محمد عياش
– كاتب ومحلل سياسي
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية ، أن قيادة العالم والسيطرة والهيمنة وحتى غطرسة القوة ، لم تعد تجدي ، وذلك لأسباب عدة منها ما هو حقيقي ومنها ما هو وهمي نتيجة عدم الراحة والاستقرار بسبب القرارات الخاطئة والممارسات التعسفية في بعض البلدان وخصوصاً الحقوق المشروعة لبعض الشعوب .. والتي تعمل بمقتضى بعض النصائح والإرشادات القديمة بالوحدة والثبات ضد المظلومين في بقاع الأرض ، للاستمرار على هذه الشاكلة حتى يبقى مسؤوليها بين ذهاباً وإياباً في أربع اتجاهات الأرض .
الانسحاب الأمريكي المفاجأ من أفغانستان ، أعطى مؤشراً كبيراً على هشاشة السياسة الخارجية ، وعلى الأزمة الداخلية ، حيث تحاول واشنطن الظهور بالتماسك ، غير أن المراقبين والمحللين للأوضاع السياسية على المستويين الداخلي والخارجي ، أكدوا أن واشنطن فقدت بريقها أو ما يسمى بعض من هيبتها العالمية ، وبالتالي فهي مشغولة على عجالة بترتيب وتقييم المرحلة التي سبقت الانسحاب من الأراضي الأفغانية .
واشنطن مسكونة وهمياً بما يسمى ثبات البقاء في القمة ، وأن التاريخ توقف ، وربما حتى نهايته ستكون الولايات المتحدة في القمة ، وهذا طبعاً شرحا وافيا لما كتبه المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكاياما وأحد أشهر المنظرين لما صار يعرف بتيار المحافظين الجدد . وعن مشهد الانسحاب من أفغانستان ، وإذا ما كان الانسحاب يمثل علامة على نهاية السطوة الأمريكية على العالم ، قال فوكاياما ، أن تراجع الحضور العالمي لواشنطن يعود لأسباب داخلية في المقام الأول ، حتى وإن كان في ظاهره مرتبطا بأخطاء في سياسة البلاد الخارجية .
لا يجرؤ هذا المغرر به على قول الحقيقة ، أو تسمية الأمور بمسمياتها ، إلا أنه حام أو اقترب من الحقيقة فقط ، عندما عزا الانسحاب الأمريكي لأسباب داخلية ، وظاهرها خارجية ! نحن بدورنا نعلم جيدا ، ونتلمس الحقيقة المطلقة بالأخطاء الكارثية وراء تصرفات واشنطن سواءً في الداخل الذي ينقسم عموديا وافقيا إذا جاز التعبير ، أو على المستوى الخارجي بالمضي قدما بمعالجة الأخطاء بأخطاء فادحة .
إن الإعلان عن إبرام اتفاقية أوكوس الأمنية بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا يوم الأربعاء 15 سبتمبر/ أيلول 2021، والذي سمي باتفاق الغواصات النووية ، يفسر القلق والتوجس الأمريكي من قوة وتعاظم الصين ، ويعطي دليلا دامغا على استعجال واشنطن وفوضويتها في المرحلة الراهنة ، حيث لم تسأل عن حليفتها فرنسا التي نتمنى أن يتحول الاختلاف إلى خلاف مزمن .
ما يهم واشنطن في المرحلة القادمة هو زيادة التحالفات ، لمحاصرة الصين التي تتقدم بسرعة البرق لقيادة العالم اقتصاديا ً بالرغم من محاولة عرقلة تقدمها بجائحة كورونا وتأليب بعض الدول التي تتبع للصين بحجة مطالبتها بالاستقلال وتقرير المصير .
أعتقد أن واشنطن ستقوم ببعض الانسحابات من منطقة الشرق الأوسط ، وبقاءها في سوريا والعراق على سبيل المثال مسألة وقت ، وبالتالي تطبق بهذه السياسة مبدأ العالم النمساوي سيغموند فرويد ، نفعل السيء لتجنب الأسوأ ، الانسحاب بمفهوم الذهنية الأمريكية عمل سيء وغير محمود ، أما وإن تم يدل على أسوأ قادم ، وبالتالي تعكس العملية الاضطرارية التي قامت بها في أفغانستان بالرغم من مكوثها عشرون عاماً وخسارتها أكثر من 2 تريليون دولار ، عن الارتباك وحالة الفوضى .
جلجامش الشخصية الأسطورية وملحمته الشهيرة ، تواصل مع السحرة والمشعوذين وأصحاب الطرق والخزعبلات على أن يجد طريقة للخلود والهرب من الموت ، حيث سافر وبحث بأربع اتجاهات الأرض ، إلا أنه عاد مدركا ً أن لا مجال للخلود والبقاء ، فواشنطن ربما أدركت إدراك جلجامش باستحالة بقائها قائدة متفردة بحكم العالم ، وبالتالي عليها أن تحاول وتحاول لعل وعسى يطيل الوقت فقط كمرضى السرطان الذين يأملون بالأيام لا بالسنين ، ونحن بدورنا سكان الشرق الأوسط نفهم الأسباب التي من أجلها ستزول هذه الدولة كحال الإمبراطوريات البائدة في التاريخ القديم والحديث .
عذراً التعليقات مغلقة