تبقى عيون العالم منصبة على الصين، الدولة الوحيدة في العالم التي لها إمكانية الرد على أي عقوبات ضدها، خصوصا في المجالين المالي والتجاري.
ليون برخو
لا يخفى أن فرض العقوبات الاقتصادية بات سلاحا لا ند له في يد الولايات المتحدة. ولا يخفى أن الولايات المتحدة لا تألو جهدا في المضي في مسيرة فرض العقوبات الاقتصادية لتثبيت أركان نظام عالمي تتربع على عرشه.
وقد لا نذهب بعيدا إن قلنا إن سلاح العقوبات صار أمضى سلاح تملكه أمريكا، حيث تلحق بمعارضي نهجها أذى كبيرا دون أن تطلق طلقة واحدة.
وسلاح العقوبات من العسر درؤه. والسبب يعود إلى احتكار أمريكا له، ويتمثل في السلطة شبه المطلقة التي تملكها على الأسواق المالية وقوة ومكانة عملتها التي هي بحق عملة عالمية ووطنية إلى حد ما في آن واحد – وطنية بمعنى أن الدولار من ناحية نظرية وعملية أيضا يعد بمنزلة عملة وطنية لكل دول العالم تقريبا من حيث سعر الصرف والتبادل والتداول والتجارة.
وما يساعد أمريكا في مسعاها الحثيث لتوظيف العقوبات تلبية لمصالحها الاستراتيجية هو أيضا حجم اقتصادها الكبير وتفاعلها التجاري النشط مع العالم، مجرد التهديد بإيقاف التجارة والتعامل مع أي شركة أو مؤسسة غربية مثلا كاف لتركيعها كي تلبي ما تطلبه أمريكا منها.
والتحكم بعصب المال والتجارة جعل من أمريكا قوة عظمى لم يعرف لها العالم مثيلا، إلى درجة أنها لم تعد في حاجة حتى إلى حلفائها الغربيين في فرض عقوباتها.
كل سلاح يكون محدود الفاعلية لو امتلك الخصم ما يضاهيه أو ما هو مضاد له. المشكلة في العقوبات الأمريكية تكمن في ندرة الوسائل التي تملكها حتى الدول الصناعية الكبرى في مواجهة العقوبات التي تفرضها.
لنأخذ إيران مثالا. عندما تهدد أمريكا بمصادرة الأرصدة الإيرانية أو تجميدها، ليس ضمن حدودها الجغرافية بل حول العالم، وتفرض حظرا على التعاملين المالي والتجاري مع إيران، العالم برمته تقريبا ينصاع صاغرا وليس راغبا. أما إيران فلا حول ولا قوة لها لأنها لا تملك أي وسيلة للرد أو التأثير ليس على أمريكا، بل حتى على الدول التي ترى نفسها مرغمة على تطبيق نظام العقوبات الأمريكي.
وذهبت جهود دول العالم وجهود مجموعات اقتصادية كبيرة ومؤثرة، مثل الاتحاد الأوروبي، سدى في مسعى الحد من تأثير أو وطأة العقوبات الأمريكية.
تبقى عيون العالم منصبة على الصين، الدولة الوحيدة في العالم التي لها إمكانية الرد على أي عقوبات ضدها، خصوصا في المجالين المالي والتجاري.
والصين من الدول التي تتعلم بسرعة مما يقع للآخرين. فمثلا، غيرت الصين من عقيدتها العسكرية، خصوصا فيما يتعلق بمضمار الصناعات الحربية عند مشاهدتها ما أحدثته الأسلحة الأمريكية الذكية من إصابات دقيقة ومدمرة في حرب الخليج عام 1991.
بعد هذه الحرب مباشرة، شرعت الصين في بناء صناعة عسكرية تستند إلى الذكاء الاصطناعي ولم يمض عقدان من الزمن وإذا بها تقف ندا لأمريكا فيما تصنعه من أسلحة ذكية وعتاد ذكي.
ودخلت الصين ما يشبه تمرينا وطنيا في كيفية مقاومة العقوبات الأمريكية والحد من تأثيرها بعد أن رأت ما حل بإيران عندما انسحبت الإدارة الأمريكية السابقة من الاتفاق النووي مع طهران، وفرضت عقوبات قاسية عليها رغم معارضة الشركاء الآخرين وهم دول عظمى مثل روسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والصين ذاتها.
وكثفت الصين تمارينها على مقاومة العقوبات الاقتصادية الأمريكية، إن حدث ووقعت تحت وطأتها، بعد أن شاهدت التأثير المدمر الذي يمكن أن تحدثه في اقتصادات دول مثل تركيا وروسيا، وذلك بمجرد فرض رسوم جمركية محددة على بعض صادراتها.
حتى ألمانيا، حليفة أمريكا الكبيرة في الغرب، كادت تتخلى عن مشروع استراتيجي لنقل الغاز الروسي، عندما فرضت الإدارة الأمريكية السابقة عقوبات على الشركات الغربية العاملة في إنشائه.
وفي الأعوام الأخيرة، سنت الصين قرارات عديدة لمواجهة أي عقوبات ستفرضها أمريكا مع حليفاتها الغربية عليها، خصوصا في إمكانية التواصل مع النظام المالي العالمي خارج نطاق الدولار من خلال جعل عمليات الائتمان ممكنة على جميع المستويات الداخلية والخارجية إن حدث وقطعت بها السبل عن التواصل بنظام سويف العالمي، القناة المالية الوحيدة التي تنظم الاتصالات المالية بين بنوك العالم.
بطاقات الائتمان الصينية ظاهرة مقبولة الآن في عديد من الدول الآسيوية، حيث تمضي الصين قدما في رقمنة عملتها.
ومن ثم، الاقتصاد الصيني صار بمنزلة العجلة التي يدور حولها الاقتصاد العالمي، وفيه كثير من التشابك مع الاقتصاد الأمريكي والغربي منه خصوصا.
فمثلا، لو عمدت أمريكا إلى تجميد أو الاستيلاء على أرصدة أو موجودات صينية على أراضيها أو خارج نطاق جغرافيتها، في إمكان الصين رد الصاع، لأن هناك أرصدة وموجودات أمريكية وغربية في الصين قد تفوق قيمتها ما لدى الصين في هذه الدول.
يبلغ حجم نشاط عديد من الشركات الأمريكية والغربية العملاقة في الصين أحيانا أكثر من نصف حجم نشاطها في دولها الأصلية وحول العالم، فضلا عن عشرات الآلاف من الشركات متوسطة وصغيرة الحجم.
أمريكا حتى الآن مترددة في اللجوء إلى سلاحها المفضل، سلاح العقوبات الاقتصادية، مع الصين. التردد في محله، لكن إن كان استخدام السلاح الحربي غير ممكن لما قد يحدثه من رعب متبادل، قد لا يمضي وقت طويل وتدخل الدولتان العظميان في حرب العقوبات الاقتصادية التي ربما لا بد منها إن لم يضعا خلافتهما الشديدة جانبا.
وإن وقعت، فإن حرب العقوبات الاقتصادية بين الصين وأمريكا لن تكون مثل أي حرب اقتصادية أخرى عرفها العالم.
الاقتصادية
عذراً التعليقات مغلقة