الموصل – مروان ياسين الدليمي
خلال الاشهر الخمسة الاخيرة من العام 2017 حرصت الحكومة العراقية على اقامة احتفالات رسمية بعد نهاية معركة الجانب الغربي(الأيمن)من مدينة الموصل ضد تنظيم دولة خلافة (داعش )وخلف صورة الاحتفالات بالنصر ليس بإمكان الاطراف المشاركة في القتال إنكار أو اخفاء الادلة التي تؤكد على أن عملية ابادة جماعية قد ارتكبت بحق المدنيين،بسبب اخطاء كبيرة اقترفت اثناء تنفيذ عملية التحرير،وهناك شواهد كثيرة دامغة تشير اليها،ابرزها عشرات الجثث لضحايا مدنيين،جلهم من النساء والرجال والاطفال من سكان المدينة الاصليين،لم يكن لهم صلة بعناصر تنظيم داعش، ولم يكن لهم مكان يفرون اليه سوى بيوتهم المتهالكة في البلدة القديمة خاصة ، تم التعامل معهم على انهم حواضن للتنظيم،بذريعة انهم لم يغادروا المدينة،بمعنى ان الحكم كان قد صدر عليهم مسبقا قبل البدء بعملية التحرير.
حكم مسبق
ان نظرة سريعة الى مواقع التواصل الاجتماعي قبل بدء عملية التحرير ستقدم لنا الكثيرمن الاصوات التي كانت تشيطن من تبقى من المدنيين في الموصل، ومن بين تلك الاصوات اسماء مؤثرة في الوسط السياسي الشيعي، بينهم مَن يرتدي عمامة رجل الدين، واخرون يتزعمون مليشيات، ولم يكن بعض القادة السياسيين والبرلمانين بمنأى عن هذه السياسة التي شيطنة الاف المختطفين المدنيين لدى تنظيم داعش ،حتى ان احد قادة الميليشيات قال بان”المعركة في الموصل ماهي الا معركة جيش الحسين مع احفاد قتلته ” !!! ،وهنا يطرح سؤال :لماذا هذا الربط القسري التاريخي في قضية تحرير الموصل بكل تعقيداتها الدولية،مع حدث مضى عليه 1400 عام ؟
مايؤسف له في حينه انه لم يصدر اي رد فعل رافض من قبل الحكومة العراقية ازاء هذه التصريحات التي كانت تحشد البيئة الطائفية ضد الموصليين، وتحديدا ضد العرب السنة.
ملف مغلق
تحت ركام البيوت في مدينة الموصل القديمة مازالت جثث العديد من المدنيين مدفونة تنتظرمن ينتشلها ليدفنها رغم مرور خمسة اعوام على تحرير الموصل،( حيدر العبادي رئيس الوزراء الاسبق اعلن في 10 من تموز/يوليو 2017 عن تحرير مدينة الموصل بالكامل) يُلاحظ على الجهات الحكومية العليا في بغداد في تعاملها مع الملفات التي ترتبت عن تحرير المدينة – وهي كثيرة جدا – كما لو انها لاتكتسب اهمية تتناسب مع حجم اضرارها المادية والاجتماعية والنفسية،وتبدو الجهات الرسمية المعنية قد ركنت ملف الموصل جانبا ما أن انتهى القتال فيها،وحتى الخطوات التي اتخذت في الفترة الاخيرة فهي تبدو خجولة بالقياس الى مايبنغي القيام به من مسؤوليات .
الابرز في هذا الملف انه ليس هناك من مؤشرات على ان الحكومة العراقية لديها النية او الاستعداد لأن تفتح ملف سقوط الموصل لمعرفة ملابسات هذه الكارثة، مع انها القضية الأهم، وربما لأن بين سطور الملف شخصيات رسمية عراقية عليها شبهات بتورطها في قضية سقوطها،سبق ان اشار اليها تقريرلجنة البرلمان العراقي التي شكلها،لمعرفة اسباب ماحدث،لكن التقرير تم غلقه،رغم ماجاء فيه من تشخيص لاسباب ونتائج السقوط.
قضايا تنتظر
هناك عديد القضايا الانسانية المهمة المتعلقة بموضوعة سقوط وتحرير الموصل وضعت في خانة النسيان،في مقدمتها ملف جثث المدنيين الذين مازالوا تحت الانقاض في المدينة القديمة اضافة الى ملفات اخرى مثل إعمار الابنية المدمرة،تعويض المتضررين بسبب الحرب،مئات النازحين في المخيمات،اضافة الى مئات المعتقلين من المدنيين العزل الذين تم اعتقالهم من قبل القوات الحكومية العراقية اثناء العمليات العسكرية،وبهذا السياق تشير المنظمات المعنية بحقوق الانسان الى ان عددهم يصل الى 3000 معتقل ولاأحد يعلم السجون التي تم ايداعهم فيها،خاصة وان الحكومة العراقية لم تقدم اجابة واضحة حول مصيرهم،رغم كثرة المطالبات التي وصلتها بهذا الخصوص من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية .
وراء تجاهل هذه الملفات هناك مصالح مشتركة بين اطراف محلية واقليمية ودولية، ولعل قضية الدمار “الممنهج” الذي تعرضت له المدينة في مقدمة هذه الملفات التي يتم تجاهلها، إذ تسعى هذه الاطراف الى التقليل من حجم الكارثة التي لم تشهد الموصل مثيلا لها منذ عشرات السنين، ولم تستطع الكوارث التي مرت عليها خلال عشرات السنين من فيضانات وغزوات واوبئة وجوع، أن تلحق بها ضررا كارثيا مثل الذي نتج عن الحرب الاخيرة لانها تسببت باختفاء عشرات المواقع التاريخية والحضارية والدينية عن الوجود من بعد ان تحولت الى انقاض .
تبلغ مساحة الجانب الأيمن من الموصل 40 % من المساحة الاجمالية للمدينة بجانبيها،ويضم اكثر من نصف الاحياء السكنية للمدينة،إذ يبلغ عددها 99 حيا ومنطقة سكنية من اصل 183 .
احصائيات حول الكارثة
في منتصف شهر يوليو(تموز) 2017نشرت صحيفة الاندبندت البريطانية تقريرا لمراسلها في الموصل (باتريك كوبيرن) حول نتيجة العمليات العسكرية في الجانب الغربي(الايمن)والتي كانت قد بدأت بتاريخ الاحد 19 فبراير (شباط) 2017 وانتهت بتاريخ الاثنين 10 يوليو(تموز) 2017، وجاء في التقرير معلومات عن سقوط اكثر من 40 الف قتيل بين صفوف المدنيين العزل(نساء ورجال واطفال)واعتبرته الصحيفة “من بين اكثر حِصارات المدن في تاريخ العالم قتلى” كما وصَفَت في حينها صمت العالم تجاه ذلك بأنه “مخجِل ” . ويمكن الاشارة بهذا السياق الى ان من مجموع 23الف وحدة سكنية تضمها المدينة القديمة تم تدمير 11 الف وحدة سكنية بشكل تام، وماتبقى لم يعد صالحا للسكن بسبب الدمار الكبير الذي لحق بها ، حسب ما اشارت تقارير ميدانية ،كانت قد اعدتها جهات رسمية عراقية اضافة الى منظمات دولية .
الاهمية التاريخية
في ما لو عدنا الى المصادر التاريخية لمعرفة الاهمية التي تختزنها هذه المساحة الجغرافية الصغيرة(مدينة الموصل القديمة)سنجد بانها كانت تضم على سبيل المثال اكثر من 50 مدرسة دينية ملحقة بالجوامع والمساجد ، اسسها تجار وعلماء وحكام الموصل ،على مدى قرون ،وكان ذلك مدعاة فخر لمن كان يتحمل مسؤولية تاسيس مدرسة،وقد استمر عمل المدارس ولم يتوقف حتى سقوط المدينة تحت سلطة داعش في 10 يونيو(حزيران)2017 ، وبعض تلك المدارس استمر بالعمل سرا حتى اثناء حكم داعش،وكان قسم منها يحظى بشهرة كبيرة بين اوساط الدارسين نظرا لما لعبته من دور مهم في نهضة المدينة من الناحية الثقافية.وتشير المراجع التاريخية الى ان بعضها يعود تأسيسها الى القرن الحادي العاشر الميلادي مثل مدرسة(جامع العمرية)في محلة الشيخ محمد،حيث تم انشاءها عام 971 م من قبل قاسم العمري بن حسن ،الذي يعد جد الاسرة العمرية في الموصل. ومدرسة(جامع خزام) في محلة خزام بُنيت عام 1107 م وتولى في ما بعد الشيخ ابو الهدى الصيادي تحسينها في زمن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.وقد تخرج مئات الطلبة من هذه المدارس بعد ان تلقوا فيها دروسا في علوم الدين الاسلامي.ومما كانت تتسم به ايضا احتواءها على مكتبات ضمّت مؤلفات ومخطوطات نادرة في الطب والأدب والفلك والنحو.وعلى سبيل المثال فإن مكتبة الاوقاف العامة كانت تضم قبل تدميرها مئات المخطوطات النادرة التي لم تُحَقَّق بعد،ومعظم هذه المخطوطات كان اهالي الموصل قد اوقفوها في المكتبة.
شريان اقتصادي
من الناحية الاقتصادية فإن الموصل القديمة كانت المركز التجاري الذي تتواجد فيه العائلات الثرية المؤلفة من طبقة التجار وملاك الاراض الزراعية،ولهذا كانت بمثابة القلب الذي يمد بقية اعضاء الجسم بنسغ الحياة ليس لعموم محافظة نينوى فقط إنما لبقية مدن العراق الاخرى، إذ تتواجد فيها المخازن والاسواق الرئيسة لكبار التجار والتي كانت تحوي كافة المواد التي يحتاجها السكان من اغذية وملابس وادوية واجهزة كهربائية اضافة الى سوق الاوراق المالية والذهب والحديد والجلود والاخشاب،وهي على تلك الصورة كانت تعكس هويتها المحلية وخصوصيتها التي تنفرد بها عن بقية مدن العراق،ووصل عددها الى اكثر من30سوقا شهيرا ابرزها:سوق باب الطّوب،سوق هَرَج،سوق العطّارين،سوق باب الجسر، سوق العَتمَة(الظلمة)،سوق الكوَّازين..الخ.
اهمية هذه الاسواق تأتي من موقعها الجغرافي إذ تقع في وسط المدينة، وحولها تتجمع معظم المؤسسات والدوائر الحكومية،من مصارف وبنوك، وقد اكتسبت اسمائها من اكثرية المهن التي تتواجد فيها.
من جانب آخر كان هذا الجزء من الموصل يحتوي على 20 مؤسسة حكومية،بضمنها سبع مستشفيات كبرى،في مقدمتها المستشفى العام والمستشفى الجمهوري مع 15 مركزا صحيا اضافة الى مبنى كلية طب جامعة الموصل،التي تعد من اعرق الكليات في العراق،ويعود تاريخ تاسيسها الى 14 يوليو(تموز)1959.وفي ما لو اتيحت لإي زائر ان يتجول في هذه الاماكن بعد تحريرها سيصاب بصدمة،لأنه سيقف امام صورة مرعبة انتهى اليها هذا التاريخ الاجتماعي والحضاري ،ولم يبق من تلك الصروح الدينية والعلمية والثقافية والصحية و التجارية مايشير الى انها كانت موجودة في يوم ما، نتيجة للقصف المدفعي والصاروخي العشوائي الذي كان ينهال عليها من قبل جميع الاطراف المتحاربة،حيث تشير تقارير سبق ان نشرتها مصادر رسمية لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الاميركية الى ان عدد القذائف التي سقطت عليها وصل الى(29 )الف قذيفة،كان قد اطلقها الطيران الاميركي خلال معركة تحرير الموصل ،منها4))الاف قذيفة فقط سقطت على الموصل القديمة .
استبعاد المنظمات الدولية
إنَّ ما يؤكد على أنَّ هناك جريمة ابادة جماعية قد ارتكبت في محيط الموصل القديمة هو اصرار حكومة العبادي ومن جاء بعده الى منصب رئاسة مجلس الوزراء على ان لاتوجِّه الدعوة الى المنظمات الدولية المختصة للمشاركة في عمليات رفع الانقاض وانتشال الجثث من تحتها، والاكتفاء بجهود فريق دفاع مدني محلي من داخل الموصل يفتقر في عمله الى المعدات الحديثة هذا اضافة الى نقص الخبرة لمثل هذه العمليات، مع ان حجم الدمار الهائل يقتضي ان تتظافر لاجله جهود دولية وان تخصص له اموال ومعدات تتناسب وحجم الكارثة.
اين حرب الشوارع؟
ومع ان عناصر تنظيم دولة الخلافة الذين كانون قد تحصنوا في بيوت وازقة الموصل القديمة لم يتجاوز عددهم 500 مقاتل حسب تقديرات الخبراء والمراقبين للمعركة،إلاّ ان القيادة العسكرية العراقية لم تلجأ الى اسلوب حرب الشوارع كما فعلت قوات مكافحة الارهاب العراقية عندما باشرت في تحرير الجانب الأيسر(الشرقي)من الموصل بتاريخ 16اكتوبر (تشرين الاول) 2016،وبدلا عن ذلك لجأت الى تكثيف القصف الصاروخي والمدفعي العشوائي، قبل بدء عملية التحرير واثناءها، مضحية بحياة مئات المدنيين مقابل عدد محدود من العناصر الارهابية الذين كانوا يتواجدون فيها.
هناك الكثير من علامات التعجب التي توضع في معركة الموصل القديمة تتعلق باصرار من كان يدير المعركة على ان يفرض عليها طوقا عسكريا محكما، بما لايمنح عناصر تنظيم داعش فرصة الخروج وتسليم انفسهم، وهذا يعني توفر الاستعداد للتضحية بالمدينة وسكانها المحتجزين، في مقابل القضاء على انفار معدودين من الارهابيين .
بكل الاحوال فإن المنطق الانساني وكذلك العسكري لايمكن ان يقبل اية مبررات لشرعنة النتائج الكارثية التي دفع ثمنها مئات المدنيين العزل.
تجريف المعالم المعمارية
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها اصحاب رؤوس الاموال من التجار واصحاب الاملاك في اعادة بناء جانبا مهما من الاسواق التقليدية في الموصل القديمة ،إلا انه من غير الممكن ان تعود الحياة اليها كما كانت قبل تدميرها ، وحتى لو افترضنا توفر النية باعادة بناء المدينة من جديد ،فإنها لن تعود كما كانت عليه بنيتها الاقتصادية والمعمارية ،التي حافظ عليها اهلها لعشرات السنين من غير ان يكون لديهم الاستعداد لتحديثها، ذلك لانها كانت تمثل شخصيتهم المحلية،خاصة بعد ان ارتكب المحافظ الاسبق نوفل العاكوب(مسجون حاليا بتهم فساد مالي واداري) جريمة تجريف منطقة القليعات المطلة على نهر دجلة والتي كانت تمثل ابرز شاخص معماري في الموصل القديمة ،وهذه الرقعة الجغرافية الصغيرة من الجانب الايمن في مدينة الموصل كانت تمتاز بكثافة سكانية عالية تصل الى اكثر من 250الف نسمة،وعمرها يعود الى مئات السنين قبل الميلاد،إذ سبق أن اشار المؤرخ( زينوفون) لدى زيارته للمنطقة عام 401 ق.م. بوجود بلدة تحت اسم(مپسيلا)حسب اللفظ اليوناني في نفس موقع الموصل الحالي،إلاَّ ان هذه البلدة لم تعد اليوم موجودة بعد ان تحولت الى انقاض ودفنت معها اسرار سقوطها تحت سلطة تنظيم دولة الخلافة المزعومة،ومن ثم تمت عملية ذبحها من الوريد الى الوريد .
عذراً التعليقات مغلقة