حين تصير العبارة منبعا للتأمل
قراءة عابرة لديوان” شذرات مجنحة” للشاعرة المغربية مليكة الجباري
لحسن ملواني ـ المغرب
عنوان آسر لمتذوقي الإبداع الأدبي في عصره الحديث.. فالشذرة تتضمن من التأملات والجماليات الشيء الكثير مما يجعلها محركا لفعل التفكير والتأويل والإسقاط ، وكل قراءة تولد المزيد من الاكتشاف للخفي من الدلالات التي تمتح سندها من الواقع المعيش. والكتابة الشذرية وإن كانت قديمة النشوء أخذت تفرض نفسها تداوليا بين الشعراء والقراء والنقاد لما تمتلكه من سمات تلائم عصرنا عصر السرعة إلى جانب الومضة والخاطرة والقصة القصيرة جدا والمتلازمة…
وجاء ديوان”شذرات مجنحة” مؤلفا من تقديم عميق يلامس ظروف ظهور الشذرة وبعض سماتها البارزة للشاعر والناقد المغربي الميلودي الوريدي، ويليه إهداء جميل للشاعرة مليكة الجباري ،وبعده شذرات الشاعرة بتيمات مختلفة،وتنتهي بتظهير للكاتب والشاعر سعيد العلمي.
و “تستند الكتابة الشذرية (l’écriture fragmentaire) ، أو الكتابة المقطعية، أو أسلوب النبذة(Aphorisme) كما عند نيتشه، إلى الاقتضاب، والتكثيف، والتبئير، والتركيز، والإرصاد، والنفور من التحليل العقلاني المنطقي، وتفادي الكتابة النسقية. وتعد هذه الطريقة في الكتابة خاصية غريبة عن ساحتنا الثقافية والإبداعية كما تعودنا عليها لسنوات مضت، على الرغم من وجودها في تراثنا العربي بشكل من الأشكال، لاسيما في المنتج الصوفي والعرفاني، وأيضا في كثير من المصنفات التراثية القائمة على التقطيع والتشذير والاختزال، وخاصة الكتب الفلسفية والأدبية والدينية منها.
هذا، وإذا كان أغلب المؤلفين يميلون إلى الكتابة النسقية ، والتحليل المنطقي الصارم المبني على قوة الحجاج والاستدلال والبرهان العقلي، والتحليل المتماسك اتساقا وانسجاما، فقد بدأت الكتابات المعاصرة ، سواء أكانت من الأدب العام أم من الأدب الخاص، تعتمد على الكتابة الشذرية المقطعية القائمة على شعرية الانفصال، وتتكىء على بلاغة التشظي، وتتهرب من التحليلات العلمية والمنطقية العقلية الجافة والمنفرة، لتعوضها بكتابات شاعرية وتأملية إما ذهنية وإما وجدانية. وبذلك، تحضر الذات، ويطفو الخيال الخارق، ويعلو التخييل المجنح، ويسمو الانزياح،وتتقطع النصوص فوق صفحة البياض فراغا وامتلاء وانفصالا وبعثرة، فتختلط الأجناس والأنواع ليتشكل منها نص شذري أو كتاب شذري، وذلك في شكل مقطوعات وفقرات ومقتبسات، بينها بياضات واصلة، وفواصل تتأرجح بين النطق والصمت.”1
وعنوان الديوان يحيل على أهم سمة من سمات الشذرة باعتبارها نصا يبحر ويحلق بنا في أجواء من التفكير والتحليل والبحث بين الاحتمالات للوقوف على ما نعتقده المراد والقصد من شذرة معينة…
وفي كل شذرة رسم لأجواء وحيثيات خاصة تجعلك تتأرجح بين الأزمنة الثلاثة وأنت تتأمل فيما تعرضه الشذرة متصلة بواقعنا بأسلوب وصور تدفعك كي تطرح الأسئلة فتتحول إلى قارئ إيجابي نوعي يراهن على قدرته على الكشف عبر القراءة.
تقول الشاعرة
لكنة شاهدة على غيمة المسافات
تراود البحر والسماء
تطفو الذكريات
يستكين السفر المقرر بلغة الغربة
الوطن ما يزال يحلم. ص 14
صورة توحي بالسفر عبر البحر والسماء وبين الذكريات والحلم يعيش المسافر لحظات الارتحال ـ موزعا بين لكنة ولغة ـ نحو عالم جديد بذور راسخة في الوطن الأصلي…
وقد يكون ما توصلنا إليه احتمالا مادامت القراءة في كل مرة تستنبت دلالات وإحالات جديدة.
وتقول :
الخيوط ذهبية
والنسيج بأنامل تعبت من حياكة الأمال
على منسج الوطن
وريقات خريفها سقطت:
الصوف مستورد..
