د ماجد السامرائي
ليست غريبة حالة التوتر والغضب والعدوانية التي ترافق الخطاب السياسي والإعلامي للقوى الشيعية الموالية لإيران في العراق بعد النتيجة المفجعة لها في الانتخابات الأخيرة. بل أن هذه الحالة المَرَضية، الأكثر قرباً للعشائرية الطائفية المتخلفة منها إلى العمل السياسي، مفيدة لكشف مخزونات الرؤى والمشاريع. يقال في علم التحقيقات “عليك إغضاب المشتبه به لكي تخرج من فمه الحقيقة”.
ردود الفعل السياسية والإعلامية لقادة الفشل والهزيمة السياسية بعد انتخابات العاشر من أكتوبر الماضي، رغم هزالها، تؤكد عدم الخجل والتردّد من التمسك العلني والاعتزاز المّزيّف بالهوية الطائفية الشيعية على حساب هوية العراق، مع أن أبناء الطائفة الشيعية حرموا خلال السنوات الثمانية عشر الماضية من أبسط مقومات الحياة، فردّوا عملياً على منهج المحاصصة والفساد بثورة شبابهم في أكتوبر 2019.
بعض القادة لم يترددوا في إعلان تبريرات طائفية غير مقنعة لهزيمتهم كاشفين عن استهزاء بعقول الناس، واعتقاد ساذج بأنهم وصلوا إلى مرحلة الاستحكام التام بالعقل الجمعي الشعبوي الشيعي في أمثلة كثيرة، منها تصريحات بعض قادتهم بوجود قوى منعتهم من تقديم الخدمات لأنهم من أتباع الإمام الحسين، دون ذكر اسم تلك الجهة الأسطورية التي حلّت محل قيادتهم للحكم في العراق.
في الظروف السياسية الجديدة رغم اكتشافهم لحقيقة هزيمتهم لم ولن يصلوا إلى حالة الاعتراف واختيار القرار السليم الذي قد يبقي لهم بعض ما يمتلكونه من أنصار وتابعين ومكاسب أفرزتها الحالة الانتخابية. رغم أن بعض قادتهم اعترفوا أمام الرأي العام العراقي، في ظروف ومناسبات اختاروها، بفشلهم وأنهم لا يستحقون قيادة الحكم. لكن الظرف اليوم مختلف، هناك قوى سياسية جاهزة لإدارة الحكم وفق معطيات فرضتها مرحلة العراق الجديدة، الداخلية والخارجية، بمعايير أولية وطنية استقلالية.
◙ شيء معيب وفاضح أن تقبل القيادات الشيعية التدخل الإيراني السافر في شأن داخلي عراقي خاص يتعلق بتشكيل الحكومة الجديدة، كما في تكثيف زيارات إسماعيل قاآني إلى بغداد
لو استعرنا بعيداً عن تقاليد الديمقراطية مفاهيم اجتماعية أصيلة موروثة تقول من صفات الرجولة، بمعنى مجازي وليس ذكوري، أن الاعتراف بالخطأ شجاعة، أما الغرور والمكابرة فهي صفات الضعفاء والجبناء، حتى وإن كانت البندقية على أكتافهم.
لم يكشف المهزومون للرأي العام العراقي حقائق انشغال غالبيتهم عن الشأن الشعبي بسرقة ونهب ثروات العراق وعقد صفقات تهريب الأموال وتخريب الاقتصاد. ولجأ البعض الآخر في إدارة وتنفيذ مشروع الثأر والكراهية إلى تصفية وتهجير الكفاءات العراقية المدنية والعسكرية، والتهميش الطائفي وإنجاز المراحل النهائية لبرنامج التغيير الديموغرافي، خصوصاً بعد حرب داعش (2014 – 2017)، ووصل بهم الأمر إلى درجة لم تشهدها عهود النازية الهتلرية ولا الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
مرحلة قاسية عاشها شعب العراق جراء ما ارتكبه مجرمو القتل والتدمير من فظائع مستخدمين الميليشيات المسلحة التي تسابقت في ما بينها على تسجيل أعلى الأرقام في ذبح الناس الأبرياء على الهوية خصوصاً خلال عامي 2006 و2007، بصورة مرعبة. ونُفّذ مسلسل إلغاء الآخر وإقصائه وإخلاء الساحتين السياسية والأمنية من المناوئين للمشروع الطائفي. ولم تعط فرص المواطنة، حتى لغالبية المعارضين الذين ثاروا على نظام صدام حسين، لنيل حقوقهم المدنية أو للدخول في ميدان الخدمة العامة إن لم يعبروا امتحان الفرمان الإيراني. بينما هناك كُثُر اجتازوا اختبار الانتهازية والعمالة والنفاق.
هذه القوى الولائية لا تستطيع العيش في مناخ الاستقرار والسلم الأهلي لأن مشروعها يموت. لهذا اخترعت الأسباب لإبقاء السلاح سيد المواقف السياسية في البلاد، رغم انتهاء حرب داعش التي كانت مصممة بتدبير جهات إيرانية وأميركية صاحبة نفوذ.
الاستقرار يفتح الأضواء على دوائر الفساد وأمرائه، ويُمهّد الطريق أمام قيام دولة المؤسسات بتقاليدها المعروفة.
