هشام استيتو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
لم يخطر على بال الوزير الأول ووزير خارجية المغرب لعدَّة مرات المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، وهو يخط بيمينه مذكراته الموسومة بـ “المغرب والعالم العربي”، أن تصل في يوم علاقات المغرب والجزائر إلى مستوى تفنُّن الجارة الشرقية في قطع ما تبقى من شعرة معاوية.
عندما تحدث الرجل، عن تجربة المغرب في بناء السدود والسياسة الفلاحية، ربَّما كان يعتقد أن الأجيال اللاحقة ستجيد قراءته، وتتلقف تجربته السياسية الناجحة وتستفيد منها شعوب المنطقة، مثل هذه التجارب جرت العادة على توثيقها من خلال كتابة رجال السياسة لمذكراتهم بشكل يمكن معه تصنيفها ضمن جنس أدبي يمكن تسميته بـ “سُنَنِ الحُكم”، ويجتهد كل بالإدلاء بدلوه بما أوتي من تبصر، وحكمة وبلاغة.
تماما، كما استفدنا في المغرب من الدرس الجزائري في العشرية السوداء التي عاشتها بلاد الأمير عبد القادر، ومالك بن نبي، وواسني الأعرج والشاب خالد، الذي يعد مواطنا مغربيا لا يمكنك التشكيك في مغربيته إذا استظهر وثائق هويته المغربية لأنه يحمل معه السِّمت المغربي الذي هو نفسه السِّمت الجزائري بمختلف تفاصيله الحياتية من مأكل ومشرب وملبس ولغات ولهجات.
لكن الحدود التي صنعها التاريخ بعفوية سيرورته، والاستعمار بغاياته وحساباته تحولت إلى أسوار وخنادق، بسبب مجانية المواقف وهزالة الحساب السياسي (للأصدقاء) في المرادية، دافعهم التعصب لخط بومدين الذي عاصره المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، وأشار في مؤلفه إلى مواقف جمعته بالمغرب.
هذا الخط الذي تفاخر به الراحل بوتفليقة، وبشكل علني في أكثر من خطاب هو الذي أنتج الجزائر الحديثة التي راهنت بداية على سياسة التصنيع وفق نموذج مستورد من المعسكر الشرقي، وورطت نفسها في قضايا إقليمية لم تستعمل فيها الحساب السياسي الدقيق، كما ورطت شعبها في أتون الفوضى التي نالت من حياة العديد من مواطنيها وقطعت أوصال المجتمع الجزائري بشكل فضح عدم تجانس المكونات المناطقية لهذا المجتمع، في غياب جامع فوقي يدين له الجميع بالاعتراف بالرمزية المتماهية مع كيان الدولة، بما في ذلك غياب الإيمان بالوطن ولو في شكله البسيط، والدليل هو الفضاعات المرتكبة في العشرية السوداء، السيئة الذكر، ونمو الحركات الموالية لأعتى المنظمات الإرهابية في العالم، وما زاد الأمر فداحة هو شساعة الإقليم الجزائري، وعدم تعافى الدولة هناك من داء فقدانها السيطرة عليه، واستشراء الفساد في مختلف دواليب الأجهزة.
هذا التشخيص، يجعل وضع الجزائر أفدح من وضعية الأوربيين بعد أن وضعت الحرب أوزارها سنة 1945، إذ لا وجود لمخطط مرشال في هذه الحقبة الزمنية، ولا وجود لساسة في الجزائر يمكن أن يُحَكِّمُوا العقل، ولا تكوين سياسي لهم، لأن الأخير مدنيٌّ بطبيعته، والحال أن الجميع يعلم أن المتحكم في كل شيء في الجزائر هم العسكر، وبالتالي فإن منطق المغامرة هو السائد هناك، لأن الجنراليون، وعلى رأي سعدي يوسف لا يجيدون قراءة أديم الأرض، فما نتأ بالنسبة لهم حِصْنٌ، وما انبسط يعدونه ساحة.
لذلك المأزق الجزائري يعد نتيجة سياسة خاطئة، مستمرة منذ الاستقلال، وقد صودرت إرادة الشعب الجزائري لتصحيحها في أكثر من مناسبة، في الحراك الأخير، وفي عهد الشاذلي بن جديد، الذي دشن في عهده بوادر مصالحة مع المغرب بوساطة سعودية، وحضر المؤتمر التأسيسي لاتحاد المغرب العربي، الذي يفترض أنه تكتل إقليمي جاء بعد انهيار جدار برلين، وفي وقت كان يتشكل فيه عالم جديد، وظهرت تقليعة التكتلات الإقليمية، لدرجة جعلها البعض مدخلا لعالم متعدد الأقطاب، وهو الإتحاد المخيب لآمال شعوب المنطقة، ولم يحمل من لُحْمَةِ الوحدة إلا الاسم.
في هذا السياق، وعودة من باب المقارنة إلى أوروبا المدمرة بعد الحرب وإسقاط وضعها على الجزائر المدمرة بعد سنوات من الطيش السياسي، تُمكن المقارنة، لأن العبرة ليست بدمار البنيان، بقدر ما هي بدمار الإنسان.
ويمكن أن أجزم أن قيام الأوطان واستقرارها داخليا، وتفاعلها الايجابي خارجيا، يستند إلى البعد الوظيفي على المستويين معا، وهو البعد الذي جعل الإنسان الأوربي يعيش بالمستوى اللائق اليوم والذي ماهو إلا نتاج للتعاون القطاعي بين بضعة دول في مجال الحديد والصلب والذي تطور إلى اتحاد مذهل، أعاد النظر بعمق في مفهوم الدولة والفاعل الدولي، وكانت الطريق طويلة لم يُعر فيها السياسي الأوربي اهتماما كبيرا للسِّياسة، وهو ما لم يستطع الإخوة في الجزائر خصوصا استحضاره، بل دفعوا بأنفسهم وشعبهم إلى زاوية التيه الجغرافي، من خلال التَّمسك بتراث سياسي تبت جليا عدم نجاعته.
وبالعودة إلى ما بدأنا به من تلميحات وظيفية مستمدة من كتاب المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، وربطها بما نعيشه الآن على مستوى العلاقة مع الجزائر، نتأكد أن هذا البُعْدَ غائبٌ مطلقًا من حسابات الجيران في الشرق، فالمغرب وإن مَدَّ يد التعاون الوظيفي البناء في أكثر من مناسبة، عبر عروض بفتح الحدود، أو بشكل غير مباشر عبر تنمية بنيته التحتية، فإنه لم يواجه إلا بجواب سياسي يمكن تصنيفه في إطار مدرسة عبثية لم تكتمل ملامحها بعد، لأنها غير مسبوقة، وآخر تمظهراتها ما جادت به قريحة الإخوة في الجزائر من قطع إمدادات الغاز عن إسبانيا بنية معلنة للإضرار بالمغرب، وهنا يحضرني موقف مشابه حصل خلال السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، بجامع أن المتحكم في المناسبتين هو التراث السياسي القيصري في حالة روسيا، والعسكري في حالة الجزائر.
إن عالم اليوم ؛ يتجه إلى التكتلات ومن يغرد خارج السرب لن يسمع صوته، وبالتالي فإن وعي السياسة الخارجية المغربية بهذا المعطى هو المتحكم في مواقفه، تماما كما يتحكم التراث السياسي الجزائري في مواقفها الخارجية وتدبيرها الداخلي، الأمر الذي يجعل من المستحيل تحقيق أي تكامل أو تعاون بين البلدين، ليبقى الرهان على تغيير عقلية من يحكم الجزائر، ومع الأسف يبقى خاضع لإرث متعصب ضد المغرب بمجانية منقطعة النظير.
وما تدخل الرئيس تبون في مسألة الغاز، إلا دليل على الارتباك النمطي في دواليب السلطة هناك، وعلى العكس، المغرب وإن كانت مسألة الطاقة تحضى برعاية واهتمام من أعلى هرم الدولة، فإنها تُصَرَّفُ وفقا لقرارات علمية ، بعيدًا تماما عن أي خلفية سياسية متعصبة، بل تخضع لمنطق المصلحة الواقعي، ومبدأ التعاون الوظيفي.
من هنا يمكن لي أن أجزم أن الجزائر ستعيش على أفكار بومدين إلى حين تحقيق سلطة مدنية. نعم، على وقع خطى بومدين ، رغم تعدد الأدبيات السياسية المغربية التي كشفت عن قصور التجربة الجزائرية، سندها في ذلك المخالطة والمجاورة وشدة الإطلاع على الأحوال، لكن لا حياة لمن تنادي.. !!!
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة