جواز التلقيح.. بين ضمان الأمن الصحي والحقوق الشخصية 

آخر تحديث : الأربعاء 20 أكتوبر 2021 - 9:24 صباحًا
جواز التلقيح.. بين ضمان الأمن الصحي والحقوق الشخصية 


unnamed - قريش

هشام استيتو 

خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب

يعتبر الصراع الطويل للإنسان مع الأوبئة وجهًا لعدة أشواط من حرب غير قابلة للحصر الإحصائي رغم تعدد الشواهد الأركيولوجية الموروثة من حضارات مختلفة، خلدت جدارياتها ونصوصها المقدسة، وأشعارها وملاحمها، فصولا، ومشاهد من حملات الإنسان ضد الأوبئة، ترتبت عنها تصورات مشتركة لمحاولات قهر الأوبئة.
لقد كان لجواب الإنسان على تفشي أعراض متزامنة في نطاق بشري غير ثابت، وتفرض تشخيصا منتظما لتدهور عام في وظائف الجسم مع آثار ظاهرة على سلامة الأنسجة وأداء الأعضاء يمكن أن تفضي إلى الموت وعلى نطاق متفاوت الانتشار، كان له تجسيد متدبدب حسب تطور المجتمعات ثقافيا وسياسيا، وحتى اقتصاديا وعقائديا، لذلك اتخذ هذا الجواب مظهرا طقسيا فرديا، أو كهنوتيا مؤسسا، أو قهريا سلطويا يمتح من تجارب استقاها الإنسان من محيطه وكانت ناجعة إلى حد مقبول، لذلك ظهرت فكرة الحجر الصحي من خلال عزل بعض عناصر القطيع الحيواني عن باقي الحضيرة، لتتسرب الفكرة عبر مدن شرق المتوسط وآسيا الوسطى إلى باقي العالم وتتوج بفكرة الحجر المنظم والتي اعتمدتها حتى الديانات التوحيدية كجواب على تفشي الأوبئة.
هذه الأخيرة اتخذت بعدا كارثيا عندما غزت أوربا قبيل عصر الأنوار وقضت على تركيبتها السكانية تماما كما حدث في باقي أطراف البحر المتوسط وذلك بين سنة 1347 و 1352 ميلادي، إذ تسببت في هلاك حوالي ثلث الساكنة كما لم تسلم منه باقي أطراف العالم البعيدة فيما وراء الهملايا، وسهوب آسيا، وقد عرف هذا الوباء طفرات ضمنت استمراره إلى حدود القرن الثامن عشر، حيث كانت البشرية على موعد تاريخي مع اللقاح الذي دخل لأول مرة إلى إنجلترا مع ممارسة اقتبستها الإنجليزية لورد ماري مونتيجو من بعض القرى في أسيا الصغرى، إذ تلقفتها الممارسات العلاجية واعتمدتها نظريات الطب وراكمتها مع مساهمات ادورد جانر ضد الجدري ولويس بالستور ضد الكلب، وفران ضد الكوليرا، ونلكسنر ضد شلل الأطفال وغير ذلك من النجاحات الإنسانية المهمة في قهر الأوبئة.

لقد عاصرنا تفشي وباء كوفيد 19 الذي فتك مالا يحصى من المصابين، وأصاب تفشيه العالم بشلل تام وتغير شامل في تصريف معاشنا اليومي، لكن وفي ظرف زمني قياسي تمكنت الأبحاث من طرح عدة أشكال من اللقاحات والتي تلقفها الرأي العام بجدال حول نجاعتها وعدم تضمنها لأثار جانبية، هذا الجدل الذي أججته وسائل التواصل الإجتماعي وبمنهجية دعائية غير موضوعية، الأمر الذي أثر إلى حد بعيد في قناعة الناس وإقبالهم على حملات التلقيح، الأمر الذي دفع بعض صناع القرار عبر العالم إلى محاولات تنزيل لطرق فرض هذا اللقاح عبر تقنيات جعل الحصول على بعض الخدمات رهين بأخذ جرعات اللقاح، ومنها الحكومة المغربية التي قررت اعتماد جواز التلقيح كتأشيرة مرور للتتقل بين المدن والسفر إلى الخارج، وحتى الولوج إلى الإدارات العمومية وبعض المؤسسات الخاصة، وهنا بالذات تطرح إشكالية الموازنة بين ضمان الأمن الصحي للمواطنين، وصيانة حقوقهم الشخصية والفردية والتي تقدس اختياراتهم.

فإذا كان الحق في الصحة يفرض على الدول تمكين الأفراد وبقدر الإمكانيات المتاحة من وسائل الوقاية والعلاج، كما تم التنصيص عليه في معاهدات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فقد تم التنصيص أيضا وبنفس القوة وفي نفس المعاهدات على الحق في التنقل والإختيارات الفردية والإستفادة من خدمات المرافق المختلفة المتنوعة المستحقة للإنسان وبشكل طبيعي ومطلق.

ومن الثابت سمو هذه الشرعية الأممية للحقوق الأساسية على القوانين الوطنية في كثير من الدول إن بشكل مباشر وصريح كما هو معتمد في دستور المملكة المغربية، أو عبر إقرار هذا السمو في المواقف القضائية لكثير من الدول.

من هذا المنطلق فإن إعلان الحكومة المغربية الأخير حول اعتماد جواز التلقيح كوسيلة للإستفادة من جل الخدمات، يبقى على محك سلامة قيمته القانونية والتي لا يمكن الحسم فيها إلا عبر رأي القضاء مباشرة بعد التفعيل الجدي لهذا القرار، سيما وأن الحكومة مسلحة بقانون الطوارئ الصحية، والذي سيجعل القضاء على محك نفس الموازنة بين حماية النظام العام الصحي بما يفرضه من تعطيل لبعض الحقوق، وحماية الحقوق الفردية والشخصية والتي أجمع الفقه القانوني على قدسيتها وصفتها الطبيعية المرتبطة بوجودية الإنسان ومنذ ولادته.
ويبقى الإستدلال الموضوعي على نجاعة اللقاح وجدواه الصحية، والترويج لذلك عبر مختلف وسائل التوعية هو الطريق السليم لتجنب مثل هذا المأزق الحقوقي والذي لن تسلم منه حتى أعرق النظم القانونية احتراما للإنسان وحقوقه الأساسية المقدسة، لتبقى فكرة اللقاح المقبول اجتماعيا والمؤكدة نجاعته الصحية والمتوافر بشكل كاف للناس والمقبلين عليه بوعي واختيار هو الوسيلة الحصرية التي حدثنا التاريخ على قوتها في حصر الأوبئة والقضاء عليها، وفي ذلك فلتتنافس الأنظمة الصحية.

مقال خاص لصحيفة قريش – لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com