د. عزيز القاديلي
في أوقات أخرى صرت أذهب إلى عين الذياب رفقة صديقي السي محمد. السي محمد هذا صديق أولي أي الصديق الأول الذي شكلت معه علاقة أخوية عائلية صلبة، يمكن لنا أن لا نلتقي مدة طويلة دون أن يؤثر ذلك على صلابة العلاقة. تعرفت عليه في السنة أولى إعدادي. يسكن قريبا من حينا، نرافق بعضنا البعض ذهابا و إياب إلى الإعدادية. كنا نراجع الدروس سويا إما في منزله أو في منزلنا، استحسنت والدتي الأمر كذلك والدته، تعمقت علاقتنا و تجذرت على الرغم من افتراقنا في مسالك الدراسة التي اختارها كل واحد منا، إذ اختار السي محمد الشعبة العلمية في حين اخترت الشعبة الأدبية، و مع ذلك كنا بين الفينة و الأخرى نلتقي. كان لقاؤنا دوما سجاليا، دائما نختلف في كيفية تصورنا للأمور و مع ذلك لم يحصل أبدا أن أثر هذا الاختلاف على علاقتنا.
من بين الهوايات التي كان يشغل نفسه بها، حبه تربية الدجاج. قام ببناء غم كبير في سطح منزلهم، كان يذهب إلى سوق القريعة يشتري الكتاكيت الصغيرة و يضعها في الخم، يتخير في شراء الحبوب من كل الأنواع و الأصناف و ما أن تمر بضع أسابيع حتى تجد الكتاكيت قد كبرت و صار حجمها يسترعي الانتباه. كانت الديكة الكبيرة لا تسمح لنا بالاقتراب من أي دجاجة، و كانت تعتبر نفسها حامية لها، و إذا تجرأت و رغبة في لمس أحد الكتاكيت أو الدجاجات فإن الديكة الكبيرة تنقض عليك لتنهشك بمنقارها الحاد. كنا نجد تسلية كبيرة أمام هذا المنظر المثير.
في أيام العطل الطويلة كنا نشغل أنفسنا بالذهاب إلى المسجد قبل صلاة المغرب قصد المشاركة في قراءة القرآن أو الاستماع إلى حديث يقدمه أحد الأئمة، كنت دائما أجد السي محمد من بين تلك الفئة المحظوظة من شباب الحي القلائل الذين يكلفهم المؤذن بتوزيع المصاحف على الحاضرين ثم جمعها عندما يقترب وقت صلاة المغرب، كان أيضا من بين زمرة القراء الذين يتنافسون في قراءة القرآن بصوت مسموع في اللحظة التي كنت أتتبعهم متعثرا و أنا أقرأ المصحف حرفا بحرف، كلمة كلمة.
من بين الهوايات الأخرى التي كنا نقوم بها أننا كنا نلتقي بعد كل خطاب ملكي، نعقد اجتماعنا في غرفته الموجودة في السطح، فنشرع في التعليق على الخطاب الملكي بعد استرجاع أهم عباراته. كان السي محمد يفوقني ذكاء، له قدرة متميزة في تخزين المعلومات و استحضارها ثم العمل على تحليلها و إنجاز الاستنتاجات المهمة. كنا أيضا نقوم بجولات بين أزقة و شوارع الأحياء السكنية القريبة أو البعيدة من حينا، خصوصا أحياء بولو حيث الفيلات الفاخرة التي يتمتع سكانها بالهدوء و السكينة. كنا ننشغل أثناء المشي بين هذه الإقامات بتبادل الأفكار و مناقشتها، و كان موضوع المناقشة ينطلق دائما من الأفكار الجديدة التي أتعرف عليها من خلال ما أقرأه من كتب أو مقالات. وكنت دائما أصطدم معه وأنا أستعرض عليه الأفكار التي تبدو لي جديدة، كان يفاجئني بانتقاداته على الرغم من كوني كنت أحاول أبين له أن صاحب هذه الفكرة أو تلك مفكر كبير. بالنسبة للسي محمد لم تكن صفة المفكر الفيلسوف الكبير تعني له شيئا، كل الناس سواسية و أفكارهم نسبية بل متهافتة على عكس منظوري الشخصي في تلك الآونة حيث كنت أنبهر كثيرا بأفكار المفكرين و الفلاسفة و لا أضع مسافة نقدية بيني و بين أفكارهم. كان صديقي بارعا في تصيد الأفكار المتهافتة و غير المنسجمة، كانت منهجيته في النقاش تفكيكة و تشريحية تجعلك في بعض الأحيان تلوم نفسك أنك انخدعت و صدقت كل ما تقرأه. لقد كان لهذه الجدالات الكثيرة أثر تحفيزي قوي يجعلني أعود إلى الكتب و المقالات من أجل أن أجد بين ثناياها أجوبة أو ردودا على الانتقادات و التسفيهات التي كان يواجهني بها صديقي. كانت لهذه الوضعية وقع إيجابي على عملية التكوين الذاتي التي كنت أخضع لها ذاتي، كنت في حوار مستمر مع العالم و الأشخاص و أنا أتتبع الفكرة بين السطور و الصفحات. و حينما ألتقي مجددا بصديقي نستعيد حواراتنا المعاكسة و المتعاكسة، كل من جانبه يحاول أن يثبت للآخر أنه على صواب و أن ما يعرفه هو الحقيقة عينها. و لم نكن ندرك في تلك اللحظة أن ما نقوم به هو تمرينات نفسية و عقلية نخضع لها ذواتنا في سياق نمونا و تطورنا و تأهلنا. كنا دائما و نحن نقوم بجولاتنا المسائية الروتينية نقول لبعضنا البعض سنشيخ و سيصيبنا الهرم و سنتذكر أيام المراهقة و الشباب و سنقول مع الشاعر ألا ليت الشباب يعود يوما..
بعد مرور هذه السنين أجدني مدين بالشيء الكثير إلى تلك اللحظات التي انصرمت و مضت و ضاعت بين تسارع الأيام و الأزمنة، أكم نا مدين الآن لتلك اللحظات الصعبة و الممتعة..
عذراً التعليقات مغلقة