قصة قصيرة
صريمٌ و سديمٌ
رشيد سكري
قاص من المغرب
هكذا تبدو قرطبة شاحبة مثل الصريم …
على طول وادي الهدير صوت عال يشق العنان ؛ ناسٌ زرافات ووحدانا ، يحملون أمتعهم ، ويشدونها بحبال على مطاياهم . راحلون في غسق مدلهم ، وفي أول فجر طلوع . دروب قرطبة ستـُستطاب للقادمين الغزاة ، سيعيثون في حاراتها ومساجدها ومناراتها فسادا … إنهم الإفرنجة ، وما يأتي من قر الشمال . سيصفعون فجر قرطبة ، هذا الفجر الوليد …
ـ وأنت يا ابن رشد لن تدخل مساجد الله بعد الآن .
من خلف ستار صفيق ، اشرأب بنحره حتى ظهر منه الوريد
ـ سأعيش بالقرب منك … حتى توارى الثرى الطهور .
كنت أسمع عنك كثيرا ، وأنا لازلت أركض في البرية مثل وعل حديث الولادة . من شرفة ضيقة في منحدر ابن زيدون ، كنت أطالع أولى قوافل المهاجرين ، وهم يغادرون قرطبة ؛ أم حنون . كان لغطهم يملأ سكون المكان ، ويتيه في شعاب مداراتها غابشة وراء سديم . عندما أبعد ابن رشد لم يكن ، وقتئذ ، لا ظاهريا ولا مالكيا ، وإنما كان عبدا صالحا لله . يأتيه فجر ؛ فيتوضأ للصلاة على إيقاع النداء ، الذي يتيه في دروب وحارات قرطبة .
دخلت عصرا على جمع في حضرة الخليفة الطاهر، وكان بريق عيون وجلة قد حسمت في أمر الطبيب . أخذت مكاني بالقرب من الوازعي . وقلت :
ـ بم قضى الجمع يا أبا إسحاق ؟
بصوت كتوم ، ومن شفتين مكتنزتين ، حفتهما صفرة كأوراق اللحلاح .
ـ تأخرت يا عبد الله . ما خطبك ؟
أجبته ، ويدي على صدري لأعيده إلى إيقاعه النافر وجلا ، والمنفلت تعبا.
ـ طريق شاقة يا وازعي ، من إشبيلية إلى مراكش … لا راحلة و لا رفيق . دام سفري أسبوعا كاملا . نمت في عراء ، بين وحوش وضوار .
قال أبو إسحاق ، كاظما غيظه :
ـ أودع الخليفة الناس في السجون … وجلهم من خيرة القوم و أتقيائه .
صحت بصوت ، حتى التفت إلي البهاليل كأعجاز نخلات خاوية :
ـ حنانيك !وهذاذيك ! يا فاطر السماوات والأرض .
ـ هل جـُن الخليفة ؟ حتى يـُسجن الإمامُ علي إلى جوار قطاع طرق و مارقين عن القانون .
في المساء ، وعند الحجرة الملساء ، كنت أستطيب عبير الياسمين و الدراق الفواح ، صاعدا من صواعدَ و هوابطَ وادي الهدير ، حتى جاءني الوازعي ينذر بالحرق .
ـ أحقا ما تلوكه الدهماءُ يا عبد الله ؟ فسدر بكلام لم أفهمه .
ـ حنانيك يا رب !ستوقد التنانير عندما يجن الليل ؛ لحرق الكتب ، التي خلفها قاضي قضاة قرطبة.
حركة دؤوب أمام غوطة المعبد القديم ، خرج نفر من الناس ليشاهدوا الكتب ، كهودج عروس ، تتهادى فوق المطايا والحوامل ، وهي تبكي حظها العاثر ؛ عندما تصبح رمادا تدروه ريح هجير. عقيرة البعض ارتفعت بالحوقلة ، والبعض الآخر بالمـُكاء و التصدية ، لتتحول إلى لازمة واحدة تشق عنانا نديا.
ـ الأفكار باقية في ملكوت الرحمان والكتب فانية .
ـ الأفكار باقية في ملكوته والكتب فانية .
صوت نحيب ، ولطم خدود ، وبكاء وفير كل ذلك عرفته في ليلة صريمها كطنافسَ سود. خنقني ما درته ، تلك الليلة ، ريح هجير من بقايا كتب الطبيب ، فملأت أزقة ودروبا وغوطات و وهادا . فاستيأس خلق كثير من مَن ساس الناس بسياسة غير عادلة ، والله يأمر بها عباده . تدبرت آيات محكمات في العلم ومعرفة المجهول ، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض بسلطان الكشف والمعرفة والبيان .
فجاءني الوازعي مهرولا خائفا سادرا في كلام غير مفهوم ، لغده السمين ووجه المستدير وبنيته المشحمة منعته من أن يستعيد روعه بيسر
ـ هدئ من روعك وفجعك يا أبا إسحاق ؟
كنت أنظر إلى فوديه الأشمطين ، وعارضين كثيفين قد شملهما الله بعفوه
ـ أليسانة ! أليسانة !
نطقت الدهماء حكمها الفج … وقعت الواقعة يا عبد الله !
نفي الطبيب إلى أليسانة ، بكينا جميعا على فراق غير منتظر ، وألحقتنا أخبار بأن الدهماء ستمنعه من دخول مساجدها ومناراتها الروحية . إنك لتطغى على عباد مستضعفين ، فقراء ومعوزين . عدت أنا إلى بطاحي ، كما عاد الوازعي إلى بطاحه ، وقد شـُملنا بسكون لم نعرف مصدره ومقامه .
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة