هشام استيتو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
الخطاب السياسي لغة موضوعية شفافة للتواصل مع الفاعلين كما حدده تشومسكي، وهو ما ينطبق على خطاب المسيرة الخضراء الذي وجهه العاهل المغربي بمناسبة الذكرى 46 للمسيرة الخضراء، والذي ذكر من خلاله بالسياق الذي طبع هذه الذكرى اليوم، والمتسم بدينامية متواصلة منذ العملية السلمية والحازمة التي مكنت معبر “الكركارات” من العودة الى طبيعته كشريان وصل بين المغرب وعمقه الافريقي، مرورا بتأكيد الإعتراف الدولي بمغربية الصحراء، وبتدابير قانونية لا تحتمل أي لُبْس، منذ الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على صحراء، وما تلاه من فتح عدة قنصليات لعدة دول بمدينتي العيون والداخلة.
وفي الوقت الذي لم يتوقف الاعلام في الجزائر ووسائل الدعاية فيتندوف عن بث بيانات عملياتية يومية منذ 13 نونبر/ تشرين الثاني 2020، أكد المغرب هذا اليوم أنه متشبث بالخيار السلمي ووقف اطلاق النار والعملية السياسية، بمرجعيات مجلس الأمن منذ سنة 2007 ولقاءات جنيف، وهو ما يؤسس لنفي رسمي مغربي لِما تُحاول عناصر الجبهة الترويج له من كونها في حالة استئناف القتال ضدَّ المغرب، والذي أكد أنه لا يمكن أن يفاوض على صحراءه المستقرة الآن وتعرف دينامية تنموية شاملة، جعلت جهات الصحراء فضاء مفتوحا للتنمية والاستثمار الداخلي والخارجي.
لقد أكد ملك المغرب أيضا، أن أي اتفاق ثنائي أو مع مجموعة اقتصادية لا يمكن يستثني أقاليمه الجنوبية.
وإذا كانت أهمية الخطابات السياسية على الصعيد الخارجي، تقاس بالظروف الدولية المواكبة لها، وقوة دلالة رسائله في السياق الترقب الاقليمي والدولي لمناسبته، فإن خطاب العاهل المغربي لهذا اليوم حمل جوابا متوازنا لهذا الترقب، وارتقى بالمغرب عن المزايدات الصادرة عن جارته الشرقية منذ انطلاق التصعيد الجزائري المتواتر وقطعها للعلاقات مع المغرب وما تلى ذلك من مسلسل توجه بيان الرئاسة الجزائرية الذي حمل المغرب مقتل ثلاثة سائقين جزائريين في المنطقة بأسلحة مغربية متطورة، وتوعد بالعقاب.
هذا الخطاب الذي ترقبه الجميع لم يأت على ذكر الواقعة ولا الرد على تداعياتها، بقدر ما بني على منهجية التحديد الحاسم للثوابت الوطنية المغربية بشكل بنيوي أصيل عكس طبيعة القضية عند المغاربة، والتي تتجاوز الحوادث الفردية المعزولة والغير ثابتة والتي يمكن أن تتخذ فقط كذريعة من أجل الاخلال بالأمن والسلم في شمال أفريقيا التي حيا العاهل المغربي شعوب دولها الخمسة المشكلة للاتحاد المغرب العربي.
وهنا يجب أن نشير أن من ضمنها الشعب التونسي الذي امتنعت دولته مؤخرا عن التصويت في مجلس الامن على تمديد عمل بعثة المينورسو، والجزائري الرهين لدى طغمة عسكرية سرقت حراكه وأطلقت مسلسل الاستفزاز المتواصل ضد المغرب والمعاكس لوحدته الترابية.
الثابت الأول الذي أشار اليه الخطاب مرتين هو ثابت مؤسسي مغربي أصيل له مهمة محورية في حماية باقي الثوابت، وهو الطبيعة الشرعية لدور القوات المسلحة الملكية في القيام بالعمليات السلمية من أجل حماية الوحدة الوطنية، هذا الثابت الذي أَصَّلَ لهُ الملك بعملية الكركارات والتي وصفها بالحزم والسلمية يُقدم مؤشرا هاما على سلوك الدولة المغربية وعقيدة جيشها، ومهنيته، التي تُبعد عنه التورط في عمليات خارج التراب الوطني، أو يمكن أن تتسم بالعدوان، أو تكون عبثية، لذلك، يمكن لمن يدَّعي تورط هذا الجيش في مثل ما أشارت إليه الجزائر، عليه أن يزن هذا الموقف بخصوصيات السلمية والحزم، والتي تحيل عليها عملية الكركارات الواقعة ضمن حدود الدولة المغربية قبل أن يطلق الاتهامات المجانية.
وما يعضد هذه العقيدة العسكرية هو تشبث المغرب بالعملية السياسية وفقا للشرعية الدولية وفي إطار السيادة الوطنية، ممَّا يحيل إلى ثابت ثان وهو مغربية الصحراء كعقيدة سياسية تخدمها الطبيعة المهنية للجيش المغربي، الأمر الذي أصله العاهل المغربي بالقطع المبرم مع أي تفاوض حول مغربية الصحراء، لأن هذا الجزء من الإقليم المغربي له ممثلون منتخبون وشرعيون في مؤسسات الدولة المغربية، وهم ممثلوه الشرعيون الحقيقيون، وهو الأمر الذي يؤطر الثابت الديمقراطي الثالث الذي تضمنه الخطاب الملكي.
أما الثابت الرابع الذي أبرزه خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2021، فهو الأثر التنموي للعقيدتين السياسية والعسكرية المغربية، بما ينتج عنهما من تصنيف للمغرب كدولة مسالمة بنظام حكم ديموقراطي، تركز على التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والأمر الذي يجد أثره على الأرض في الجهات الصحراوية التي أصبحت ورشا مفتوحا للتنمية، ومجالا للاستثمار يقبل عليه الرأس مال الوطني والأجنبي، لكن مقتضيات المصلحة الوطنية تحتم عدم التعامل مطلقا مع أي “شريك” سواء كان دولة أو مجموعة اقتصادية لا تحترم وحدة المغرب عبر محاولة استثناء جزء من اراضيه من اتفاقيات التبادل الاقتصادي، وهنا يجب ان نتوقف عند نقطتين مهمتين:
الأولى: قدرة الموقف المغربي لخلق اختراق سياسي في بنية المجموعات الاقتصادية رغم صلابتها التنظيمية، من خلال تصنيف الملك في هذا الخطاب للفاعلين الدوليين إلى دول ومجموعات، إذ داخل المجموعة الاقتصادية الواحدة توجد دول لا تعاكس وحدة المغرب وتعترف بسيادته الكاملة على إقليمه، وهذه نقطة فاصلة تنأى بالاستثمار في جهات الجنوب المغربي عن المواقف السياسية ولو ألبس عليها ثوب القضاء، كما حصل في أوروبا من صدور قرار قضائي حول بعض الاتفاقيات الاقتصادية مع المغرب.
والثانية: وصول المغرب إلى مجالات تعاون اقتصادي يمكن أن تشكل بديلا عن الدول التي لا تحترم سيادة المغرب ووحدته الترابية بمواقفها المزدوجة، وهو الأمر الذي بات معلنا وبشكل رسمي في هذه المناسبة، وفي ذلك تقييم واضح للمكاسب الجيوستراتيجية الناتجة عن اتفاقيات مع دول أوروبية، من خارج الاتحاد الاوروبي، ومع دول من الأمريكيتين، وآسيا وأيضا أفريقيا، وهي الجهات التي فتحت من بعض دولها تمثيليات دبلوماسية بالصحراء المغربية.
والملاحظ في هذا الخطاب أيضا الدقة في استعمال المصطلحات، فما دام أن إقليم الدولة واحد فمن المناسب أيضا التعبير في مناسبة يهتم بها المحيط كذلك استخدام مصطلح الجهات للتعبير عن الوحدات الترابية، الأمر الذي ينسجم مع توجه المغرب لإقرار جهوية متقدمة، وبما يخدم كذلك الطرح الوحيد الممكن واقعيا لحل قضية الصحراء، وهو الحكم الذاتي.
كذلك يمكن ملاحظة الرمزية القوية في تسوير الخطاب، عبر الإشادة في مقدمته بعملية قام بها الجيش الملكي، وتحيته مرة أخرى في خاتمته مع باقي المصالح الأمنية هو ما يعد رسالة بالغة الخصوصية بلغة دبلوماسية تستند إلى الشرعية الدستورية لدور الملك لقائد أعلى للقوات المسلحة الملكية، وأيضا كضامن لوحدة التراب الوطني وضامن لاستمرارها، وهو الأمر الذي يكشف بين الأسطر أي لبس متوهم في الذهنية السياسية للعسكر الجزائري الحاكم، والذي أخذته بعيدا قراءته الخاصة للتجاهل المغربي لتصعيده المتواتِر.
هذه الرمزية تعطي لمضامين الخطاب السلمي بُعدًا قويا وسياديا، ويختزل لدى المتلقي المترقب لمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء من أجل اقتناص مفاعل يخدم طموحه الغير العقلاني والنزقي، يختزل له الوضع في هذا الجزء من أرض المغرب، والمتسم بالتنمية والتدبير التشاركي للشأن العام، في إطار سيادي تضمن له المشروعية القانونية الحماية على مختلف المستويات، وبكل السبل المشروعة.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة