هشام استيتو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
في حياة الأمم لحظات مفصلية تفرض على التاريخ التوقف عندها، ويصعب على المؤرخ المرور عليها كما تمر السحاب في كبد السماء، بل يمكن أن تتخذ هذه اللحظات بعدا مؤسسا لحقبة تاريخية فارقة.
إن معركة طروادة وميلاد المسيح وفتح القسطنطينية وانهيار جدار برلين أحداث مؤسسة لما بعدها من الوقائع وذات تأثير عميق على محيطها والعالم.
وفي تاريخنا العربي خلدت الروايات الشفوية للأشعار وبعض المنثورات أيام العرب وأمجاد ملوكهم من المناذرة والغساسنة، كما قص القرآن الكريم على الناس واقعة محاولة أبرهة هدم الكعبة، ومجد كاتبوا الأخبار فتح الأندلس، وقبلها أحداث الفتنة وغيرها من الايام.
كان التأريخ أسلوب توثيق، ووسيلة لبث المواعظ وإشاعة العبر، قبل أن يتجاوز دوره ما يؤسس للسنن الكونية، إلى علم لفهم وتحليل الماضي.
والماضي بأصنافه المتنوعة غالبا ما يخضع سواء في الفهم التاريخي أو في العقل الجمعي لعمليات قراءة تفقد عذريتها بفعل عوامل الذات الحاملة لهذه القراءة.
فإذا كنا معايشين للأحداث في زمن وسائل التواصل والتقانة فإننا نفقد حتما صفة الحياد بلحاظ علة ما تفعله هذه الوسائط، وتفقد رؤيتنا صفة القراءة لأننا نصبح جزءا من نفس الواقع، ولو بعدت عنا الأحداث بمسافات جغرافية.
لذلك فإن محاولة إجابتنا على سؤال ماذا تبقى من الربيع العربي؟ لا يمكن أن تعكس إلا المستوى الذاتي من الإيمان السياسي الذي وضع القارئ في سياق التعاطف والانخراط مع هذا الحراك، أو مكافحته و شيطنته.
لذلك فإن مثل هذه القراءة تخضع حثما للأدلجة، ويستحيل أن تنأى بنفسها عن الذاتية.
ولأن أحداث هذا الربيع همت استقرار أوضاع المجتمعات التي كانت مسرحا لها أو على الأقل أخضعتها لعوامل الخلخلة، فإن الدول كانت من بين الموجهين لهذا الحراك، وصادرت توجهات الشارع قبل أن تجهز عليه في أكثر من نموذج.
ففي العراق والبحرين تمكنت الدولة، والدول الأجنبية المتدخلة، من تحويل المطالب السياسية والإجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية إلى مجال لصراع وجودي عبر الربط بين الأنظمة والدولة والدول المتدخلة، لذلك تم تغليف ما أسس على التغير السياسي برداء طائفي وهو ما شكل صمام أمان للأنظمة القائمة للبقاء، وليبقى معها الاستبداد السياسي والفوارق الاقتصادية، بعد تجاذب سعودي خليجي إيراني في الحالة البحرينية، وتجاذب سعودي عربي إيراني والى حد ما تركي في الحالة العراقية التي اقتطعت أجزاء من إقليمه لما سمي بداعش فيما بعد.
أما في اليمن فإن الطبيعة القبلية للمجتمع اليمني حالت دون تحقيق التداولية على السلطة بعد انهيار نظام الرئيس صالح ليصبح اليمن لقمة سائغة للتدخل الأجنبي المباشر والذي حوله إلى ساحة للحرب التي تكاد تكون مباشرة بين القطب العربي الذي تتزعمه السعودية والإمارات والقطب الإيراني الممثل في ميلشيا الحوثي ذات الامتدادات الطائفية في عدة دول في المنطقة.
لقد أصبحت حرب اليمن وسيلة لضبط الإمكانيات العسكرية للمتصارعين في الشرق الأوسط وأيضا مجالا لاستعراض القوة ومختبرا لتقدم عناصر الاستراتيجية من خلال عمليات الحوثي في العمق الخليجي مما يجعل الربيع العربي قد حول هذا البلد إلى فتيل مزمن لا يحده إلا تقديرات الرياض أبو ظبي وطهران.
وفي سوريا فإن النظام السياسي كان مستعدا لإحراق كل شيء مقابل البقاء أمام مطلب شعبي بالرحيل، ليرفع شعار الممانعة ويوظف أصدقاءه في لبنان في الأحداث أمام الزج بالتطرف السني في اللعبة، والذي ولد مع الدعم الغربي للحركة الكردية غياب كلي للدولة في مناطق شاسعة من سورية أثرت على سلامة أراضي العراق كما ذكرنا سابقا، لذلك تشكلت ما عرفت بالدولة الإسلامية في العراق والشام وهي التنظيم الإرهابي الذي ارتكب فضاعات في حق مناوئيه الطائفين والحزبين والعرقيين والرسميين والأقليات والنساء والشيوخ والأطفال والمواقع الأثرية وكل البشر والشجر والحجر، في جزء مهم من المنطقة.
لقد أصبح ما نتج عن الربيع العربي في سورية نموذجا لتخويف الشعوب من المطالب بالتغير، خصوصا بعد أن شملت مظاهر الأزمة الإنسانية للسوريين مختلف بلدان العالم.
وأصبحت بالتالي الساحة السورية مجالا للحرب بين إيران والسعودية، ومجالا لاستعادة تركيا بعض الطموح العثماني، وفتحت المجال للعربدة الإسرائيلية في الأجواء السورية.
أما في لبنان فإن الحراك لم يجد مخاطبا موحدا بقدر ما وجد بلدا مقطع الأوصال بفعل التماهي بين الطائفي والسياسي المرتبط بالخارج خصوصا السعودية وايران وحتى نظام الأسد في سوريا.
الأمر في لبنان يستعصي على تحمل أي حراك دون المساس بمقومات اتفاق الطائف الذي يطبع التعايش الأهلي الهش، مما يجزئ أصلا الكائن السياسي المطالب بالتغير.
وفي مصر تعرضت الثورة لسرقة مزدوجة، عندما قدم الإخوان أنفسهم بأنهم البديل المتمتع بكفاءة إدارة البلد نظريا، بعد تنحي الرئيس مبارك دون انهيار نظامه، والذي لم يدخر جهدا عبر أداته العسكرية وفي تحالف مرحلي مع بعض المؤثرين من خارج النظام، والإعلام كذلك، من أجل التأسيس لما اعتبر ثورة جديدة على الرئيس مرسي، والذي لقي مصيرا سيئا مقارنة بمصير سلفه الأسبق مبارك، رغم أن الأخير حكم البلاد بقبضة فساد مستشاريه، وقمع شرس، مما قضى على الطموح المصري في تأسيس دولة العدل والقانون على أنقاض دولة الاتجار بالأحلام والآمال، ليثبت النظام هناك أنه الأقوى بعدما حدث في فض معتصم رابعة من استخدام مفرط وغير متوازن للقوة الغاشمة كما وصفها السيسي في ما يبدو فلتة لا شعورية فاضحة لما يدور في خلد الرجل القادم من المؤسسة العسكرية.
والحال في ليبيا اتخذ شكلا تراجيديا عندما أصبحت جماعات الثورة المتعددة مجرد أدوات لتصريف صراع القوة والمصالح بشكل جعل الشعب الليبي بعيدا عن الحسابات الأوروبية والتركية والعربية، ورغم المجهودات الإقليمية لحل الوضع الليبي خصوصا ما نتج عن لقاءات الصخيرات من اتفاقات، فإنها لم تستطع إرجاع ليبيا إلى وضعية الدولة المنتفية بالفعل والقوة منذ الانقلاب على حكم السنوسي.
أما في تونس وبعد إشارات على إرادة السياسية المجتمعية في بناء الدولة الديمقراطية الحداثة، وبعد تدافع بين تيار محافظ وأخر منفتح بشقيه البورقيبي والليبرالي المجرد، تم إقرار دستور عبر مجلس تأسيسي وتم التداول على السلطة بين رئيسين وعدة حكومات، لتفرز الإنتخابات الرئاسية الأخيرة فوز استاذ القانون الدستوري قيس سعيد، لكن سرعان ما نكص عن المسار الطبيعي لدولة القانون عبر انقلابه المدعوم إماراتيا على المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا، وهو ما أعلنه في لقاء أمني رفيع الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال عن مصير حياد المؤسسة العسكرية التي يحسب لها الحياد أثناء ثورة الياسمين وتجنيب تونس حمام دم عرفته الثورات اللاحقة في المنطقة العربية
وعلى الرغم من الخرجات الشعبوية للرئيس سعيد فإن فتيل إشعال الربيع العربي المنطلق من تونس بإشعال الشهيد البوعزيزي النار في ذاته، وهو ما خلف ارتدادات، ما زالت أثارها تؤثر على عدة دول.
أما الجزائر فإن حلم التغير ما يزال بعيدا بسبب نظام عسكري غارق في نهب خيرات الشعب الجزائري وهو ذاته النظام الذي زج بالجزائر في أتون عشرية سوداء تخلدت في العقلية الجمعية الجزائرية الملتقطة لأنفاسها حديثا، وهو ما يشكل مانعا ذاتيا يراقب الحراك ويحاول الحفاظ على مساره الاصلاحي دون التفكير في تغيره أو اسقاطه الأمر الذي أجل سريان مطالب الربيع العربي في بلد تمتد فيه الهشاشة بقدر تمدد السيطرة العسكرية لطغمة سيئة السمعة داخليا، ومختلقة لعداءات خارجية من أجل ضمان استمرارها.
وفي المغرب فإن خصوصية العلاقة بين النظام السياسي والشعب المغربي كانت عاملا مؤثرا في تحديد سقف المطالب من جهة، والقبول بالتغير في إطار توافقي ساهم في رسم معالمه بعض شباب الحراك والدولة ذاتها، الأمر الذي أفرز دستورا جديدا، وبسياقات قانونية جديدة، لكن يبقى عامل النخب الغير القادرة على مسايرة حركة التاريخ أكبر محبط لأمال الشعب المغربي، وهي نفسها الآمال التي أجاب عنها خطاب الملك في التاسع من شهر مارس/آذار 2011، وبالتالي فإن أزمة الإقلاع الاقتصادي مرتبطة بواقع وضع جانب كبير من الشعب المغربي نفسه في سياق الإبتعاد عن العمل السياسي ليترك المجال لعقلية انتهازية تتنافس وفقا لرؤيتها المصلحية على السلطة التنفيذية، ليبقى النظام السياسي في وضعية القيود الديمقراطية التي يحاول الحفاظ عليها ولو بالاجتهاد الدستوري والذي رسم له الإرادة المجتمعية كاطار لا يمكن التصرف فيه.
وفي السودان فإن الحراك المتأخر زمنيا وضع في سياقات داخلية ودولية شبيهة بما وقع في باقي التجارب المحيطة وما عزز هذا المسار هو التركيبة المناطقية للسودان، ومشاكله التقليدية المرتبطة بالمياه والمطالب الانفصالية، الأمر الذي أطلق يد البرهان في تدبير الأمر على نفس المقاس العسكري القائم في جواره العربي وهو ما يلزم للحكم عليه بعض الوقت حتى يمكن أن تتضح الرؤية، خصوصا وأن البلاد مرتبطة بخطة زمنية يمكن أن لا تحترم بسبب العوامل المذكورة.
بعد هذا الجرد يتضح أن سمات هذا الربيع بعيدة عن حمولته الشعبية وفارغة من التناقض لصالح مصادفة تماهي الدولة مع شخص الحاكم دون أي قبول شعبي وبالقوة الأمر الذي يجعلنا نحسم أن معركة التغير لا يمكن أن تحقق من خلال الشارع إلا الخراب والدمار، أمام قوة التشبث بالنضال الديمقراطي وقلة أثاره الجنابية وانحسارها.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة