(إلى الأمام نحو انتفاضة أخرى)
سمير عادل
لقد نجحت العملية ولكن المريض مات، هذه الجملة أقل ما يمكن أن توصف بها الانتخابات، التي طبلت وزمرت لها حكومة الكاظمي ومفوضية الانتخابات؛ بأنها ناجحة، وأنَّ الإجراءات الأمنية جيدة، إذ لأول مرة لم يحصل حظر تجوال يوم الاقتراع، بيد أن نسبة المشاركة التي وصلت الى اقل من ١٨٪ لم ترض المنظمة الأممية ولا الاتحاد الأوروبي ولا المراقبين الدوليين، ووضعت علامة استفهام كبيرة على العملية السياسية برمتها، وبهذا يكون المريض قد مات، لكن المهم بالنسبة لديهم أنَّ العملية نجحت.
وبإعلان المفوضية نتائج الانتخابات، وصلنا إلى جواب للسؤال الذي طرح عشية الانتخابات، وهو مصير (4) ملايين من البطاقات الالكترونية التي اختفت، وقد تبينت أنَّ هناك من ذهب باكرا واستطاع أن يشتري ما تبقى أو ما يمكن شرائه من تلك البطاقات، مثلما كنا نذهب في بداية السبعينات قبل ساعات من فتح أبواب الدكان أو الأسواق المركزية أو كما كان يسمونها (اورزدي باك) ونحن نجلس على أبوابه كي نحصل على طبقة بيض أو دزينة من أكواب الشاي أو أقداح الماء أو علبتين من جبن كرافت.. الخ.
المجرب لا يجرب، هذا ما خاطب به مقتدى الصدر حزب الدعوة الذي يحثه بالاعتراف بأخطائه واقتراف الجرائم بحق جماهير العراق وأخيرا يطالبه بتطهير نفسه، وهو أقرب منه إلى الشماتة مما هو نصيحة مجانية للتخلص من زعيمه المالكي. على العموم ما يهمنا هو المنطق الذي يستخدمه الصدر في شماتته بحزب الدعوة الذي تداعى صفوفه وخاصة بعد هذه الانتخابات، فإذا ما أخذنا به وطبقناه عليه فيجب التخلص من الصدر أيضا، لان الجماهير جربته، فهو أكثر تقوى وورعاً في ممارسته للفساد الإداري والسياسي والمالي، وجميع الوزارات التي استلمها منذ حكومة الجعفري وحتى استقالة وزيره للصحة في حكومة الكاظمي، متورطين حتى النخاع بأعمال السلب والنهب، علاوة على اقتراف جرائم حرب أيام الاقتتال الطائفي في ٢٠٠٦-٢٠٠٨ التي لا يمكنها أن تتقادم حتى لو تبوء اعلى المناصب في الدنيا والآخرة، وأخيرا وليس آخرا ما اقترفته ميليشياته من أعمال قتل وترهيب بحق المتظاهرين لفض انتفاضة أكتوبر وفتح الطريق لحكومة الكاظمي. بعبارة أخرى من الحماقة التفكير ولو لحظة بأن الحكومة القادمة التي يشكلها الصدر ستكون أقل فسادا من الحكومات السابقة، وأكثر ما يمكن أن تنجزه تلك الحكومة هو مجرد الإبقاء على شبح الدولة التي اطلق تهديده ووعيده للحشد الشعبي في يوم إعلان النتائج الأولية للانتخابات. وفي النهاية، المجرب كما قال هو أي مقتدى الصدر لا يجرب.
ان وعي الجماهير والمقاطعة المليونية التي وصلت نسبتها إلى أكثر من ٨٠٪ هي وراء تصاعد الصراع والتلاسن بين الكاظمي والمفوضية وبين جماعة الحشد الشعبي التي يقودها العامري والخزعلي ليشكلوا الإطار التنسيقي مع المالكي والفياض والحكيم والعبادي فطاحل الطائفية في العراق والمنطقة، وعي الجماهير أسقط ورقة التوت التي طالما أرادوا إخفاءها للعودة من جديد إلى الوكر الطائفي، وترتيب البيت الشيعي وإعادة الانسجام في صفوفهم بعدما أتت النتيجة لصالح التيار القومي المحلي المتمثل بالصدر والحلبوسي. وعي الجماهير هو الذي وقف خلف تصاعد الصراع بين هذه الجماعات الفاسدة، وهو الذي قال لا للانتخابات ولا لكل العملية السياسية، وهذا الوعي ليس له أية علاقة لا برواية نزاهة الانتخابات ولا بعدم نزاهتها، ولا بأكاذيب و فذلكات المفوضية العليا غير المستقلة للانتخابات، إذ لم تمض إلا أيام قليلة حتى سكتت كل المدافع الإعلامية بما يتعلَّق بنزاهة الانتخابات أو عدم نزاهتها، وخلال أيام قليلة أخْرَسَ وعي الجماهير أولئك الذين يتبجحون علينا بأن عدم المشاركة بالانتخابات كان خطأ جسيما وان (المقاطعون يعضون اصبع الندامة)، بيد أن الحقيقة التي يراد إخفائها هي أنَّ كل هؤلاء الزمارين والطبالين وخاصة الليبراليين منهم من الأكاديميين أو أصحاب دكاكين التي تسمى بمراكز الدراسات التي مولت من سرقة قوت الجماهير هم من يعضون أصابعهم العشرة من قوة الصدمة التي أحدثتها المقاطعة المليونية العظيمة، وبهذه المناسبة نقول لكل هؤلاء أن المشهد السياسي قد أوضح وبشكل لا لبس فيه، وبعيداً عن الإنشاءات اللغوية لهؤلاء المثقفين، فإننا نرى أنَّه ومهما كانت نتائج الانتخابات ونسبة المشاركة فيها فإن ما يحسم نتائجها هو سلاح المليشيات، فمن الغباء الذي هو أكثر من الحماقة الاعتقاد أن نزاهة الانتخابات هي من تحسم النتيجة، صحيح من الناحية القانونية أن المهلة التي منحتها المفوضية هي عشرة أيام لتقديم الطعون، بيد أن الحقيقة كي تقدم كاملة هي من أجل التفاوض تحت الطاولة وخلف الكواليس بين الكتل السياسية للتراضي على عدد المقاعد.
إننا نؤكد بأنَّ وعي الجماهير في هذه الانتخابات هو استمرار لوعي انتفاضة تشرين-أكتوبر، ومهما حاولت كل القوى التحدث باسم الانتفاضة أو انتحال شخصية من يمثلها أو طمس نسبة المشاركة في الانتخابات بكل بما أوتوا من قوة أو التغاضي عن تلك النسبة مع سبق الإصرار، فإن كل ذلك قد ارتطمت بصخرة حقيقة ترتكز على عدم شرعية العملية السياسية وبالإضافة إلى عدم شرعية من تشدقوا باسم ضحايا الانتفاضة والدماء التي سالت على أيدي الطرف الثالث، الذين يتخندقون اليوم أمام جسر المعلق لتغيير نتائج الانتخابات دون أي تردد أو خوف من طرف رابع يقتصنهم، كما اقتنصوا المئات من متظاهرين انتفاضة تشرين-أكتوبر.
إنَّ وعي الجماهير هذا يقف اليوم أمام مشروعين دويلة الحشد الشعبي والدولة القومية. فالاول التف اليوم حوله كل فطاحل الطائفية في البيت الشيعي، حيث اسقط كل ادعاءات الخطب غير العصماء لعمار الحكيم حول الدولة واللادولة، وأسقط تذمر العبادي من تطاولات الحشد الشعبي وعدم الإذعان لأوامره عندما كان رئيسا للوزراء، أما الثاني فهو المشروع القومي المتهرئ الذي يرفع لوائه مقتدى الصدر تحت عنوان (الإصلاح) الذي يعني في آخر المطاف فرض التراجع على منافسيه من الأجنحة الطائفية الأخرى في بيته الشيعي الذي لم ولن يغادره، فأمثال الصدر لا يعيشون بخبز يومهم ولا يحرقون خطوط الطائفة خلفهم مثل العبادي والحكيم الذين عادوا إلى حضن الطائفية أخيرا.
إنَّ هذه اللوحة لم تكن غريبة علينا، وقد اشرنا إليها في مناسبات مختلفة، فهي تكشف عن حدة وماهية تصاعد الصراع السياسي بين مشروع تيار الإسلام السياسي الموالي لإيران وبين مشروع التيار القومي العروبي والمحلي الوطني، وكلا المشروعين في مأزق، وقد عمقت نتائج الانتخابات من هذا المأزق السياسي، فلا تحالف الميليشيات المنضوية تحت لواء فتح-الحشد الشعبي يقبل بنتائج الانتخابات، ولا تيار الكاظمي وجماعة الصدر تقبل بتغيير نتائج الانتخابات، فمليشيا الحشد الشعبي-فتح وصلت إلى نقطة بعد هذه الانتخابات التي لم تعلن نتائجها النهائية ولم تصادق عليها المحكمة الاتحادية، وصلت إلى نقطة بأنها تريد الاحتفاظ أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فسادها ونهبها، وهي تقبل الآن بالتنازل عن تأسيس دولة ولاية الفقيه والوصول إلى تأسيس دويلة للحشد الشعبي على غرار دويلة حزب الله في لبنان، بينما يسعى التيار الأخر القبول على مضض بهذه الدويلة السرطانية التي تؤثر على مشروع الدولة القومية من اجل الحفاظ على امتيازاته ونفوذه الذي ازدادت بعد هذه الانتخابات، ليتحول بالأخير إلى شبح للدولة القومية في العراق.
بمعنى آخر أن بلورة وعي الجماهير الذي عبر عنه في انتفاضة أكتوبر ثم هذه الانتخابات وتطويره إلى وعي ثوري، من أجل إحباط هذين المشروعين، مشروع دويلة الحشد الشعبي ومشروع شبح الدولة القومية المحلية عبر إعلان مشروعه المستقل، مشروع دولة غير قومية وغير دينية، دولة تتكفل بتحقيق الحرية والرفاه والمساواة عبر حكومة منبثقة بشكل مباشر من الجماهير، دولة تنهي كل أشكال المليشيات في المجتمع، دولة ذات هوية إنسانية، إن هذه الدولة لن تتشكل عبر صناديق الكاظمي ولا صناديق الحشد الشعبي وصناديق الصدر، بل تتشكل عبر انتفاضة أخرى، إن الأيام القادمة ستكون حبلى بالاحتجاجات العظيمة في قطاع النفط والكهرباء والخريجين، وان كلا المشروعين، دويلة الحشد الشعبي وشبح الدولة القومية لا يحملان في أجندتهما غير الورقة البيضاء و تخفيض العملة المحلية ورفع أسعار المحروقات وفرض الضرائب على رواتب العمال والموظفين والمتقاعدين للحفاظ على امتيازات الرئاسات الثلاثة وكل الجيش البيروقراطي الفاسد من الموظفين وأصحاب المناصب الخاصة.
عذراً التعليقات مغلقة