د. عثمان بوطسان
، كاتب وباحث مغربي
يُعَدُّ حسن حصاري من الأصوات الشعرية البارزة في المشهد الأدبي المغربي. شاعر بلغةٍ تتأرجحُ بين السخرية والاغتراب، جعل من الشعر جسرا يربط بين العوالم والفلسفات الشعرية المختلفة، ليجعل من القصيدة وهوامشها مشاهدًا تعكس تجربة شعرية مُتفردة. نَشَر ديوانه الشعري الأول ” أضغاث يقظة مفطرة” سنة 2020 عن دار سليكي أخوين بطنجة، دون أن ننسى مشاركاته في مجموعة من الدواوين الشعرية الجماعية في الوطن العربي. تتسم نصوص حسن حصاري الشعرية بتحررها من قيود اللغة، فهي أشبه برحلة خارج المکان والزمان، نصوصٌ مُنسوجةٌ من وحي خيال خصبٍ وتجربة فريدةٍ لا تعرف الاستقرار وتتجدد فيها الروحُ الشعريةُ باستمرار. يمكن للقارئ أن يعيش حالة الاغتراب و التنقًّل من لونٍ شعري إلى آخر، فقصائد حسن حصاري تخلقُ في داخلنا إحساسا بالرغبة الفارغة المفرطة. تعبر أيضا هذه القصائد عن الشعور بالشتات وتفسخ الهویة، فتتحول الغرفة كمكان تنعزل فيه روح الشاعر إلى أشبهَ بمنفى تتداخل فيه الفصول ويعبر فيه الصمت الثقيل عن تجربة الغربة والضياع. ولا شك في أن الشاعر يجد متعة في غربته أو ما يسميه تیودور أودورنو بـ”مُتَع المَنْفَى” حتى لو كان هذا المنفى مجرد تجربة رمزية تدفع صاحبها للتعبير عن وطأة الاغتراب، إلا أنها تمنح للقارئ متعة الاندهاش والتيه في متاهات العزلة.
1 – متى بدأت رحلتك مع الشعر؟
هي في الأساس، لم تكن رحلة فقط لعبور مسافات لغة جمالية أتربَّص بها، أو استشراف أمكنة إبداعية أتخيلها، برغبةٍ مرصودة من أطياف أحلام طفل كنته. هو الشعر، سكنني بوهجه الدائم منذ طفولتي، حيث قادني شغف القراءة المُبكر، إلى اكتشاف عوالم رحبة للكتابة سردا وشعرا، أججت بداخلي رغبة تحقيق حلم كبير، هو أن أصبح كاتبا. من هنا انطلقت بداية، في تجربة كتابة خربشات أدبية، وفيما يشبه في نظري، خواطر وأشعار وقصص، مُتمَثلا في مسيرتي، خطوات بعض من قرأت لهم من رواد كتاب القصة والرواية والشعر العرب آنذاك. إلا أن كفة الشعر، وخاصة القصيدة العمودية الموزونة، سواء تلك التي تعود الى العصر الجاهلي أو ما بعده، ألهمتني نشوة تقليد بعض أشطرها وأبياتها. ثم تعمقت بعد ذلك، تجربتي مع ما قرأته من قصائد شعر التفعيلة التي فتحت أمامي آفاقا واسعة للقدرة على التخييل والسفر بالذات، إلى حيث أشعر أني أولد من جديد، خاصة مع امتلاكي لمجموعة من المواهب والمهارات الفنية والإبداعية: كالرسم والخط والموسيقى والغناء والتمثيل.. وقد شاركت حينها بقراءة ما كتبته في لقاءات ومناسبات بداخل المؤسسات التعليمية بجميع أسلاكها، إلى حين وصولي إلى المستوى الجامعي، متابعا تكويني في دراسة الأدب العربي الحديث، حيث بدأت تتكون لدي، ومع توسيع مصادر قراءتي للدراسات النقدية والدواوين الشعرية، معالم طريق مشجعة في تجربة الكتابة الشعرية بأسلوبي الخاص.
2 – لماذا الشعر وليس جنسا أدبيا آخر؟
اخترت الشعر بوعي، كجنس أدبي متفرد في بناء آفاق رؤاه الواسعة والعميقة إلى الحياة، حيث أجده الأقرب إلى وجداني، فمن خلاله أستطيع أن أعرب عن كل مشاعري وأحاسيسي، تجاه القضايا التي تستأثر باهتمامي ولها ارتباط بالذات والآخر. فالكتابة الشعرية، فن يتطلب حسا جارفا، واصغاء عميقا لدواخل الذات وخارجها، وامتلاك رؤيا شعرية واسعة، مدعمة بتكوين معرفي ولغوي متمكن من أدواته، للتمكن من القدرة على التعبير، وترجمة الأحاسيس إلى صور مجسدة من خلال بِنية كلمات ذات بُعدٍ جمالي وفني عميق.
3 – هل كان للشعر تأثير على حياتك، وبمن تأثرت في تجربتك الشعرية؟
الشعر في تجلياته الفنية الراهنة، في شساعة أفق زمنه، في جمالية تشكيل بنيته التي تحررت من قيودها النمطية القديمة، شكل بالنسبة لي ملاذا أساسيا للانعتاق من العزلة بداخلي .. تلك العزلة التي تدفع بي إلى قبول الأمر الواقع في الحياة حتى بكل أوهامه المضللة أحيانا، والمتفشية في سلوكيات مجتمعية تدعو إلى الاستسلام أمام قهر قوة عالم يتغير باستمرار، ويهدف بنظامه الجديد، مكننة ورقمنة الإنسان.
فالشعر، وهبني حياة ثانية موازية للحياة التي أعيشها بكل ثقل في الواقع، حياة ابداعية منفردة في خاصيتها الزمنية اللامتناهية، أنظر من خلالها إلى ما بداخلي وما بالآخر، بكثير من جرأة هدم وبناء بعض المفاهيم التي تمارس علينا ضغط التسليم بها، حتى وإن تعارضت مع ما نراه أجدى لكينونتنا كأفراد مجتمع لهم الحق في تصور طبيعة وجودهم في هذه الحياة، خاصة مع تأثري بالمدرسة الواقعية في الشعر الحديث، والتي أدركتُ أن مرتكزاتها عموما تقوم على تقدير قيمة الإنسان، وبكل ما يختلج نفسيته من طموح وتطلعات لتحقيق غذ أفضل. أما على مستوى التأثر بالتجارب الشعرية لشعراء بعينهم، أسجل بأنني تأثرت بكثير منهم، تأثيرا يتفاوت حسب تجاوبي مع تجربة كل واحد منهم، فبعض شعراء الحداثة، تركوا بصماتهم في نصوصي، خاصة تلك التي ارتبطت بمفهوم الشعر الملتزم. غير أني حاليا، وبعد نضج تجربة الكتابة الشعرية لدي، أكتب بأسلوبي الخاص. أكتب كما كنت أحلم بأن أكون، ولو أني حققت ذلك متأخرا، وهذا أعتبره انجازا كبيرا، من خلال اصدار مجموعتي الشعرية الأولى: ” أضغاث يقظة مفرطة “
4 – كيف تجد الساحة الشعرية المغربية، وهل ما يزال الشعر حيا في زمن الرواية والسينما؟
فعلا، ما يزال الشعر حيا في زمن الرواية والسينما، ولو أن هناك توجه ملحوظ للكُتاب نحو كتابة الرواية، وتخصيص جوائز سنوية للاحتفاء بها من طرف المؤسسات الثقافية العربية. فالساحة الشعرية المغربية أراها مستمرة في مسيرتها الإبداعية، تؤسس لكتابة مبنية على قواعد رؤى لجماليات نصوص تتسم بالتجديد والدهشة، تعكس فهما وتلقيا جديدين لحركية الكون الشعري. فهناك اليوم حساسيات شعرية منبعثة بأصوات جديدة، اشتغلت خارج رعاية الاعلام الحزبي المحابي، تستنير بمتخيلها الفردي والجمعي في تنوعه الجغرافي: القصيدة الأمازيغية، القصيدة الحسانية، القصيدة الزجلية، وفي بعده المعرفي: القصيدة الحديثة، قصيدة النثر، التي أنتمي إليها، والتي انفتحت بشكل واسع جدا، على عوالم مختلفة لآفاق رحبة من الرؤى الجديدة في الكون والحياة ..
وأسجل بهذه المناسبة، أن هناك مجموعة من الأعمال الشعرية التي وقعت حضورها في السنوات الأخيرة، تنتظر فرصة مقاربتها لتدخل مجال التداول، لتحظى بفرصة الانتشار. فالملاحظ أنه منذ بداية الستينات التي أشرت على دخول الابداع الشعري المغربي مرحلة التحولات الجوهرية التي لامست معنى الشعر، كانت هناك حركة نقدية تتسم بالدينامية، بعد أن استوعبت السجال النقدي المشرقي وانفتاحها على النقد الغربي عموما والفرنسي بشكل خاص، حيث بزغت حركة نقدية تناولت على الأقل، الشعر المغربي بالتحليل، انطلاقا من وجهات نظر مختلفة، متسلحة بالبحث الرصين تارة، وتارة كانت تقتصر على كتابات يغلب عليها الطابع الانطباعي والصحفي العابر.
اليوم، نجد النقد في غيبوبة، أو أقول، متبرما من الالتفات إلى الكتابة الشعرية، عكس ما نراه مقابل ذلك من انبعاث طفرة كبيرة في الإبداع الشعري. فهذا الوضع المترسخ للشعر، أصبح كافيا لتحفيز النقد على استنطاق ودراسة النصوص الشعرية الجديدة، من خلال نقد يتسم بالموضوعية، واعيا بخلفياته النظرية والمفاهيمية ومساره المنهجي. وعليه أيضا، أن يلتفت لحضور الصوت الشعري النسوي كممارسة ذات قيمة إضافية لفعل الكتابة الشعرية باعتباره قضية جمالية، وقضية انطولوجية. فالساحة الشعرية المغربية تزخر منه بأسماء ذات قيمة مضافة للقصيدة المغربية المعاصرة / قصيدة النثر، وهو واقع ابداعي فرض نفسه بقوة. لكن كيف نمنحه تلقيا نقديا وفعل قراءة؟، كيف نخلق وعيا شاملا به لدى المتلقي؟ إذا ظل النقد بعيدا عنه، ومحتفيا فقط بالمكرسين في تناوله للكتابة الشعرية بالمغرب بشكل عام.
وأشير أن حاضر القصيدة المغربية، مرتبط براهن القصيدة العربية، فهو يتفاعل معها بتجاوب كبير، لأنه يجمعهما كون شعري يتطور من خلال اللغة. فالشعر يتأثر بقيم المرحلة ويتأثر بالجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ذلك أن الراهن الثقافي جزء لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية.
5 – هل يعكس ديوان ” أضغاث يقظة مفرطة ” تجربة شخصية، أم أن لقصائدك جذورا أخرى؟
بين هذا وذاك .. فصراحة، ما كان في اعتقادي يوما ما، أنه سيكون بمقدوري اصدار ديوان شعري، خاصة بعد توقفي لسنوات طويلة جدا عن الكتابة الشعرية، وليس المتابعة الشعرية. هذه المفارقة الغريبة التي طبعتني في علاقة شغفي بالشعر، وفي نفس الوقت، عدم مواصلة احتضانه من خلال الاحتفاء به قراءة وكتابة، مردها توقف يائس، لإحساسي بصدمة تناقض بين ما كتبته في بداياتي من نصوص شعرية، تحمل في طياتها طموحات طافحة برغبة في تحقيق تغيير ذاتي ومجتمعي، والواقع المرير الذي واجهته، بعد الاشتغال في قطاع وظيفي غريب عن توجهي الأدبي، والذي أفقدني حتى الأمل في حق الحلم بالثقة في النفس لمواجهته من جديد.
” أضغاث يقظة مفرطة ” عنوان لكتابة شعرية أراها متفردة بخصوصيتي في صياغة بنائها، وتجربة ذاتية تراكمت بداخلها العديد من روافد المعطيات النفسية والثقافية والعاطفية، تستحضر لدي كينونتها الرمزية، بكل ما توظفه من مرجعيات فكرية وأدبية وفنية، تنطلق في صياغة رؤيا جمالية لبناء ايقاعات متعددة للصور الفنية، وأساليب التعبير الشعرية. تستلهم أيضا من الحياة، أهم منطلقات روافد تجربة شعرية، مكتظة بشظايا أوجاع الذات وانتظاراتها وعواطفها المتداخلة؛ قُبحا وجمالا..
عذراً التعليقات مغلقة