صريم وسديم قصة قصيرة للمغربي رشيد سكري

صريم وسديم قصة قصيرة للمغربي رشيد سكري

آخر تحديث : الأربعاء 4 أغسطس 2021 - 2:28 صباحًا

قصة قصيرة

                                    صريمٌ و سديمٌ

رشيد سكري

Screenshot 2021 01 17 at 15.49.18 e1610898713403 - قريش

قاص من المغرب

   هكذا تبدو قرطبة شاحبة مثل الصريم … 

  على طول وادي الهدير صوت عال يشق العنان ؛ ناسٌ زرافات ووحدانا ، يحملون أمتعهم ، ويشدونها بحبال على مطاياهم . راحلون في غسق مدلهم ، وفي أول فجر طلوع . دروب قرطبة ستـُستطاب للقادمين الغزاة ، سيعيثون في حاراتها ومساجدها ومناراتها فسادا … إنهم الإفرنجة ، وما يأتي من قر الشمال . سيصفعون فجر قرطبة ، هذا الفجر الوليد … 

ـ وأنت يا ابن رشد لن تدخل مساجد الله بعد الآن . 

من خلف ستار صفيق ، اشرأب بنحره حتى ظهر منه الوريد 

ـ سأعيش بالقرب منك … حتى توارى الثرى الطهور . 

  كنت أسمع عنك كثيرا ، وأنا لازلت أركض في البرية مثل وعل حديث الولادة . من شرفة ضيقة في منحدر ابن زيدون ، كنت أطالع أولى قوافل المهاجرين ، وهم يغادرون قرطبة ؛ أم حنون . كان لغطهم يملأ سكون المكان ، ويتيه في شعاب مداراتها غابشة وراء سديم . عندما أبعد ابن رشد لم يكن ، وقتئذ ، لا ظاهريا ولا مالكيا ، وإنما كان عبدا صالحا لله . يأتيه فجر ؛ فيتوضأ للصلاة على إيقاع النداء ، الذي يتيه في دروب وحارات قرطبة . 

  دخلت عصرا على جمع في حضرة الخليفة الطاهر، وكان بريق عيون وجلة قد حسمت في أمر الطبيب . أخذت مكاني بالقرب من الوازعي . وقلت :  

ـ بم قضى الجمع يا أبا إسحاق ؟

بصوت كتوم ، ومن شفتين مكتنزتين ، حفتهما صفرة كأوراق اللحلاح . 

ـ تأخرت يا عبد الله . ما خطبك ؟

أجبته ، ويدي على صدري لأعيده إلى إيقاعه النافر وجلا ، والمنفلت تعبا.

ـ طريق شاقة يا وازعي ، من إشبيلية إلى مراكش … لا راحلة و لا رفيق . دام سفري أسبوعا كاملا . نمت في عراء  ، بين وحوش وضوار . 

قال أبو إسحاق ، كاظما غيظه :

ـ  أودع الخليفة الناس في السجون … وجلهم من خيرة القوم و أتقيائه .

صحت بصوت ، حتى التفت إلي البهاليل كأعجاز نخلات خاوية : 

ـ حنانيك  !وهذاذيك ! يا فاطر السماوات والأرض  . 

ـ هل جـُن الخليفة ؟ حتى يـُسجن الإمامُ علي إلى جوار قطاع طرق و مارقين عن القانون . 

 في المساء ، وعند الحجرة الملساء ، كنت أستطيب عبير الياسمين و الدراق الفواح ، صاعدا من صواعدَ و هوابطَ وادي الهدير ، حتى جاءني الوازعي ينذر بالحرق . 

ـ أحقا ما تلوكه الدهماءُ يا عبد الله ؟ فسدر بكلام لم أفهمه . 

ـ حنانيك يا رب  !ستوقد التنانير عندما يجن الليل ؛ لحرق الكتب ، التي خلفها قاضي قضاة قرطبة. 

حركة دؤوب أمام غوطة المعبد القديم ، خرج نفر من الناس ليشاهدوا الكتب ، كهودج عروس ، تتهادى فوق المطايا والحوامل ، وهي تبكي حظها العاثر ؛ عندما تصبح رمادا تدروه ريح هجير. عقيرة البعض ارتفعت بالحوقلة ، والبعض الآخر بالمـُكاء و التصدية ، لتتحول إلى لازمة واحدة تشق عنانا نديا. 

ـ الأفكار باقية في ملكوت الرحمان  والكتب فانية .

ـ الأفكار باقية في ملكوته  والكتب فانية . 

صوت نحيب ، ولطم خدود ، وبكاء وفير كل ذلك عرفته في ليلة صريمها كطنافسَ سود. خنقني ما درته ، تلك الليلة ، ريح هجير من بقايا كتب الطبيب ، فملأت أزقة ودروبا وغوطات و وهادا . فاستيأس خلق كثير من مَن ساس الناس بسياسة غير عادلة ، والله يأمر بها عباده . تدبرت آيات محكمات في العلم ومعرفة المجهول ، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض بسلطان الكشف والمعرفة والبيان . 

  فجاءني الوازعي مهرولا خائفا سادرا في كلام غير مفهوم ، لغده السمين ووجه المستدير وبنيته المشحمة منعته من أن يستعيد روعه بيسر

ـ هدئ من روعك وفجعك يا أبا إسحاق ؟

كنت أنظر إلى فوديه الأشمطين ، وعارضين كثيفين قد شملهما الله بعفوه 

ـ أليسانة !  أليسانة !  

نطقت الدهماء حكمها الفج …  وقعت الواقعة يا عبد الله  !

نفي الطبيب إلى أليسانة ، بكينا جميعا على فراق غير منتظر ، وألحقتنا أخبار بأن الدهماء ستمنعه من دخول مساجدها ومناراتها الروحية . إنك لتطغى على عباد مستضعفين ، فقراء ومعوزين . عدت أنا إلى بطاحي ، كما عاد الوازعي إلى بطاحه ، وقد شـُملنا بسكون لم نعرف مصدره ومقامه . 

القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com