هشام استيتـو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
الحمر هو الاسم الذي تواضع العرب قديما على إطلاقه على الروس، حاملا بذلك بلاغتهم في التسمية والوضع، وذلك قبل أن تخلف الذخيرة العلمية والأدبية الوسيطة ما تمكنا من خلاله رصد قدم العلاقات العربية الروسية من خلال كتابات الجغرافيين والرحالة خصوصا ابن فضلان في رسالته الى الخليفة المقتدر بالله، و المسعودي في كتابته المتعددة.
كانت بلاد الخرز حدا عصيا على التوغل العربي شمالا أثناء الفتوحات، وكانت أرض ما بعد الخرز مجهولة بطقسها وتضاريسها وعادات أهلها، إلى أن سماهم ابن فضلان بالروس على اسم إحدى القبائل الاسكندنافية، في رأي يرفضه الكثير من أهل الاختصاص بما فيهم جل الروسيين.
هذا العالم العربي الذي استقبل العديد من النازحين من وراء بحر قزويين، واستوطن فيه الكثير من الفارين من البطش السياسي سواء الروسي أو العثماني، هو نفسه الذي تفنن في وضع المسافة والتحكم فيها ازاء المجال الجغرافي الذي يطلق عليه اليوم روسيا.
كان حد السيف سابقا عن التبادل التجاري والثقافي، وكانت روسيا دار حرب بامتياز منذ حملة عبد الرحمان بن ربيعة في عهد عمر ابن الخطاب لتستمر مناوشات الكر والفر في العهود اللاحقة منذ عهد معاوية ابن أبي سفيان الى عهد هشام ابن عبد الملك، عندما تمكن “بارجليم” من استعادة السيطرة على منطقة القوقاز لتهدأ الحملات المتبادلة بعد فترة حكم هارون الرشيد.
هذه التوطئة التاريخية مهمة بقدر أهمية معرفة قدر التواصل الذي كان بين باقي الأوروبيين والعرب، لكي نقف عند حقيقة التفاعلات بين الشعوب التي تشكل عالم اليوم، اذ أن موقع عالمنا العربي يجعله في قلب العالم الذي لا يمكن أن يتجنب أثار ما يقع في أطرافه سواء في غرب أوربا أو شرقها.
هذا العالم العربي الذي استقبل العديد من النازحين من وراء بحر قزويين، واستوطن فيه الكثير من الفارين من البطش السياسي سواء الروسي أو العثماني، هو نفسه الذي تفنن في وضع المسافة والتحكم فيها ازاء المجال الجغرافي الذي يطلق عليه اليوم روسيا.
هذه المسافة كانت تتقلص وتتمدد بحسب الايديولوجيا الحاكمة في العالم العربي أو بحسب المصالح وفترات الضعف والقوة التي اعترت الروس، كانت علاقة خذلان غير مبررة عندما ترك السوفيات السلف الروسي، العراق لمصيره أمام الغرب سنة 1991، رغم الضمانات التي رافع عليها المرحوم طارق عزيز، تماما كما فعلوا مع السادات قبل ذلك عندما ماطلوه في صفقات السلاح وهم الأعلم أن المنطقة العربية كانت على موعد مع الحرب مع اسرائيل، وهم الروس أنفسهم الذين أنذروا الغرب لوقف العدوان الثلاثي على مصر، واستجابوا للنظام السوري الذي استنجد بهم على شعبه الثائر، أو ربما لحصر النفوذ الغربي في الهلال الخصيب، أو لمجابهة الارهاب الوهابي، وكل يقرأ الحدث كما يحلو له.
في الثمانينات يمكن الحديث عن مواجهة سوفياتية عربية في أفغانستان، عندما فتحت الحدود بتمويل خليجي للزج بالشباب العربي في حرب جهادية نسجت حولها الأساطير، ووظفت آلة دعاية بترودولار لتسويغ حرب قذرة أججها العرب بشبابهم وقراءتهم متخلفة للدين، قبل أن تصبح التركة السوفياتية وبالا على العرب الممولين أنفسهم، وقد مستهم نارها وربما ما يزال بعضهم يعاني من تبعاتها إلى الان.
روسيا الوريث المتفق عليه للسوفيات، مرت بفترة سكون سياسي في علاقتها مع العرب رغم بعض المحاولات التي استهدفت قراءة التجربة الشيشانية بعيون الحرب الباردة، لكن العرب أصبحوا في تلك الفترة أكثر تحررا من القيد الايديولوجي، وكان صوت المصالح البسيطة التجارية والخدماتية هو الأعلى في العلاقات البينية، ليس مع روسيا فقط بل مع عموم بلدان الاتحاد السوفياتي المنهار.
كانت العلاقات منحصرة في التعاملات الاقتصادية وفي أقصى الحدود في المجال الثقافي، وفي أعظم لحظات التقارب تمحورت حول زيارات مجاملة تخرج بتصريح مشترك حول التقارب أو التطابق في وجهات النظر بين الطرفين، لم تعرف هذه العلاقات أي تناقض في عالم الاحادية القطبية، اذ اعتقد العربي في تعامله مع روسيا بأنه يتعامل تحت سقف الإرادة الامريكية الغربية وفي المجالات الممكنة، لا مكان فيها لما هو سياسي أو عسكري.
ولأن العرب في هذه الفترة بالذات وصلوا إلى مستوى هزيل من الفعل السياسي فإنه يمكن القول أن الفكر المؤسس لهذه المرحلة كان صنيعة أمريكية بالأساس، أصابتهم بعمى الاستراتيجية لدرجة أنهم تجاهلوا القراءات المتعددة التي انتقدت “هانتنتون”، واعتقد العقل العربي الحاكم بخلاصه أن الغرب فقط من يقرر بقاءه في السلطة، إلى أن استطاع نظام الأسد إقرار قاعدة جديدة مفادها ان العالم في العشرية الثانية من هذا القرن لم يعد نفسه العالم الذي روجت فيه أمريكا والغرب لنظريات السيطرة، وأن روسيا أيضا تقرر من يحق له البقاء في السلطة.
كان بقاء نظام الأسد في السلطة رهين بإرادة دولية مناقضة للإرادة العربية والغربية بالإطاحة به، في سياق ما عرف بالربيع العربي، كانت السفن الروسية وهي تعبر البوصفور إلى الساحل السوري ايذانا بإلغاء حتمي للسيطرة الامريكية على القرار في الشرق الاوسط، وكانت العمليات الروسية ايذانا بانتهاء مأزق نظام الاسد في نفس الوقت، تماما كما أصبح الروس قادرون على التحكم في جزء كبير من الشرق المتوسطي وهوما يشكل اختراقا كبيرا لمنطقة نفوذ الغرب بامتياز.
إن الاعتماد المتبادل الغربي الروسي تم حسابه من الطرفين قبل الأزمة الحالية، ورسم كل طرف حدود ما يمكن ان يضحي به، الشيء الذي غاب عن القرار العربي الذي يفتقر أصلا لعناصر حساب المصلحة في الصراع الدائر بين الغرب وروسيا، فقط همه الأن البحث عن مصادر الغذاء بعد أن تيقن أن البحر الأسود أصبح خطرا للملاحة، وان الحقول الاوكرانية لن تستطيع تزويده بالقمح والحبوب، وأن اضطرابا واسعا في حركة الملاحة الجوية أصاب العالم، كما أن سوق النفط والغاز ستتأثر بسبب الأحداث، وهوما سيؤثر على موازنات العرب إيجابا أو سلبا للدول المستوردة للطاقة، وأن مصير الجاليات العربية في روسيا وأوكرانيا أصبح مجهولا.
لا يستطيع العقل السياسي العربي الآن أن يفكر خارج ذلك، كما لا يستطيع أن يصطف، لا على أساس المصالح، ولا على أساس المبادئ، فقط يمكن أن ينأ بنفسه عن الصراع، ممارسا أبشع أنواع التقية السياسية في العلاقات الدولية، أو أن يتبع الغرب في سياسة العقوبات وبغض النظر عن أثارها عليه، لا يمكن للقرار السياسي العربي ان يناقش الأبعاد المتعددة لتغير العالم بسبب هذه الحرب أو أن يوظف موازين القوى المستجدة في صالحه، لأنه عقل حبيس مرحلة الحرب الباردة وانهيار جدار برلين، ورهين استمداد شرعيته من الخارج، ولا يمكن أن يعصف بوجوديته في قراءة موضوعية لما يحدث أو سيحدث، فقط سيخاطب شعوب المنطقة بالصبر مبررا استنزاف القدرة الشرائية للمواطن سببها هذه الحرب.
والمثقف العربي أيضا سيهلل لهذا العقل وحكمته وبعد نظره وسيذكر عبر الأجيال القادمة أن الزعماء الضرورة استطاعوا الحفاظ على مسافة متوازنة من الصراع وربما سيطبلون كعادتهم لتقية المغلوبين على أمرهم.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة