى قوباد كغيره من شعراء الحداثة مليئة بالرموز الدينية و التاريخية، هو يرى في تلكم الرموز و المواقف المعادل الموضوعي أو الوعاء الذي عن طريقه يستطيع التعبير عن مشاعره و عواطفه و أحاسيسه بصورة فنية.
قوبادي جلي زادة وظّف هذا الرمز الديني و استطاع بذلك أن يخلق مسافة التوتر لإنتاج الشعرية، استطاع الوصول الى الغاية في خلق الفضاء الشعري كي يكون للنص ابعادا جمالية و فنية و فكرية و يفسح الطريق امام المتلقي للتأمل العميق في محتوى القصيدة.
قوبادي جلي زاده، قبل ان يكون شاعرا، كان انسانا رقيقا يحمل معه مشروعا فكريا و نزعة انسانية متفائلة، (كن جميلا، سترى الوجود جميلا) .
لا أعتقد بأن قوباد قد أخذ هذه العبارة من الشاعر العربي ايليا ابو الماضي أو تأثر بها، لكن هذه العبارة تتفق تماما مع نهجه الفكري و مساره الفني، ارى بأن مثل هذه أو النزعة هي التي غدت النبراس الذي يسير به و عليه و قوباد الشاعر لا يختلف كثيرا عن قوباد الأنسان، فهو يعبر عن ذاته و مشروعه الفكري بأدوات فنيه و صور شعريه رقيقة و لغة شفافه.
الجملة الشعرية لديه قد لا تخلو من الضبابية، لكن هذه الضبابية سرعان ما تتلاشى ليظهر لنا ما خلفها من الجمال و فكر عميق و رؤية واقعية ممزوجة بخياله الخلاق:
الحرب
الحربُ توقّفت
الآن، ما الغنيمةُ،
إنْ فقد القمر نهداً !؟
الحربُ توقّفت…
الآن ما الأمل ،
إنْ كانت شفةُ الثلج ملطخةً بالدم!؟[2]
هنا يتعامل الشاعر مع نص الحرب، تعاملا عاطفيا و وجدانيا، إذْ يأخذ من الواقع موضوع الحرب و يمزجه بخياله، لنكتشف بأن العالم الداخلي للشاعر لا يختلف عن العالم المتأزم الذي نعيش فيه، يأخذ الفكرة من الواقع أو الحدث الذي تأثر به، الى داخله و بخياله يعطي للنص الواقعي ابعادا اخرى و ليعيده ألينا و لكن بشكل اخر يختلف عن شكله الواقعي نراه بل يعيد صياغة الحدث بشكل ملئ بالتفجيرات العاطفية و الهزات البركانية، نرى الشاعر يركز على عنصر الخيال، حيث لا يمكن أن يكون هناك عمل شعري من دون أن يكون لعنصر الخيال دور محوري في عملية خلق هذا العمل الفني، ارى بأن الشاعر استطاع ان يتعامل مع هذا العنصر تعاملا أيجابيا، جمع مابين بعدين مختلفين، البعد الفكري والبعد الجمالي، حيث استطاع ان يحفظ التوازن بين العنصرين المختلفين، و يعطي لكل عنصر المساحة التي تلائم مشروعه الفني و الفكري، حيث للشاعر (كما أشرنا اليه سابقا) مشروع فكري وانساني، يرى الآخر بصورة مختلفة، لا يراه عدوى او يمثل جانب الشر، بل يرى بأن لكل منا خطاياه و علينا ان نعمل من أجل تطهير انفسنا، بذلك استطيع القول بأن هناك نزعة صوفية في قصائد قوباد و لكنها لا تظهر بصورة واضحة بل هي متخفية في الفكرة و وراء الجمل و في ثنايا الصورة الشعرية:
الهي ..
إنَّ اللحظات التي تمنحها لإرهابي كي يذبح بها طفلا..
، لم لا تمنحها للعشاق المتلهفين ..
ليمارسوا حب فيهاَ!!؟[3].
الشاعر يلجأ الى أسلوب المناجاة، وكما هو معروف بأن هذا الأسلوب هو أسلوب تعبيري/مجازي/فني، يلجأ اليه الشاعر للتعبير عن ذاته و أزمته و مشاعره الشخصية و هذا ما يفسر أرتباط أسلوب المناجاة بالجانب الروحي، ومن خلال المناجاة تتسع الدلالات و الرؤى الشعرية داخل القصيدة.[4]، الهاجس الأول في المناجاة هو أثارة السؤال( لم لا تمنحها للعشاق؟) و مبدأ الحوار يقوم اساسا على اثارة السؤال، حيث يقول المفكر د. عبدالحميد جريوي:( المناجاة هي خطاب صوفي استغراقي يقوم على مبدأ الحوار في شكليه المونولوجي و الديالوجي و الذات الالهية، وقد ينفتح النص على فضاءات أخرى تستدعيها طبيعة المناجاة نفسها، وفي هذا الخطاب ينقل المناجي رغبته في الأتصال و القرب بلغة شفافة هامسه في ظل أجواء روحانية خالصة تتأرجح بين حالي الهيبة و الأنس)[5]، المناجاة تعبير مجازي لها جذور تأريخية و دينية و فلسفية في الاداب العالمية و خاصة عند شعراء المتصوفة، حيث تعبر المناجاة عن عجز المناجي عن فهم الظواهر و تفسيرها لذلك يقف حائرا أمامهم و من هنا يلجأ الى الذات الألهية و التقرب منها، الذي يقف حائرا و بذلك يخلق فضاءا أيحائيا مفتوحا.:
الهي…
ان بحار السموم المترامية،
التي تضعها يوميا في قبضة الارهابي،
كي يعدمَ فيها الجَمال،
لماذا لا تجعلها نبعَ سكر و تبتل به ريق رضيع يتيم!!؟[6]
من خلال السؤال نستنتج بأن الشاعر يمر بأزمة روحية وجدانيه، أزمة غياب معنى تفشي ظاهرة تفشي ظاهرة الارهاب في المجتمع المعاصر، يرى بأن العقل البشري بكل منجزاته غدا عاجزا عن دراسة هذه الظاهرة، لذلك يلجأ الشاعر الي الذات الالهية و هذا اللجوء أو بالأحرى تلك المناجاة هي التي منحت للنص مسحة جمالية ثرية بدلالاتها ، هي التي اعطت تلك القوة التي بأستطاعتها جذب انتباه القراء و اثارتهم، حيث أن قوباد الشاعر لا يقف عند تخوم الشئ بل يتعمق فيها و يمشي سبر اغوارها، ليضعنا أمام اسئلة وجودية من الصعب أن نتفق جميعا على اجابة واحدة، لكن يمكننا و من خلال الحوار ان نتقارب و نتفق على رؤية واضحة، ان حيث النص لديه مفتوح أمام كل الأحتمالات، بذلك يفتح المجال امامنا كي نختلف و نتحاور و نتصالح.
[1] مكرم الطالباني/ قراءة في ديوان فان ايروتيك للشاعر قوباد جلي زادة، 25شباط 2007، ديوان العرب
[2] النسر وشعراء من وطن الثلج والنار،للمترجم بدل رفو \عن دار الشؤون الثقافية في بغداد،العراق 2013، صفحة 251
[4] أنظر، أسلوب الأمناجاة في مجموعة ( مرد روحي) للشاعر عباس اليوسفي/ د.فرج الحطاب، الحوار المتمدن، 14/10/ 2020
[5] شعرية الخطاب في المناجاة الصوفية/ عبدالحميد جريوي/ جامعة لخضر باتنه/ 2013 ، ص4
[6] مكرم الطالباني/ قراءة في ديوان فان ايروتيك للشاعر قوباد جلي زادة، 25شباط 2007، ديوان العرب
المقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة