د. عزيز القاديلي
حينما أعود بذاكرتي إلى الوراء بحثا عن بدايات ارتباطي بالكتاب و المكتبات أجد أن هذه البداية مرتبطة بعدة أحداث حصلت في حياتي. ففي السنة التي فقدت فيها والدتي عرفت حدثين مهمين: الحدث الأول بداية ارتباطي بابن خالتي الكفيف عبد الرزاق. أما الحدث الثاني فهو انبهاري بزميل في القسم اسمه إدريس يمتلك قدرة عجيبة على الحديث بلغة عربية فصيحة و أفكار واسعة و مثيرة، ما أبهرني فيه امتلاكه لفصاحة لغوية ينافس فيه فصاحة الأستاذ. كان كلما عُرضَ موضوع للنقاش لا يأخذ الكلمة إلا متأخرا، و إذا أخذها يشدنا إليه بطريقة كلامه و أسلوب تعبيره، فكان هذا الحدث يرجني و يوقظني من سباتي.
أصبح إدريس النقطة المضيئة في القسم، و جميع الأساتذة بكنون له الاحترام، بل صارت أستاذة اللغة العربية تهابه لقدرته على التحليل و النقد. لم يكن يستسيغ أفكار الأستاذة و شروحاتها. كنا حينما نقرأ قصيدة شعرية من قصائد الشعر الجاهلي أو الأموي أو العباسي و نطالب بشرحها، كان يستمع إلى كلامنا نحن التلاميذ باستهجان و لم يكن الشرح الذي تقدمه الأستاذة بمنأى عن استهجانه و نقده اللاذع.
و حينما كان أحد الأساتذة يقدم بين الفينة و الأخرى بعض المحاضرات في الثانوية، كان المحاضر يضع ألف حساب لإدريس خشية أن يوجه إليه سهام النقد، و قد يسفه كل الأفكار التي يعرضها.
أول مرة في حياتي، و أنا في سن السادسة عشرة، أسمع اسم المفكر المغربي عبد الله العروي، كان إدريس حينما يدخل في جدال مع الأساتذة يستشهد به. دائما أرى إدريس خلال فترة الاستراحة إلى جانب أستاذ الفلسفة يتحاوران مثل صديقين أو قامتين فكريتين متساويتين. من خلال هذا الاحتكاك بدأ شيء ما يتحرك بداخلي، و بدأت الرغبة في القراءة تتملكني. حدث أن أصبحت أجلس بجواره و تجرأت يوما و طرحت عليه السؤال: كيف أصبحت لديك هذه القدرة على التفكير و الكلام؟ و كان جوابه بكل بساطة: القراءة ثم القراءة.
تشكلت لدى إدريس كاريزما بين التلاميذ و أيضا بين صفوف الأساتذة، لكن ما حصل أيضا هو أين من بين الأساتذة مَن كان يقدر الجرأة التي يتمتع بها هذا التلميذ في تلك المرحلة من التعليم الثانوي، في حين كان آخرون لا يتقبلونها و يعتبرونها وقاحة، هؤلاء الأساتذة الذين لم يتقبلوا جرأة و شجاعة إدريس بدأوا يصطدمون معه من أجل رسم حدود لأفكاره و كيفية تعامله معهم حتى لا يتطاول عليهم، و تطور الأمر إلى درجة أنهم قاموا باستدعاء والده و هددوه بأن يتم تقديمه إلى المجلس التأديبي لأنه في نظرهم لا يحترم السيدات و السادة الأساتذة. على الرغم من هذه المواقف التي وضع فيها إدريس لم يتراجع دفاعا عن أفكاره و مواقفه، و كان يلجأ إلى الفئة الأخرى من الأساتذة التي كانت تكن له كل الاحترام و التقدير، إذ كانت ترى فيه مشروع كاتب أو مفكر، خصوصا و أن المادة التي كان يتفوق فيها على الجميع هي مادة التعبير و الإنشاء، و أيضا حينما يطلب منا أستاذ الفلسفة إنجاز عرض حول موضوع فلسفي ما.
في السنوات الموالية لم نعد ندرس في نفس القسم، و مع ذلك كنت أتتبع أخباره أو كانت أخباره تصلني من بعض الزملاء.
كانت الكاريزما التي يتمتع بها إدريس تجعلني كلما رأيته أزداد حماسا و رغبة في القراءة، و بالفعل تحسن مستواي الدراسي خصوصا في مادتي اللغة العربية و الفلسفية.
أما إدريس فقد بدأت تبدو على شخصيته بعض التصرفات العدوانية و صار عصبيا أكثر من اللازم. من بين الأخبار التي كانت تصلني أنه لم يعد على انسجام مع أساتذته، إذ صاروا يعتبرون تدخلاته و كتاباته خارج الموضوع المطلوب، لقد نفد صبرهم خصوصا أن بعض الأساتذة الذين كانوا يساندونه قد غيروا المؤسسة، فأصبح يواجه بمفرده الفئة الأخرى الغاضبة منه.
سينال إدريس البكالوريا بمشقة و سيتابع دراساته الجامعية. بيد أن المؤسف من كل هذا هو أن المسار الدراسي الجامعي لإدريس سيتوقف بسبب النزاع الذي أخذ ينشب بينه و بين أساتذته في الجامعة، و كان رد فعل إدريس أن أخذ يتعاطى التدخين بكل أنواعه فأثّر ذلك على شخصيته و على مساره الدراسي مما جعله في الأخير يترك الجامعة، و غابت عنّي أخبارُه بعد ذلك.
في آخر لقاء لي مع إدريس، التقيت به و أنا مارّ بالقرب من المنزل الذي يسكنه، أشق الطريق راجلا نحو حي الأحباس قصد الإطلاع على ما استجد من الكتب بالمكتبات الموجودة هناك.
وقفت أسأله عن أحواله، حاول في البداية أن يتجنبي إذ لم يكن راغبا في الكلام و تظاهر أنه مستعجل لقضاء أمر ما، لكن حينما سألته عن الدراسة و مشاريع القراءة و الكتابة، أجابني بعصبية بادية: ماذا تنتظر من ثقافة متخلفة، يستحيل أن تنتج شيئا آخر غير العوائق كي تظل الأمور على حالها. يئست من التفكير في إمكانية إصلاح هذا الوضع، سأهاجر إلى إيطاليا قصد العمل.
ودعني و هو يشد على يدي بحرارة، كنت أريد أن أقول له بأنني ممتن لكوني تعرّفته ، و أن هذا التعرف كان له أثر بالغ على مساري المعرفي و الدراسي. لكنني اكتفيت بأن قلت ذلك في نفسي، و أنا أشد على يده بنفس القوة و الحماس متمنيا له مستقبلا أفضل.
النص خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة