فتنة المصير
المغاربة والبحر والرمل والجبل: رهبة وأصول وتصعيد
بقلم : عبد العزيز كوكاس
كاتب من المغرب
في البدء كانت العناصر الأربعة المشكّلة للكون، ما سمّاه الفلاسفة الطبيعيون الأوائل بالاستقصات، لكن في المغرب لم يكن هناك لا طاليس ولا هيروقليطس ولا أنكسيمانس، كان المثل الشعبي فقط يوصي بالحذر من ثلاث عناصر: هي المخزن والعافية والبحر، ها نحن قد أضفنا خامس الاستقصات، لما يجب أن نرهبه أيضا: المخزن.. وقد نصحنا الحسن اليوسي في كتابه “المحاضرات” أنه يجب أن نحذر من ثلاثة أشياء: “البحر والسلطان والزمان”.
أفكر دوما في علاقة المغاربة بالنار والتراب والماء، أما علاقتهم بالمخزن فيكفي العودة لكتب واتربوري وريمي ليفو ولما كتبه مصطفى الشابي ومحمد أقبلي وغيرهم لمعرفة كافة التفاصيل في هذا الأمر.. فالتراب نقصد به رمل الصحراء، وهو المجال الذي حظي بدراسات واسعة من طرف المؤرخين والجغرافيين والأنثربولوجيين، الذين أبرزوا حضوره في التطور الحضاري للمغرب، ويكفي أن معظم السلالات التي حكمت المغرب جاءت من رمل الصحراء من المرابطين والموحدين حتى العلويين، وأن المدن التي اختارها أغلبية السلاطين المغاربة كانت برية بعيدا عن ماء البحر وغدره من فاس إلى مراكش حتى تسمى المغرب لدى المشرق باسم عاصمته حتى منتصف القرن الماضي.. وقد تسمت حرب الستة أيام بين المغرب والجزائر عام 1963 بحرب الرمال، والجدار الرملي في الصحراء اعتبر أحد أكبر الاستراتيجيات العسكرية في الدفاع، والمغاربة وحدهم لهم حمام رملي يبدو غريبا لدى غيرهم يعالج في اعتقادهم ما عجز عنه الطب، من أمراض الروماتيزم، وحين يريدون التعبير عن استماتتهم في الدفاع عن الوطن، يقولون إنهم لن يفرطوا في حبة رمل واحدة منه..
اهتمت الهيستوغرافيا المغربية بالجبل الذي له قدسيته ورهبته ورمزياته في الثقافة المغربية، سواء في ارتباطه بالسماء وآلهتها قبل الإسلام في الثقافة الأمازيغية، أو كمجال للخلوة الصوفية، أحيط الجبل بدراسات غزيرة منذ عهد الحماية إلى اليوم، باعتباره مكونا مجاليا طبيعيا يعبر عن علاقة الإنسان المغربي بمحيطه البيئي، وتأثير ذلك على تصورات المغاربة ومعتقداتهم واقتصادهم وأساليب تدبيرهم وأنماط معيشهم، الجبل مقترن بالغابات وبالثروة الحيوانية والمعدنية، مصدر رزق وعيش طرح تحديات وشكل مجالا للاحتماء في كل الغزوات العسكرية وكان مصدر مقاومة للمستعمر عبر التاريخ، وطرح صعوبات جمة بعد الاستقلال على مستوى تنمية اقتصاده الاجتماعي ومحاولة إدماجه في ظل السياسات العمومية كمجال انفردت الإدارة المخزنية بتدبيره من خلال الأعيان التابعين لها، ومن خلال تقسيمه إداريا وتيسير التواصل بين شتاته من خلال شق الطرق وعبر أشكال “تحضيره وتمدينه” بربطه بالماء الصالح للشرب والكهرباء وشبكات التواصل، وهو أيضا جزء من المغرب العميق أو غير النافع الذي ظل مقصيا من اهتمام سياسات تدبير التراب، إذ رغم ارتباط بناء السدود بالجبال المغربية، فإن مياهها كانت تروي سهولا بعيدة وإقطاعيات اقتصاد ربط بالتصدير أساسا، بعيدا عن الفلاحين البسطاء، في إطار توازن غير متكافئ بني على إفقار الجبل وإثراء السهول، كأني بالجبل المغربي يردد مع أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى فالسيلُ حربُ للمكانِ العــالــي
الجبل يحيل عند المغاربة أيضا على الأعالي والشموخ: سأعيش رغم الداء والأعداء، كالنسر في القمة الشماء كما يردد الشابي، ويدل على الهواء، تنسم الحرية، عدم الرضا بالذل والهوان.. الجبل: يحيل إلى النقاء والصفاء الإنساني، السموق والسمو، من هنا نقاء “جبالة” وأهل الريف عامة والأطلس، وقد ارتبط في الأغلب بالثورة على الوضع القائم، وظل المغاربة يرفعون التحدي حتى اليوم بالقول: “نطلعوا للجبل”، ويروى أن الملك محمد الخامس، لم تعجبه ضغوطات المقيم العام الفرنسي يوما، فصرخ في وجهه ثائرا: “إلى ما بغيتوش، غنطلعوا للزبل”، لأنه كان ينطق الجيم زايا على عادة أهل مكناس، والله أعلم..
لكن حذار من البحر والنار والمخزن، ها هي الاستقصات الثلاثة المغربية المحذر منها، النار وهي مرادف لجهنم أيضا، أي العافية التي كانت ترهب المغاربة وتحرق ديارهم ومحاصيلهم فسموها تيمنا بالصحة التي تهلكها أي العافية، ويتم الابتهاج بالنار بشكل طقوسي مرة واحدة في السنة حيث يعقبها العنصر النقيض: الماء عبر زمزم، تخطي النار هو تمثيل لطقس رمي سيدنا إبراهيم في النار التي كانت عليه بردا وسلاما، والماء هو إعادة لمنبع زمزم الذي تفجر بين يدي زوجة سيدنا إبراهيم وابنها إسماعيل..
النار إشارة إلى بروميثيوس سارق شعلتها من الآلهة في الأساطير اليونانية، أحد المكونات الأربعة لميلاد الكون كما قال بها الفيزيوقراطيون اليونانيون الأوائل.. يقول الباحث يوسف المستاتي عن علاقة المغاربة بالنار كما تظهر بشكل جلي في طقوي عاشوراء: “تحضر النار بشكل لافت في احتفالات عاشوراء، عبر مختلف الأشكال والتعبيرات الرمزية.. يبدو حضورها طاغيا، ففي المدن يُشعل الأطفال والشباب النار ويقفزون فوقها، أو يمرون عبرها، وفي بعض القرى كان يسهر الفقهاء والطلبة في بعض المناطق على إيقاد النار التي تمر الدواب من جوارها، ثم الأطفال الصغار فأفراد الأسرة.. حتى يأخذوا بركة دخان النار المشتعلة بأغصان أشجار مباركة – كانت الزيتون في الأغلب- ليبدأ بعدها الاحتفال بالنار عبر القفز فوقها.
علاقة المغاربة متوترة مع البحر
تتنوع الأشكال التعبيرية وتختلف باختلاف المناطق، لكن اختلاف التفاصيل والجزئيات لا ينفي حقيقة أنها كلها تعكس في عمقها استمرارا لذات العلاقة مع النار، حيث تغدو هذه الأخيرة مصدرا للبركة والطهارة”.https://marayana.com/laune/2020/08/26/10121/
بخلاف ذلك لم يرد المخزن إلا في المثل المغربي ودراسات المحللين الكبار لبنية السلطة في المغرب، ما هو المخزن؟ سؤال لغز رغم ما أُلفت فيه من كتب من طرف محللين وازنين.. ولكثرة تشعباته، ولجبروت غموضه أضحى غامضا ومرهبا، حتى إن الأستاذ محمد اليازغي، قد بشرنا يوما في إحدى تصريحاته أن المخزن قد مات! فإنه لربما لم يكن يعتقد أنه يتحدث عن طائر العنقاء أو الفينيق أو السيمورينغ الذي يولد من رماد، والله أعلم، أعود بالله من النار والبحر والمخزن..
لكن يطرح سؤال جدي حول علاقة المغاربة بالبحر أي الماء، لمَ تبدو علاقة المغاربة متوترة مع البحر إلى الحد الذي دفع الإثنولوجي الفرنسي روبير مونطان (R.Montagne) إلى القول: “إن المغاربة لا يحبون البحر ولا يعرفون عنه شيئا. فالمحيط الأطلسي يخلق لديهم شعورا عميقا بالرعب”، ويعتبر روجي كواندرو Coindreau Roger “الخوف من البحر ظاهرة عامة عند المسلمين. ويبقى هذا الرعب أشد حدة عند المغاربة مقارنة مع غيرهم من أهالي شمال إفريقيا” (“قراصنة سلا”، ص 53)، ولعل هذا سبب الحديث عن انتشار أضرحة أولياء الساحل الذين كانوا يحمون المغاربة من شر البحر خاصة على طول بحر الظلمات.. ويقال إن المولى إسماعيل كان يردد أن “الله وهب البر للمسلمين وترك البحر لأهل الوثنية، وأن العرب تحسن ركوب الخيل لا ركوب السفن”، وهو الذي وظف الجهاد البحري في صراع النفوذ مع الدول الأوربية خاصة.. كيف يطل المغرب على واجهتين بحريتين، ومع ذلك لا يهتم المغاربة بالبحر ولا ينظرون إليه إلا رهبة وخوفا؟
أكد الصديق معنينو في آخر كتاب صدر له حول: “سلا في القرن 17، جمهورية القراصنة”: “في المخيلة المغربية تمركز الخوف من هذا “المجال المجهول”… وكان هناك اعتقاد سائد هو أن البحر يختزن مخلوقات غريبة وعجيبة ما هي بالإنسان أو الأسماك.. ولذلك أطلق عليه المغاربة لقب “السلطان” لهيبته وقدسيته.. ويؤكد أحد الباحثين أن الهيبة من البحر دفعت كافة الدول الحاكمة في المغرب إلى اختيار أماكن عواصمها بعيدا عن الساحل خوفا من إنزال أو غزو أجنبيين”، لكن باحثة أخرى تعزو هذه الأحكام إلى غياب المصادر عن الملاحة المغربية وعلاقة المغاربة بالبحر، إذ ترى حليمة فرحات أن ما نجهله عن هذا البعد أكثر بكثير مما نعرفه، وما لدينا جله أجنبي تجسده المحكيات الاستعمارية، إذ بالعودة إلى ما ذكره مؤرخون أو سفراء أو ملاحين بعيدين عن المغرب، عن موانئ ومراسي مغربية وعن أميرالات البحار المغاربة بالكثير من التقدير والتبجيل لحنكتهم وخبرتهم في عرض البحار، وبالعودة فقط إلى الطبخ المغربي وحضور المنتوجات البحرية ضمن أصوله التي تعود إلى قرون ضاربة في التاريخ القديم، نستنتج أن المغاربة كانوا على معرفة عميقة بالبحر وعن علاقة تتجاوز ما تحدثت عنه الكتب الكولونيالية من خوف وجهل ورهبة وريبة، ولا يمكن للمرء إلا أن يحيي أبحاثا جادة لمؤرخين مغاربة أعادوا الاعتبار لعلاقة المغاربة بالبحر.
يبدو أن جهلنا بأبعاد البحر في التاريخ المغربي هي سبب الكثير من أحكامنا القطعية عن جهل المغربة بالبحر، كما أنمحاولة كتابة التاريخ البحري المغربي تصطدم بالعديد من العراقيل والصعوبات لعل أبرزها غياب “أرشيف بحري” وطني يضم المؤلفات والوثائق ذات العلاقة بالنشاط البحري المغربي. فالنصوص التي تعالج النشاط الملاحي المغربي توجد موزعة بين أرشيفات العديد من الدول الأوروبية والإسلامية والإفريقية، يقول الأستاذ بولقطيب.
وبالعودة إلى كتب التاريخ نحد ابن الأثير في كتابه ” الكامل في التاريخ” الجزء 8 ص 136 يقول عن المرابطين وتوجههم نحو الاهتمام بالبحر وهم القادمون من رمال الصحراء: “ثم إن الصحراء ضاقت عليهم وأرادوا إظهار كلمة الحق والعبور إلى الأندلس ليجاهدوا الكفار”، ويذكر ابن خلدون أن العهد المرابطي كان “موفور الأساطيل، ثابت القوة، لم يتحيفه عدو ولا كانت لهم به كرة” (“المقدمة” 2004 ص 439). ويمكن الاستدلال على التوجه البحري لسيدي محمد بن عبد الله بعد قراصنة سلا وما يسمى بالجهاد البحري في القرنين 16 و17، وما يحدث اليوم من أزمة جزيرة ليلى عام 2002 فيه إعادة اعتبار واهتمام كبير بالمجال البحري.
عذراً التعليقات مغلقة