د. عزيز القاديلي
كاتب من المغرب
لم يكن الساحل الشاطئي لمدينة الدار البيضاء المسمى عين الذياب بالمكان العادي. بالنسبة لساكنة هذه المدينة يحتل عين الذياب مكانة خاصةـ، بل أسطورية و متخيلة أكثر منها واقعية. بدءا بالاسم إذ جميع البيضاويين يطلقون عليه اسم “لاكوط”. الكل يحلم بالذهاب مساء يوم السبت أو يوم الأحد إلى “لاكوط”. أما الذين يرغبون في قضاء يومهم في البحر فإنهم يسمون هذا المكان ببلاج عين الذياب أو سيدي عبد الرحمان أو بلاج بيبسي. لكل واحد تمثل ما حول هذا المكان من خلال ما يريد منه. من يعتمد فقط على المواصلات يتحمل مشاق الاكتظاظ كي تطأ قدمه هذا المكان السحري. هو مكان سحري سواء كان ذلك صباحا أو مساء. تقود كل واحد من الساكنة فكرة صنعها من وحي الخيال أو من خلال ما يسمع.
يتهافت البيضاويون على هذا المكان فرادى و جماعات، يرتادون المقاهي و المطاعم و المسابح و أيضا حديقة الألعاب ثم البحر العريض.
تعرفت على هذا المكان منذ نعومة أظافري رفقة الوالدي و إخوتي، المشهد القديم و العالق في الذاكرة أو ما تبقى منه في الذاكرة منظر ليلي و نحن نتلذذ بتذوق المثلجات، و ريح باردة صيفية بحرية تصفع بلطف وجوهنا و تتطاير بسببها ملابسنا الصيفية. منظر جميل مطل على الشاطئ، و المرتادون للمكان قلة قليلة أغلبهم أجانب يتحدثون لغة فرنسية هادئة و جميلة.
منذ ذلك التاريخ البعيد ستتغير صورة هذا المكان في مخيلتي كلما تقدم بي العمر، أثناء الصغر كنت لا أرتاد عين الذياب إلا قليلا رفقة الوالدين و خصوصا مساء يوم السبت. بعدها كنت أسمع حكايات بعضها واقعي و آخر متخيل أو محبوك. سهرات، ليال، مغنون، راقصات، سكارى، و اعتقالات.. قصص جميلة حول ليالي عين الذياب، عشاق و عاشقات يتدثرون بليل المكان من أجل سرقة ملذات الحياة هربا من ضغوطات شتى.
بالنسبة لي صار هذا المكان سنة بعد أخرى فضاء للهروب من الأزقة و الأحياء التي كنت أسكنها أو تحيط بالأحياء التي أسكنها. كنت أعشق السير راجلا نحو هذا المكان، كان المشي متعة لا تقارن. كنت قادرا على تحمل مشاق المسافة الطولة من عين الشق مكان السكن إلى ساحل عين الذياب المكان المقصود، و هناك لا بد من القيام بالمسارات الاعتيادية و هي المشي من بداية الساحل و الوصول مشيا إلى جهة سيدي عبد الرحمان و ما بعده، مسار طويل لكن الخيال يذوب التعب و المشاق. كنت أستهلك قواي كلها في المشي و بعدها أجلس على رمال الشاطئ الدافئة متمتعا برؤية أمواج البحر المتلونة و هي تتكسر بالقرب من قدماي الحافيتان.
بعد أن افتتحت مكتبة آل سعود أبوابها في بداية ثمانينيات القرن الماضي أصبح ارتيادي لساحل عين الذياب طعم آخر، أخرج صباحا من المنزل و حسب المزاج قد آخذ الحافلة أو قد يوصلني زوج خالتي الذي كان يشتغل بأحد المطاعم الفاخرة في عين الذياب. و في غالب الأحيان كنت أترجل ماشيا منشغلا باجترار تأملات عن كتاب أو أفكار في طور الصياغة، أو مشروع قصة أتتبع نسيجها، لكن المؤسف ما إن أجلس لاستعادتها من أجل القبض على الأحداث و تدوينها حتى يمحي الكل و لا يتبقى سوى بضع أحداث أو جمل لا تسمن و تغني من جوع الكتابة.
أقضي اليوم بأكمله في مكتبة آل سعود، أنهل من معارف الكتب التي ليس بمقدوري المادي التوفر عليها و خصوصا المجلات و الدوريات سواء المحلية أو الأجنبية. أغطس في حفل القراءة و لا أستعيد وعيي بالمكان إلا حينما يستبد بي الجوع إلى الطعام، فأتأبط نفسي و أخرج من المكتبة بحثا عن ما أسد به رمقي. و هنا كنت أستغل بعض الوقت لأترجل بالقرب من المسابح و المقاهي و المطاعم المصطفة على جنبات الشريط الساحلي. لم أكن أطيل فترة تناول الغذاء لأنني كنت مشدودا إلى الكتاب الذي لم أتمم بعد الفصول التي تهمني، كنت في هذه الفترة منشغلا بتهييئ بحث نهاية السنة الدراسية الجامعية للحصول على الإجازة، و كنت أنهل من أمهات الكتب الحديثة في ذلك عهد. كنت أنغمس في القراءة إلى أن أسمع النقر على الطاولات من طرف مسؤولي المكتبة إيذانا بالانصراف، فكنت أتوقف على مضض متأسفا لأنني لم أتمم الفصل الذي يهمني، فكنت أضرب للمكان موعدا آخر من أجل تتمة الكتاب. فأخرج و أنا لا ألوي على شيء، يصفعني برد مسائي ينشر رعشة في الجسم تتبدد رويدا رويدا و أنا أخطو مساء بعيدا عن المكتبة بحثا عن وسيلة تقلني إلى المنزل. أمتطي حافلة ممتلئة عن آخرها، لم أكن مهتما بما يجري حولي، فقط أجتر أفكار ما كنت بصدد قراءته. بعدها استعيد وعيي بالمكان و بذاتي و بالآخرين.
كنت أعيش مفارقة واضحة بين عالمين: العيش داخل مساحة الذات الداخلية و العيش خارج هذه المساحة. حينما أنشغل بالقراءة و المشي كنت أفسح المجال لي كي أوسع من الرقعة الداخلية التي أسكنها بكل هدوء و طمأنينة، غالبا ما كنت أهرب من الآخرين ما عدا الأصدقاء المقربين، كان الجلوس إلى الذات أهم بالنسبة لي من أي شيء آخر. كنت في حوار مستمر مع عوالم تسكنني، أتصارع معها و تصارعني، تغلبني تارة و أغلبها مرات عديدة. كنت أحول الخارج إلى داخل تلك مهنتي و عاداتي، و فيما بعد فهمت بأنني كائن انطوائي يحب العزلة و التأمل،
لكن ما خسرته كثيرا هو أنني لم أوثق تأملاتي و كل ما كان يمور في الداخل، ربما لليقين الذي كان يسكنني أن ما أفكر فيه لا يهم إلا نفسي و هو سر يخصني و ليس من المهم أن يطلع عليه غيري. هذا لا يعني أنني لم أكن أكتب البتتة، على العكس، كان لدي ملف أوراقه مبعثره عبارة عن تدوينات و سرديات و أفكار خاصة و ذاتية حول مواقف من هذا العالم الغريب الذي أسكنه و لا أحتمله، فأرتد إلى أوراقي و تدويناتي. ذات يوم و قد انزعجت مما كنت أكتبه أو أنني لم أكن راضيا على القيمة الأدبية لما كنت أدونه فحصل ما ندمت عليه فيما بعد. حملت أوراقي إلى أقرب مزبلة في الحي، أوقدت النار في الأوراق التي بدأت تتلوى الواحدة بعد الأخرى، كنت أرى الكتابة تمحي، و العبارات تندثر و تتحول إلى رماد، في تلك اللحظة لم أكن أشعر بأية أحاسيس اتجاه ما كنت أقوم به، كان الأمر عاديا و مع ذلك كنت حريصا على أن تتحول الأوراق كلها إلى رماد حتى لا يتمكن أي مخلوق من قراءتها أو معرفة أسرارها. الآن و أنا أتذكر هذا الحدث أشعر بندم شديد لأنني اقترفت جريمة ضد نفسي، أفقدتني بعضا مني، على الأقل كنت بين الفينة و الأخرى أرجع إلى هذه الكتابات لكي أقيس مدى نموي أو تطوري أو تقهقري. حينما كنت أشمئز مما أكتب كنت أعي أن تطورا ما قد حصل في طريقة الكتابة وأسلوبها، وأيضا في نوعية الأفكار. أما حينما أعجب بما كتبه فكنت على وعي بأن مستواي في الكتابة قد تراجع و علي تدارك ذلك.
كان الذهاب إلى مكتبة آل سعود عرسا بالنسبة لي، فسحة و نزهة لا مثيل لهما. هناك لا نلتقي بالكتب فقط، بل بحلقة القراء المتنورين، يساند بعضنا البعض. قراء أصدقاء يحملون نفس الهم و الاهتمام على الرغم من اختلافنا في الأفكار و الرؤية و التصور. كان اللقاء حفلا، بعد أن نتعب في تتبع الكتب و تقليب الصفحات و الانكباب على فك طلاسم المصطلحات و المفاهيم، بعد أن ننتهي من ملامسة الكتب الثمينة بأيادينا متلذذين بالانغماس في عوالم الفكر و التصور و المنهج و المفهوم، بعد كل هذا الكد و التعب المحبوب الذي يرتعش له الدماغ و القلب، بعد كل هذا نتحلق خارج قاعات المطالعة حول بعضنا البعض لكي نتداول في أخبار الفكر و المعرفة بكل تلقائية و عفوية، و بكل المرح و الصدق الذي يسكننا. يصعب علي ذكر أسماء جميع الأصدقاء لكن سأذكر أهمهم و أكثرهم تأثيرا في مساري المعرفي الخاص. لا أستطيع أن أنسى لقاءاتي مع أصدقاء من مثل رشيد الإدريسي، محمد غنايم، إسماعيل شكري، خالد المظفر، المهدي مفتاح، عاطف مبارك، مصطفى الدقاري، سعيد بوكرامي، مصطفي لغتيري.. و آخرين. كان اللقاء مع هذه الكوكبة يرفع مقامنا كقراء نعتز كثيرا بصداقتنا التي ولدها الهم و النهم المعرفي المشترك. على الرغم من الاختلاف في الأفكار لم يكن ذلك ليضايقنا.
على الرغم من قلة مواردي المادية كنت أتكبد مصاريف استنساخ المقالات و الفصول المهمة من بعض الكتب و الدوريات غير المتوفرة في المكتبات، لم تكن إدارة المكتبة تهتم لأوضاعنا المادية فقررت لأسباب غير معروفة الرفع في ثمن الاستنساخ، و على الرغم من ذلك لم يقلل ذلك من عزيمتي في استنساخ المقالات من الدوريات الأجنبية أو المحلية.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة