هشام استيتـو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
“بعض الفنانين يلعبون اللعبة، مما يعني أنهم يشاركون في سيرك من نوع جديد”، هذه العبارة مقتبسة من كتاب “نظام التفاهة” لألان دونو، تصلح أن تصبح قاعدة لوصف شبكة منضبطة من السلوك الرتيب باتت تنهجه الدول في هذا الجنوب الغارق في أعراض التخلف إزاء مواطنيها والغير.
والتمثيل بالفن لا يتجاوز منطق النموذج بطبيعته، لأنّه وبشكل متفاوت الجزئيات ومن دولة إلى أخرى أصبحت لعبة الحكم والقرار مائعة بشكل واضح، فالسياسة ذاتها لعبة بسيطة لا تحتاج إلى تركيب نفسي أو الدخول في بناء معرفي، أو مراكمة التجارب والخبرات من مشارب يمكن أن تفيد في تنمية الحياة العامة، بقدر ما أصبحت تعتمد على شبكة موازية من العلاقات الخاصة والولاءات المفتقرة لأساس عقدي أو تعاقدي على الأقل.
تماما كما الفن والثقافة أصبحا لعبة إرضاء الأذواق الهامشية المعزولة بداعي الحق والخصوصية والحرية، وأصبحت الرياضة هي الأخرى مجالا للعب بالمشاعر في إغفال تام لما يمكن أن تستمد منه بريقاها الصحي والأخلاقي، وأضحى البحث العلمي فضاء لاجترار حلقة مفرغة الروح من الفائدة والإبداع، إن لم نقل عنه مجالا خاضعا للولاءات الاقتصادية والاجتماعية، ولك أن تقس على ذلك.
التمييع يتخذ أحيانا أشكالاً جديّة من خلال فرض نمط معيشي صارم على الشعوب بداعي ايديولوجيات وأفكار متطرفة
بتتبع هندسة اللعبة المائعة هذه في تمظهراتها المتعددة وبشكل سطحي واعتماداً على قدر أدنى من المخالطة والمعايشة للواقع، يتضح أنّها تستند إلى تصريف إرادة سياسية مائعة في ذاتها، ومن أجل ضمان عناصر ثبات أصحاب هذه الإرادة في السلطة.
وبالاعتماد المفرط على التمييع التام لمختلف مناح الحياة كمنهج مستقر في تدبير الشأن العام لدى الأنظمة الفاقدة للثقة في نفسها، والمؤمنة بإنعدام شرعيتها واعتمادها على الغلبة والشوكة العسكرية لضمان استمرارها، تكون قد جنت على نفسها تاريخيا وأدخلت الأجيال القادمة في زمن التخلف النهائي المطلق، ويكون التاريخ قد انتهى فعلا في هذه المنطقة من العالم.
هذا التمييع يتخذ أحيانا أشكالا جدية من خلال فرض نمط معيشي صارم على الشعوب بداعي ايديولوجيات وأفكار متطرفة، كما يحدث في كوريا الشمالية وأفغانستان، أو كما حدث في الاتحاد السوفياتي خلال الحقبة الستالينية، وفي أجزاء من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، بفعل إزاحة بنية فوقية قابلة لأكثر من قراءة، عن سويتها، والزج بها عبر قراءات غير بريئة في أتون قهر الشعوب، في وقت أثبتت تجارب تاريخية أن نفس الأفكار وظفت بشكل صحيح لضمان رخاء شعوب أخرى وتنميتها وإسهامها في الحضارة.
وفي أحيان أخرى تتخذ آلية التمييع منحى فوضوي يستعمل شعارات حقوق الانسان والحرية والحق في التعبير من أجل التأسيس لقواعد مهجنة لإدارة بلدان، يحسبها المراقب أنها واحة للديمقراطية والحال أنها صحراء قاحلة لوأد كرامة الانسان.
هذا التمييع يتخذ في مجتمعات الجنوب منحى أفقي يحكم العلاقة بين السلطة السياسية والشعوب، هذا المنحى يفرض بطبيعته الموجهة إسقاط التمييع في العلاقات الأفقية داخل المجتمع، ليصبح الفن الهابط هو الرائج بدواعي الذوق، وتصبح السياسة محكومة بالروح الفيودالية ولو صرفت على شكل دكاكين حزبية أو مؤسسات رسمية أو أهلية، وتصبح الصناعة مجالا خصبا لتكريس نمط جديد من التجارة الثلاثية بين السياسي المدافع على حساباته البنكية والمستثمر اللاهث وراء جشعه والشعب المفقر الذي يفضل كسرة الخبز على ما أوهموه من متلازمة الخراب والحرية.
والخطير هو أن النخب الحاكمة في هذا الجنوب تصبح في ذاتها رهينة للتمييع الشامل الذي زرعته، لتفرض التماهي بين خطابها وخطاب الدولة بسبب غياب تام للأخير بعامل مصادرتها عبر نفس تقنية التمييع.
وبالتالي تصبح العلاقات البينية في السياق دولي عبارة عن لعبة متهافتة يغيب فيها الفهم العلمي للأمور لصالح التراشق، بشقيه السلبي الذي قد يبدأ بالسباب وينتهي بالحروب العبثية أو الإيجابي، الذي يمكن أن يتمظهر في تعاون غير مدروس، وأقصى ما يبلغه هو الوحدة الوهمية الفاشلة كما حدث بين مصر وسوريا زمن عبر الناصر والتي ما زال منطقها يحكم المنطقة برمتها.
وإذا كانت الشعوب عندما تقهر تلجأ إلى تصريف جزء من كبتها عبر النكتة فإن النخب المنتجة للميوعة لا يمكن أن تجد طبقة للتصريف عن مكبوتاتها أقصى من النكت السمجة في صيغة قرارات ولا تستطيع أن تنتج غيرها، فقد ضعف فعلا الطالب وتهافت المطلوب.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة