·
سامي مهدي
.
أحياناً تأتيك الإساءة من حيث لا تتوقع ، وهي قد تأتيك في وقت لا يتسع لها فيه صدرك فتكيل لصاحبها الصاع صاعين . وهذا ما حدث لي مع الشاعر اللبناني عباس بيضون .
وبيضون من كتاب قصيدة النثر ، وينسب في لبنان إلى من وصفوا في بعض الأوساط بشعراء ( الحداثة الثانية ) تمييزاً لهم عمن صنفوا بشعراء ( الحداثة الأولى ) التي ينسب إليها شعراء مجلة شعر قي لبنان ، ولبيضون نفسه دور في هذا التصنيف ، فهو من نظّر له ، ومن روّجه بحق أو بلا حق .
وقد كتب بيضون الرواية ، وله منها أربع روايات على ما أعلم ، وقد أشرف سنوات طويلة على تحرير الصفحات الثقافية في جريدة السفير اللبنانية ، وهو من مدينة ( صور ) ويبلغ اليوم من العمر ستة وسبعين عاماً ( أي أنه شيخ مثلي ) وقد أعلن غير مرة أنه تأثر بالشاعر الفرنسي جان جوف ، وبالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس .
عرفته عن بعد ، ولم ألتق به سوى مرة واحدة ، وكان هذا اللقاء في عمان ، في إحدى المناسبات الأدبية التي أقيمت هناك في التسعينيات ، وكان لقاء ودياً عابراً ، ولكن كلاً منا يعرف عن الآخر الكثير .
قرأت له بعض شعره فلم أمل إليه ، وقرأت إحدى رواياته فلم تعجبني ، وأحسب أن صيته أكبر بكثير من أدبه ، وهذه أول مرة أعلن فيها رأيي في هذا الأدب ، رغم أنني أعرف أن هذا الرأي لن يرضي طائفة من شعرائنا .
وحدث عامي 2004 و 2005 أن نشرت في أعداد متتالية من مجلة ( الآداب ) قصائد تندد بالإحتلال الأمريكي للعراق ، ففوجئت بمقال قصير كتبه بيضون ونشره في جريدة ( السفير ) في أوائل عام 2005 واستغرب فيه بلهجة ساخرة وشامتة هذا التنديد بالإحتلال ، ودعاني ، ودعا معي شاعرين آخرين هما : حميد سعيد ، وبشرى البستاني ، إلى أن نشكر المحتلين لأنهم حرروا العراق وحررونا ! فاستغربت منه هذه الدعوة وما انطوت عليه من سخرية وشماتة . فما كان مني إلا أن أكتب قصيدة أهديتها له ورددت فيها عليه ونشرتها في حينه في مجلة ( الآداب ) . وهذه هي القصيدة :
.
شكراً
.
إلى عباس بيضون الذي اقترح علي وعلى شعراء عراقيين آخرين
أن نشكر المحتلين لأنهم حررونا !
.
سنقولها :
« شكراً » !
وماذا بعدُ ؟
هل تصفو لكَ الأشياءُ ، أو تحلو ، بها ؟
وهلِ الجديدُ سوى غبارٍ كانَ في جيبِ القديمِ ؟
فكيفَ تطلبُ أنْ نبيعَ دمَ البلادِ بدمعِها ؟
لسنا منَ الغيمِ المُحَمَّلِ بالضفادعِ والوحولِ ،
ولا منَ النُطَفِ المُدنَّسةِ الهجينةِ ،
نحنُ غُرَّتُها ، البلادَ ،
فكيفَ تطلبُ أنْ نخاتلَ في محبَّتها ؟
ألأننا ، كالماءِ ، نقترحُ الحياةَ ،
وكالرياحِ نُذيبُ ثلجَ الليلِ ؟
أمْ تخشى أصابعَنا التي تفتضُّ
أختامَ البراكينِ الحبيسةِ ؟
دَعكَ من عِلْكِ النكايةِ ، فهو مرٌّ ،
والثيابُ ثيابُنا ،
وخيوطُنا أولى برتقِ خروقِ أوَّلِها وآخرِها ،
وأمّا أنتَ فاستغفرْ لنفسِكَ عُرْيَها .
ما كنتَ يوماً كاهناً في « نِفَّرٍ » ،
أو كاتباً في « بابلٍ » .
ما كنتَ إلاّ ذلكَ المتفرّجَ الأعشى ،
فكيفَ ترى ، إذنْ ، ما يصبغُ الأشياءَ بالدمِ والدخانِ ،
ويُطعِمُ الغربانَ من لحمِ الأوادمِ ؟
دعكَ من سُمِّ الوشايةِ ،
فالوشاةُ هنا جرادٌ ،
لا مزيدَ على تَنَطُّعِهمْ ،
وقدْ فاضتْ بهمْ سوقُ العمالةِ والبطالةِ ،
فانتحلْ لكَ حرفةً أخرى ،
إذا جاوزتَ سِنَّ الشعرِ ،
وانقطعَ البريدْ .
عذراً التعليقات مغلقة