رحلة طويلة من الفكر والغربة
هناء نور
كاتبة من مصر
أحب الكتابة عن نوال السعداوي من قلبي ومما نقشته بفكرها في ذاكرة روحي، فأنا لست “جوجل” لأكتب عن تاريخ ولادتها، ويوم غيابها بجسدها عن العالم. غير أن ذاكرة “جوجل” خير من ذاكرتي بالتأكيد في حفظ التواريخ، والتسجيل بدقة لأحداث حياتها الكثيرة والمهمة.. لذا أفضل ترك شغف الكتابة عنها لقلبي:
أهدت نوال السعداوي روايتها “الإنسان” الأشبه بالمسرحية.. إلى “المقهورين في البيوت والسجون” البيت مصنع الإنسان منذ نشأة الأسرة.. ولا يستطيع التمرد على التربية القمعية إلا الاستثنائيون، فيتعايش الأكثرية في سجون متعددة على اختلاف مسمياتها..
تتحدث نوال في هذا الكتاب عن سجن داخل السجن؛ سجن الإنسان داخل نفسه.. سجن أفكاره المحفوظة التي يضيع عمره مدافعا عنها، ويحكم من خلالها على الآخر.. فيصبح سجينا وسجانا في الوقت ذاته..
“تشغيل العقل” هو القضية الكبرى لنوال السعداوي طوال حياتها وقد دفعت ثمن التفكير باهظا من حريتها وسكينتها في مجتمع أكثريته كسولة تفضل ترديد الأقوال والأفكار المحفوظة على “تحريك العقل”.
شخصية “علية” في كتابها “الإنسان” تشبه نوال السعداوي كثيرا؛ فهي تعود إلى العقل في كل رأي وكلمة.. تفكر أكثر مما تتكلم.. غير أنها لم تعرف رغم كل التفكير سبب دخولها السجن؛ فلم تكن زعيمة عصابة.. أو قاتلة أو لصة أو جاسوسة إلى آخر التهم..
ربما كانت جريمة “علية” هنا هي إعمال العقل. إذ إن التفكير جريمة في المجتمعات التي تعتمد الحفظ لا الفهم كمنهج حياة.. يخرج فيها الإنسان من أطر سجن البيت القادم منه إلى سجن الحياة الأكبر؛ فيمارس قمعه على من حوله.. لكن “علية” رغم كل ما تتعرض له من ظلم لا تفقد قوة الروح.. وتظل مؤمنة بأنها ستحلق في يوم ما خارج كل القضبان..
وحين يسألها “ضابط المباحث” في نهاية المسرحية وقد تعب من كثرة السؤال ومل تكراره:
– ما تهمتك يا علية؟!
تصر على الصمت ربما لأنها ترى أن الصمت أقوى حين تكون الإجابات معروفة، ووسيلة تعجيزية لمن يحاول أن يدخلك في مباراة كلامية عقيمة..
يسألها الضابط بنفاذ صبر للمرة الأخيرة:
– إنتي مصنوعة من إيه.. من فولاذ؟!
ترد علية:
– أقوى
يتساءل الضابط
– وهل يوجد أقوى؟!
ترد بثقة:
– الإنسان أقوى من الفولاذ.
نوال السعداوي التي هي أقوى من الفولاذ تقول في إحدى مقالاتها الأخيرة “إنها تشعر بالغربة والاضطهاد.. ولا تكف ذاكرتها عن ملاحقتها بما مرت به من سجن ونفي، وأنها لم تستطع أن تغير شيئا، فالجهل يستمر في الانتشار، والفقر يزداد…”
تأثرت بهذه الفضفضة على الأوراق إلى حد البكاء.. كنت أشعر بين سطورها بالسجن المعنوي.. وأنها لم تعد قادرة على التحليق الذي خلقت من أجله، أو تنتظر شيئا غير معلوم.. فقد لخصت نوال السجن من قبل في كلمة واحدة وهي: “الانتظار”
فماذا كانت تنتظر نوال التي قالت “لقد انتصرت على الحياة فلم أعد أرغب فيها وانتصرت على الموت فلم أعد أخشاه” إن تسلل قطرة يأس إلى روح نوال التي عاشت تحدق في عين الشمس. تشكل حزنا لكل من كانت وستظل بالنسبة لهم طاقة نور، لكنها من جهة أخرى تؤكد أن الإنسان مهما بلغ من القوة، ليس بعيدا عن ضعف عابر..
العواصف التي أثارتها نوال السعداوي حية وميتة مؤكدة ومساوية تماما لحجم أهميتها، فلا يوجد فكر عظيم يتفق عليه الجميع، والعمل الميت وحده لا يصحبه الضجيج، وليس بعيدا أن يتحول الكثير من الكارهين “لشخص نوال” اليوم.. إلى مؤمنين بأفكارها ومدافعين عنها إذا قرروا قراءتها دون تعصب لغير الحقيقة؛ الحقيقة التي سعت من أجلها نوال، ولم تبال بدفع أي ثمن للوصول إلى حياة أكثر إنسانية للرجل والمرأة معا.. حياة قوامها العدل والحرية والصدق والحب..
ومما لا شك فيه أن أوراق الكاتب أطول من عمره، كما أن أوراق الكاتب حياته أيضا؛ خاصة الكاتب صاحب القضية..
قدمت نوال ثلاثة أجزاء في ثلاثة كتب تحت عنوان “أوراقي حياتي” التي تعتبر سيرة ذاتية.. دونت فيها الكثير من آلامها وأفكارها ورؤاها للعالم..
حدثتنا فيها عن حبها للكتابة منذ كانت طفلة.. كانت تدون أفكارها في كشكول صغير.. أحلامها، وكوابيسها، حدثتنا عن أمها “زينب هانم” وهي تدندن “ما دام تحب بتنكر ليه” عن حبها لأم كلثوم.. عن حبها الواضح لأبيها..
كانت الكتابة وظلت بالنسبة لنوال مثل الحب؛ يحدث بلا سبب. مثل حضن الأم الذي لم تجربه؛ فقد عاشت وماتت أمها دون أن تعانقها مرة واحدة، عاش ومات أبوها أيضا دون أن يعانقها مرة واحدة؛ رغم أنها كانت تثق من حبهما الكبير لها، لكن وكما قالت نوال “لم يكن العناق رغم أهميته الكبيرة جزءا من التقاليد في تلك العائلات المتوسطة”!
لكن ورغم أن الأسرة كانت متوسطة الدخل أصر أبوها أن تكمل تعليمها.. وبناء الشخصية بتلك الطريقة في هذا الزمن رأيته أعظم عناق..
تتحدث نوال بحب البدايات كله عن أول مقال نشر لها في مجلة “طلبة القصر العيني” تقول: “أول مرة أرى اسمي في مجلة، حملقت في الحروف السوداء المنقوشة فوق الورق الأبيض كأنما هي منقوشة فوق وجه القمر أو قرص الشمس، محفورة بالرصاص في السماء، راسخة بالكون مثل الكواكب والأفلاك، كنت كلما رأيت المجلة في يد أحد ظننته يقرأ مقالي أنا لا غيره” .
لم تنس نوال أبدا تجربتها المريرة مع الختان في طفولتها، تقول نوال: “أخبرتني عمتي بأن النبي محمد هو من أمر بختان البنات، لم أصدق أبدا قولها هذا، وحين كبرت وبحثت أدركت أن النبي محمد لم يصدر أمرا كهذا، كما أن النبي محمد لم يختن بناته أيضا.. وكانت عمتي تكذب كما كذب علينا الكثيرون”!.
لم يلتئم جرح نوال المعنوي أبدا، ولم يفارق هذا الحدث المروع ذاكرتها السلبية عن التقاليد والموروثات البالية، فقررت أن تحاربها بالفكر والعلم.. ولأنها طبيبة وجراحة في الأصل قبل أن تكون كاتبة.. استطاعت أن تتناول خطر عملية الختان التي قد تصل إلى موت البنت في حالات كثيرة.. بالإضافة للأثر النفسي السلبي الذي لا يفارق ذاكرة الكثير من الإناث طيلة حياتهن.. وكانت حرب نوال ضد تلك الجريمة من أكبر أسباب اضطهادها في مجتمع يصر على التمسك بموروثات يرفضها الطب والعلم!
من التهم التي حاول البعض إن يلصقها بنوال.. انتماؤها لجماعة “الإخوان المسلمين” وقد نفت نوال تلك التهمة في مذكراتها “أوراقي حياتي” وأكدت عدم انتمائها لأي حزب من الأحزاب.. وأن حضورها حفل تأبين الشهيد “أحمد المنيسي” هو ما جعل البعض يفسر تواجدها في حفل التأبين وفق أهواء شخصية؛ أو بغرض انتهاز الفرصة لإلصاق تهمة أخرى بها؛ لكنها لم تحضر بغرض المشاركة في عزاء أحد أعضاء جماعة الإخوان، وإنما حضرت لتأدية واجب العزاء في أحمد المنيسي زميلها في الجامعة لا أكثر..
إن “أوراقي حياتي” لنوال السعداوي ليست سيرة ذاتية فقط.. إنها حكاية وطن بكل ما فيه من جمال وقبح.. انكسارات وانتصارات.. إنها العين التي ترى نوال من خلالها العالم.. وفي حوالي 600 صفحة لا أكثر استطاعت نوال أن تنقل حياة كاملة ثرية بأفكار ومعان جديرة بالقراءة والتأمل..
مقال خاص بملحق ثقافات وآداب – صحيفة قريش– لندن
عذراً التعليقات مغلقة