حين تقرأ المقطع يسعفك في فهم بعض فحواه كلمات تنتمي إلى نفس الحقل المعجمي :الخيوط ،النسيج ،حياكة ، الصوف..وربطها بحياكة الأمال يخرجها من حالتها الطبيعية لترتبط بالطموحات والانتصارات والإخفاقات في مواجهة الواقع.
تقول الشاعرة :
ليل يحاكي نشوة الصباح
امتلاك الأحلام خابيته المعهودة
غيابك توسد التعب
مسامرة حظ يعشق السهر
على أبواب القصائد
كانت حكاية مدينة. ص20
في الشذرة ما يدفع بك كي تعيش لحظة في أحضان حكاية مدينة وفي أحلام بصدد غائب يجعلك تعيش مسامرا عاشق للسهر في قلب هواجس ومشاعر تضج بها قصائد.
وتقول
قاوم رغبة الكلام
جسده نطق خريف المسافات
زمن تبلدت فصوله
حنين الماضي أنت… ص21
في الشذرة تحاول الشاعرة أن تشير إلى أن تصوير المعاناة والمتغيرات بالجسد وما يبدو عليه من علامات أبلغ من الكلام ، فجسد المتحدث عنه تبدو عليه ندوب الزمن الذي قطعه عمره بأفراحه وأتراحه ليذبل في خريفه فيستبد به الحنين إلى الماضي الجميل.
تقول في شذرة
اللغة تهوى الانتماء
غيابها عن منصة الاجتهاد
هش بعصاه على أوطان أرغمت
على قراءة أنشودة التبعية
ألوان الأصوات في جوفه تحترق… ص25
فعلا اللغة تهوى الانتماء ، فهي على رأس هوية أي شعب من الشعوب،وبانهدامها سقوط في شرك التعية البغيضة التي تقف سدا أمام الاجتهاد والتطور الذاتي المتين.
القصة قوس
نبالها سطور أطياف الرصيف
خاتمة مباراة شهدتها قاعة البرلمان فقط
الحكَم كان علامة استفهام.
تمثل القصة مباراة ستجري أحداثها لتنتهي بخاتمتها في قاعة البرلمان فقط ،فتثير علامات استفهام ارتباطا بحيثيات كثيرة تستوجب إعادة النظر فيها.
تذكرت طعم المخاض
رسمت رمحا برؤوس غاضبة
بإتقان المحارب وجهتها لذاكرة
محشوة بدروس الأغبياء
تقول:
في ضيافة الحلم العادات خففت قيوده
بمشاعر معلبة تلبس وجه حمامة بيضاء
أبيات قصيدة المتنبي ترانيم رغبة:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ..
كبرياء مخنوق …عشق لا وطن له
وكأن الشاعرة تحاول أن تضع اليد على من يحاول التبجح برداءة وسوء وثقل عاداتنا مقابل عادات معلبة مستوردة باسم الحرية والعولمة مما يحول كبريائنا سجينا وعشقنا لقيطا بلا وطن يؤطره ويهبه ملامحة المائزة والفريدة.
سأكتفي بهذه الشذرات الماتعة التي جعلتني أعيد قراءة الديوان شذرة شذرة كي أقف على هاته الأجواء المفعمة بالاحتمالات وبذل الجهد من أجل القبض على أكثر من مضمون.
إنها الشذرة ، تدفع بك لطرح السؤال تلو السؤال وكلك أمل في حيازة أجوبة ،وكل ما يدفعك إلى السؤال والتساؤل يجعلك فاعلا إيجابيا ، والشذرة جنس أذبي كان معروفا لدى الفلاسفة ،هؤلاء الذين تهمهم الأسئلة قبل الأجوبة …الشذرة اكتشاف وحاولة اكتشاف ،إنها لا تتواصل مع المتلقي ، فهي لا تفسر ما تحمله ،فهي جسر للإيحاءات الموقدة لروح التأمل والمساءلة والنقاش.
ويبقى ديوان الشاعر ملكية الجباري فيضا متقدا من الصور والتركيبات المُحكمة، يفتح دفتيه على قراءات ستتوالد عنه من قبل كل قارئ يواجهه مرة أو أكثر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
+ شذرات مجنحة ،تأليف مليكة الجباري شاعرة مغربية ،عضو كاتبات المغرب، ورابطة المواطنة وحقوق الإنسان،فازت بعدة جوائز تقديرية ، من مؤلفاتها ديوان “في قلب العاصفة”، وديوان “على صهوة الجموع” وديون مشترك”الهجران” .. فاعلة جمعوية مهتمة بالمرأة والطفولة، لها كتابات في مجلات ورقية وإليكترونية.
.1 النقد الشذري أو الكتابة الشذرية بين النظرية والتطبيق ، جميل حمداوي ،نشر في أريفينو يوم 28 – 12 – 2011م.
عذراً التعليقات مغلقة