لهذا أيضا كان التشبث والاستنجاد بالطائفة الشيعية وغالبيتها العددية، التي لها مكان آخر في صحة أو عدم صحة حساباتها في المجال الديموغرافي وليس في الاستئثار بالسلطة. إلا أن الاستغاثة بالكتلة الشيعية تبقى صوتا متلعثما لا صدى له في وديان العراق وسهوله وتلاله، حيث قَحُلتْ أرضه وجفّت أنهاره، وانحنى صبراً نخيله، وتحولت مصانعه إلى أنقاض وخردة هرّبت إلى بلاد الولي الفقيه.
الهزيمة الانتخابية كانت أولى عتبات الهزيمة السياسية والاجتماعية لكارهي العراق. باب الانتخابات الذي فتحه لهم الأميركيون واعتمدوه وتمسكوا به بوصاياهم ودعمهم السياسي والإعلامي خمسة عشر عاماً هو ذاته الذي أغلق بعض فرصهم في الهيمنة على مصير البلد والانفراد بإدارته، ووفرها لفصيل شيعي آخر يحاول أن يقدم نفسه للشعب بخطاب يغلق بعض منافذ جهنم الطائفية ويفتح منافذ أكثر عقلانية واستقراراً في ذات العملية السياسية التي دمّرت البلد.
سلوك القوى الولائية بعد خسارتها أكّد حقيقتها التي يعرفها شعب العراق، إنها مجموعات لا علاقة لها بالسياسة وبأحكام الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. تلك خرافة استخدموها للوصول إلى ما وصلوا إليه من هيمنة على الحكم باسم الطائفة الشيعية التي أعلنت أنها براء منهم، عملياً، وذلك بالثورة التي فتحت باباً للوعي العراقي الجديد.
ليس غريباً وصول ردود فعل تلك القوى الولائية إلى درجات التهديد بتخريب السلم الأهلي رغم هشاشته. ولا غرابة في إحالة أسباب هزيمتهم إلى قيادات المكوّن السنّي الفائزة واتهامها بتخريب البيت الشيعي، المخرّب من داخله بسبب المصالح النفعية، رغم التحالفات العميقة معهم. ألهذه الدرجة وصل تأثير قيادات المكون السني لتتمكّن من شق صفوف البيت الشيعي! علما بأن أغلبية القيادات السنية الفائزة، أو الخاسرة، وفيّة لولائها للقيادات الشيعية ومرجعيتها السياسية الإيرانية.
الخطوة الأولى في نجاح تحالف الغالبية الوطنية (أكراد، شيعة، سنة) بقيادة الصدر تمكنت من إيصال محمد الحلبوسي إلى رئاسة البرلمان للمرة الثانية، ولم يحصل ذلك بفرمان إيراني. معنى ذلك أن تليها خطوات تعيين الرئاستين، الجمهورية والوزارة، بذات السياق، مما يشكل علامة نجاح أولية لمراكز القوى الجديدة داخل البرلمان الجديد وهزيمة للقوى الولائية.
◙ ردود الفعل السياسية والإعلامية لقادة الفشل والهزيمة السياسية بعد الانتخابات، رغم هزالها، تؤكد عدم الخجل والتردّد من التمسك العلني والاعتزاز المّزيّف بالهوية الطائفية الشيعية
رغم انشغال طهران بهمها الأول (مفاوضات النووي) إلا أن بقاء العراق مستقراً تحت دائرة النفوذ الإيراني مسألة ليست ثانوية في سياسة الولي الفقيه علي خامنئي. شكليات التعاطي مع الوضع الانتخابي العراقي الحالي تفصيل ليس بالضرورة أن يغرق فيه الولاة، كان هناك قائد ميداني اسمه قاسم سليماني ترك فراغاً لن تتكرر مكانته في دائرة صنع القرار الأول في طهران.
شيء معيب وفاضح أن تقبل القيادات الشيعية التدخل الإيراني السافر في شأن داخلي عراقي خاص يتعلق بتشكيل الحكومة الجديدة، كما في تكثيف زيارات إسماعيل قاآني إلى بغداد في اللحظات الحرجة لقيام الحكومة، رغم المعلومات المسرّبة عن انتقال الملف العراقي إلى المخابرات، بسبب الإرباك والفشل في تجميع الأطراف الشيعية، لكن جميع المسؤولين الإيرانيين هم موظفون لدى الإمام يكلّف منهم من يشاء وقت ما يشاء.
تحاول القوى الولائية، في الشوط الأخير للمنازلة، مقايضة الصدر بقبول تشكيله للحكومة المقبلة رغم ما يضمرونه من عمليات عرقلة وتخريب سياسي، لقاء تحقيق مطالب أهمها عدم المساس بالحشد الشعبي. والمقصود هنا القوى الولائية المسلحة. كما يطالبون بتقييد قرارات وسياسات القائد العام للقوات المسلحة المقبل.
المرحلة الجديدة، إذا ما استمر الصدر متمسكاً بمواقفه الرافضة للتخندق الطائفي وتحجيم القوى الولائية، وهذا ما يأمله العراقيون، تشكل خطوة مهمة على طريق طويل لإعادة العراق المنهوب والمختطف.
هناك مسؤوليات ومهمات أمام الشعب تتطلب الالتزام بمشروع إصلاحي مُبرمج، فالناس لا يهمهم عناوين الأغلبية أو العناوين الإطارية، ما يهم هو مجيء رئيس حكومة شجاع لا يساوم على حقوق الناس، ويتمسك بطاقم وزاري مستقل وكفء، وحكومة قوية تفرض الأمن وتنهي عهد الميليشيات وسلاحها وإرعابها للناس. حكومة تضع العراق على عتبات الاستقلال والسيادة الوطنية المستقلة.
عن العرب
عذراً التعليقات مغلقة