قصة قصيرة
أيـّامي في العناية المركزة
صبحة بغورة
كاتبة جزائرية
لماذا كلما نحس بمعاناة تثير بداخلنا سريعا زوابع من رياح الشك التي تخرب اليقين وتشعل نيران الحيرة ثم نشعر بعدها بنهاية الحياة ، في حين أن أجمل وأروع هندسة في العالم أن نبني جسرا من الأمل على نهر من اليأس ، بهذا التساؤل الحائر الممزوج بقناعة مفعمة بالتفاؤل سارت صباح ذات يوم بمحاذاة إحدى البحيرات العذبة التي توسطت مساحة واسعة من غابات الصنوبر ، كان الوقت خريفا وأوراق الأشجار المتناثرة تفرش لها بساطا أصفر ممتد يدعوها دعوة ملغمة للسير لمسافة أطول لأن مع كل خطوة تخطوها تلح عليها الذاكرة مرة أخرى إلى استرجاع ما لم تشف منه حتى وان بدا أنها قد تخلصت من أثره وكأن قوة خفية تقهرها لتضعها في دائرة القلق ، تواصل السير وقلبها التائه في بحر الظلمات يعتريه تارة اليأس من أن يوما يعود ، وتارة أخرى يتسلل إليها أمل في لقاء جديد فتجيش نفسها وتتملكها رغبة بأن لا تكف حينها عن البوح الجميل فما كان بينهما آخر مرة لم يتعد حدود العتاب بمحبة، حط في طريقها غراب كبير، نعق ثم طار، تابعته وهو يحلق فوقها ويتنقل بين الأشجار، ثم ما لبثت أن تملكها القنوط من حقيقة ما كشفته لها الأيام أن حب رفيق الروح كان الشجرة التي تخفي أزمة مصلحته الشخصية ، بينما كانت تخفي حقيقة حب في أزمة.
توالت عليها الأيام متشابهة لا جديد فيها يحيها ولا رجاء في الحاضر ينعشها، أو أمل يلوح في الأفق يزيد تمسكها بالحياة، تسير دائما في نفس الطريق الذي حفظ ملامحها، أرادت أن تتنفس كلماتها ، أرادت أن تسمعها طيور الغابة أن الحب أخلاق قبل أن يكون فقط مشاعر ، لقد ترجمت نبضات قلبها بعمق أنبل الأحاسيس ، وقبل أن تسبق العبرات كلماتها انتفضت فزعة على دوي مفاجئ سقطت على إثره حمامة أمامها ، رأتها مضرجة بالدماء ورأته قادما بخطوات عسكرية قوية وثابتة رافعا بندقيته ثم تناولها بكل زهو ومضى ، لقد كانت لحظة قاتمة شعرت أنها ستفتقد كثيرا هديلها الذي ألفته كل صباح ووداعتها وهي تقترب منها لتناول ما تلقيه لها من فتات الخبز ، لقد اغتال من كانت تشارك في الغناء بألوان الحياة باتت ليلتها ونفسها مائعة تتنازعها الكوابيس بين هديل الحمامة الذي يخفت ويتراجع أمام نعيق الغراب المزعج الذي يتصاعد أكثر مع ظهور من كانت تعتبره رفيق روحها في لباس صياد قادما نحوها فتحت له ذراعيها ولكنه مر بجوارها بكل غرور دون أن يعبأ بها .
أصبحت مبكرة لا تريد طعاما ولا شرابا ، توجهت إلى الحمام ووضعت نفسها تحت المرش طويلا فانسدل شعرها الأبنوسي الطويل خلفها حتى أخفى نصاعة ظهرها وانساب الماء طهورا يلامس بحنو نعومة بشرتها على كامل جسدها محترما تضاريس أنوثتها وملتزما بانحناءات رشاقتها ، واصلت الدلك برفق حتى كادت أن تفتن بجمالها وبنفسها وتنساق إلى حيث الحديث عنه يجري بالأقنعة وفي زوايا ضيقة ومعتمة.
أرادت صباح هذا اليوم أن تقضي ما أمكن لها من الوقت في نفس المكان الذي يختزل بسكونه المريح للنفوس القلقة تفاصيل الحياة بأفراحها وأحزانها .جلست قرب البحيرة تتأمل جمال الطبيعة حولها ، تذكرت ما كان وفكرت في ما سيكون ، أومأت برأسها كمن لا حيلة له كأنها أدركت أن التفكير بدون التدبير لا معنى له ولا جدوى، بل أنه قد يفقد المرء قدرته على فهم عمق الأمور إذا سارت وفق القواعد التقليدية وأن زمن من تعلقت به قد انتهى منذ زمن، انتبهت إلى تكاثر طيور البحيرة حولها الذين ألفوها ،أطعمتهم، داعبتهم ، وضحكت كثيرا ،حلق فوقها طائر الكروان الذي طالما شق بدعائه الشهير سكون المكان كلما رآها فلم تشعر أنها وحيدة، نهضت واتجهت إلى نفس الطريق المفروش بالأوراق الصفراء ، وغصة شديدة أصابتها تكاد تخنقها ، لم تعد تميز بوضوح معالم المكان ، ترنحت واتكأت إلى جذع شجرة فنعق الغراب نعقة جعلتها تهوى على الأرض، وفجأة خلع قلبها دوي مفاجئ تذكرت الصياد ولكنها تجهل الضحية، زاغت عينيها بين الأشجار المتشابكة فروعها ،ولكنها وجدتها أرضا غير بعيد عنها، عرفته من صوته العذب انه مالك الحزين ينزف، كان في الطريق إليها كعادته كلما رآها، اقتربت منه حبوا وما أن بلغته حتى كان قد غنى أجمل ألحانه ،بكت خلفه حتى اقتنعت بموته وبأنها لا تملك إعادته إلى الحياة في قلبها بعد أن اختار الموت فيها
علمت مع مرور الأيام أنها تقيم على حدود الخطر، تعيش أيامها في حالة حرجة، لقد أجهضت أحلامها منذ أن تخلى عنها وطوال فترة غيابه كجنين ميت بداخلها ، أصبح يحلو لها أن تغوص أكثر في عمق التجربة المريرة التي لم تتهيأ براءتها لها ولا تستطيع تقبل استمرار العيش في معاناتها، زهدت وذبلت وضعفت مقاومتها ورغبتها في الحياة، انتظرت ملاك الفجر، ثم كان آخر ما سمعت نعيق ذلك الغراب قرب نافذتها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة