هشام استيتو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
عاشت محاكم المغرب يوم العاشر من شهر نونبر/ تشرين الثاني 2021، على إيقاع وقفات احتجاجية دعت إليها فيدرالية جمعيات المحامين الشباب بالمغرب، وهي تنظيم جمعوي يضم جل جمعيات المحامون الشباب بالبلاد، وقد سبق أن دشن سلسلة من الخطوات الاحتجاجية منذ أسابيع تنديدا بالوضعية التي تعيشها العدالة بالمملكة المغربية عموما، ومهنة المحاماة على وجه الخصوص.
هذا التنظيم الذي يحمل نفسا نقابيا، وحقوقيا شبابيا، ليس فريدا من نوعه، بل يشتغل إلى جانب عدة تنظيمات جمعوية؛ تضم هيئات وأشخاص ينتمون لمهنة العظماء كما تسمى في بلاد العام سام.
لكن ما يميز الفدرالية كونها تؤطر جمعويا جل شباب مهنة المحامين بالمغرب، والذين تعززت نسبتهم ضمن عموم أصحاب البذلة السوداء بفعل إلتحاق عدد مهم من خريجي كليات الحقوق بهذه المهنة التي تمنى الملك لويس الرابع عشر الانضمام إليها.
هذا البريق الذي يبدو من خلال هذا القول الذي يمكن لكل محام عبر العالم أن يعتز به، يزيده لمعانا ما تحضى به المحاماة من تكريم مجتمعي لائق في عدة دول، كيف لا وهي مهنة “الماهاتما غاندي”، ورئيسة الأرجنتين السابقة كرستينا كرشنر، وأزيد من أربعين ساكنا للبيت الأبيض، وعدد غفير من نظرائهم في أوروبا وأسيا.
ولعل الحاضن الأساسي لبروز المحامي كقادر على تسير الشأن العام وعلى أعلى مستوى، هو ثقافته الحقوقية والمدنية والطبيعة الحرة للمهنة، الأمر الذي يجعله مؤهلا أكثر من غيره للمهام المختلفة داخل الدولة، وفي المنظمات الدولية أيضا، وكذلك في صفوف الجماهير الشعبية، كقائد فذ لحراكها، أو في شكل حركات تغيير تشكلت فقط من المحامين كما حدث في باكستان سنة 2008.
المحاماة في المغرب التي دشن شبابها ما يأمل أن يتحول إلى حراك مهني تحضى بحماية دولية عبر قواعد حمائية؛ منها المبادئ الأساسية بشأن دور المحامين، القواعد المعتمدة في مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا أيام 27أغسطس/ آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول 1990 والذي ذكر بوضوح في ديباجته بالمرجعية العامة لحقوق الإنسان ؛ بَدْأً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومرورا بالعهديين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية، وكذا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وباقي المبادئ المتعلقة بحماية الأشخاص المحتجزين، والسّجناء، والضمانات التي تكفل حماية حقوق الأشخاص الذين يواجهون عقوبة الإعدام، وضحايا الشطط والإساءة في استعمال السلطة، وفي صلب كل ذلك الدور الكبير للمحامي في الدفاع عن الحق والقانون، وهي القواعد التي شددت على دور ما أسمته بالرابطات المهنية للمحامين في إعلاء معايير المهنة والدفاع عن منتسبيها وصيانة أدابها، ومكافحة أي تضيق يمكن أن يتعرض له المحامي أثناء القيام بمهامه، كما توجب عليها التعاون من السلطات الحكومية في تقديم المساعدة القانونية لكل من يحتاجها من مرتفقي العدالة، مع حض الحكومات على إدماج هذه المبادئ في تشريعاتها.
على هذا المستوى، نشير إلى القيمة القانونية للإعلان الأممي الذي لا يمكن أن يرقى إلى الاتفاقيات الدولية في إلزاميته، لكنه يشكل مؤشرا دوليا لقياس التمييز بين دولة القانون ودولة البوليس كمفهوم إصطلاحي وتقني، يعبر به عن الدول التي لا تحترم الشرعية القانونية في سلوكها، وهو حال الدول السائرة في طريق النمو بما فيها الدول في منطقتنا.
وهذه الشرعية أصبحت تتجاوز التدابير المحلية إلى وجوب إعتبار ما أقره المجتمع الدولي من حقوق الحد الأدنى للإنسان على مختلف الأصعدة، وهي الحقوق التي تشربها الجسم المدني الدولي وأصبح يتنفسها، ولا يمكن أن يستثنى منه المحامي الحقوقي بطبيعته الفطرية، ما دام أن جزء من تشكيله النفسي يتعلق بالميول والاستعداد القبلية، حتى قيل “ان المحامي يولد محاميا، والقاضي تصنعه الأيام” .
هذه الميول لم تكن عصية عن الوعي الجمعي للمحامي الشاب في المغرب، وهو يستكشف واقع العدالة كسلطة مستقلة بصريح دستور المملكة لسنة 2011، وكمرفق عام يفترض أن يصرف فيه قناعاته وتصوراته حول الحق والقانون، ويفترض أن يتحمل فيه مسؤولية جسيمة جاءت مضامينها بتركيز في قسم مهنته.
ورغم الإيجابيات التي بات يعرفها قطاع العدل في البلاد، والناتجة عن تطورات متراكمة منذ الاستقلال، مرورا بالنضال المجتمعي خلال سنوات الرصاص، والتي ساهم فيه المحامي المغربي بكفاءة عالية، إن من خلال جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أو بعمله داخل المحاكم في ملفات ذات طبيعة سياسية، إلى أن تم القطع الرسمي مع تلك الفترة وبإرادة سياسية واضحة.
غير أن مشاكل بنيوية مازالت تحول دون تحقيق المراد من دور المحامي في المغرب، وضمن قطاع العدل، هذه المشاكل البنيوية لا علاقة لها بالإرادة السياسية، بقدر ما لها علاقة بالنصوص القانونية وأيضا ببعض العقليات التليدة والمغرقة في رجعيتها، والتي تعاكس المشروع المجتمعي الذي تعيشه البلاد.
فبالنسبة للنصوص القانونية، هناك مشاكل تتعلق بنطاق عمل المحامي، ووجود منافسة لمهامه من بعض المهن المتطفلة على مهامه واختصاصه، وهي مهن غير مهيكلة، تفرض حرمان المواطن المغربي من حقه في الولوج المستنير إلى العدالة، عبر استغلال ثغرة قانونية تتمثل في عدم التنصيص على إجبارية المحامي في بعض المساطر التي هناك من يزعم أنها مساطر بسيطة، إضافة إلى هزالة التعويضات عن المساعدة القضائية، فضلا عن دوره في مساطر تقديم المشتبه فيهم أمام النيابة العامة، والاستحالة الواقعية لفعاليته أمام محاضر الضابطة القضائية في الجنح والتي كان وزير العدل الحالي يحمل عليها بشدة عندما كان يزاول مهنة المحاماة.
هذه المحاضر يوثق بمضمونها إلى أن يثبت عكس ما جاء فيها، وهو الأمر الصعب هيكليا، بالنظر إلي محدودية دور الدفاع في مراحل ما قبل المحاكمة.
كما أن مشكلة العقليات بالنظر لما أصبحت عليه بعض قطاعات الموظفين ضمن مرفق العدالة من قوة نقابية مع ما أبانت عنه من مواقف استئثارية في أكثر من مناسبة بشكل تجاهلت معه دور المحامي، رغم أن الأخير كان في طليعة المدافعين عنها تاريخيا، الأمر الذي يمكن معه توصيف هذه النقابات بالتغريد خارج نطاق مصلحة المواطن، وهي التي كانت تشل المحاكم بإضرابات تقتطع ثلاثة أيام عمل من أصل خمسة، ولمدة ناهزت السنة، دون تنسيق مع من يفترض أنهم شركاء بما فيهم المحامون، ولم تتراجع هذه النقابات إلا بتفعيل الحكومة لمبدأ الأجر مقابل العمل، خوفا من الاقتطاعات التي يمكن أن تطال أجور “مناضليها”، وكان تراجعها لحفظ ماء الوجه فقط، وليس لتحقيق إصلاح شامل وعميق في قطاع العدل.
فضلا عن تكليف المحامي بأداء ضرائب ذات طابع تجاري، كـ “الباتينتا”، والضريبة العامة على الدخل، رغم البعد الإنساني لمهامه، وأيضا غياب الوعي بأهمية رسالته لدى بعض الإداريين في عدة قطاعات حكومية، وهو الجهل الذي يؤدي كثيرا إلى تكبيده مساطر هو في غنا عنها، وكل ذلك يتنافى مع بعض جوانب الإعلان الأممي حول دور المحامي.
إننا في العالم العربي في أمس الحاجة إلى التكريس الدستوري لمهنة المحاماة، لأنه لا عدالة بدون هذه المهنة النبيلة، وإذا كانت مسألة إرجاع الأمور لنصابها في المغرب مسألة وقت فقط لوجود مشروع مجتمعي حداثي موضوع إجماع مختلف القوى الحية للأمة المغربية، ولتشكل وعي عميق في جسم المحاماة المغربي بوجوب التحرك لإعادة الإعتبار للمهنة مع وجود بعض الهامش الذي نعده أرضية لتراكم المكتبات، فإن الوضع في بعض دول المنطقة لا يبشر بمستقبل مشرق لمهنة العظماء، كما هو الحال في الدول التي عاشت الاضطرابات السياسية أو يحكمها العسكر، أو ينخرها الفساد، أو خضعت لسيطرة الإرهاب العالمي (ألغت داعش مهنة المحاماة في مناطق سيطرتها)، لذلك يجب القطع مع كل استهداف للعدل والحق والقانون من خلال استهداف مهنة المحاماة.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة