الحبيب اعزيزي
قاص من المغرب
قصّة قصيرة
أَرْسمُوك.Arsmook
(شبح في مهمّة سرّية للغاية)
ـ 1ـ
مرّت خمس سنوات على باهيا وهي تكسر جماجم الجوز الصلبة. تستخرج الأمخاخ الجافّة وترمي بها بلطف واضح في الصحن الأبيض. وحين يمتلئ الأخير، تخطفه إحدى النساء بخفة البرق، فتفرغه في الكيس الذي يفتح فمه بين أقدام النساء.
كانت الفتيات يتغامزن سرّا، ويخفين عن باهيا نظرات سخرية يتبادلنها كل يوم.
اِكسري رأس هذه الجوزة.
اِكسري هذا
وهذا أيضا.
كي أستدعي حبيبك أرسموك.
وكنت طوال سنوات أتابع هذه المسرحية السخيفة، وقلبي يحترق لحالها. ولو كنت أستطيع فقط أن أوقف النساء الطائشات، لفعلت دون تردد. لكن للأسف، ليس بإمكاني أبداً. وكم حاولت أن أرفع حجر الصمّ الذي يكسّرن به الثمرات، لأكسّر رؤوس الشياطين التي يحملنها فوق أكتافهن. إنّما هذا غير ممكن إطلاقا. كانت يديّ تخترق الأشياء ولا تقبض إلاّ الفراغ. كم حاولت أن أقبضهن من شعورهن، فأسحل كل يوم واحدة. أجرّها عبر الطريق الطينية. وأنزل بها في اتجاه عين الماء. حيث تتجمّع نساء قبيلة تالمست لغسل الملابس، أو لجلب الماء، أو للثرثرة أحيانا، وتبادل الأسرار أحيانا أخرى. وكلّما مددتُ يديّ، تخترق أصابعي رؤوسهن ولا تقبض غير الرّح.
كنت أتنفّس مثل ثور، وأصيح بأعلى صوتي.
ـ أوقفن هذه المسرحية السّخيفة يا بنات القُحبة.
لكن لا أحد يمكنه أن يسمعني، أو يراني، أو يحس بوجودي. لأنّ هذا مستحيل تماما. إنّهن من عالم وأنا من عالم آخر.
وكنت أجلس لساعات في رّكن من بهو الدّار الفارغة إلاّ من أكياس الجوز. أبكي.. أغضب.. وأفكّر. فأنا في الحقيقة لست من عالم الأحياء.
ـ 2 ـ
دُفنت في الرابع من أبريل عام 1993. وشاهدة قبري تقول هذا بالحرف. عصر هذا اليوم كانت القبيلة كلها حزينة. أغلب الناس بَكوْا لوفاتي. كنت أسمع نوّاح النساء الحزينات، ذلك الصوت الرخيم المدفون في الأنين. الحقيقة أنّي بكيت أيضا، وبغزارة. لكن لا أحد يمكنه أن يرى دموعي و حركاتي. فهذا مستحيل، إنّه حدّ بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
عند العشاء، نهضت وخرجت من القبر: من تحت الحجر والتراب.
قلت في نفسي:
(( سوف أصعد إلى المنزل لأرى هل هدأت قبيلتي. الموت كالحريق.. فقبل ساعات قليلة، كان الكلّ يبكي في منزلنا: الرّجال.. النّساء.. الفقراء والميسورون.. مجانين القرية أيضا…))
كانت الحشود ساعة عودتي من الموت تملأ كلّ غرف الدّار. لكن لاحظت أنّ الأمر كلّه قد تغيّر فجأة: الناس تثرثرالآن يا صاحبي. وبعضهم يشرب الشاي.. يحكي عن الزواج، والحب، وأشياء كثيرة بدون ترتيب. وهذه فتاة تمرّ وسط الجالسات في السطوان، حاملة أطباق الجوز واللوز والحلوى. تحكي نكتا شبه جنسية، فينفجر الكلّ ضحكا حتّى البكاء. صحت مندهشا:
(( يا إلهي.. لقد كان هؤلاء يبكون منذ ساعتين فقط. هل جنّت قبيلتي؟ ..)). وجلست على عتبة الدار. أتفرّج على مأتمي الّذي انقلب بسرعة إلى حفلة تنكرية. مرّت لحظات، ثم اشتعل الصياح من كل زاوية.
ـ باهيا.باهيا. باهيا.
ـ ما بها؟
ـ لقد رمت بنفسها من سطح الدّار.
كانت باهيا صديقتي قبل أن أموت. وكنّا قد تواعدنا على الزّواج في الصيف المقبل. ولولا حادثة السير اللعينة لكنّا الآن زوجين. نلهو في مزل ما بين أولادنا. نرسلهم للمدرسة، حيث يجلس المعلّم جنب المقبرة التي دفنت فيها. ببذلته البيضاء الطويلة. ونظارات لامعة. وحيدا، يراقب التلاميذ وهم يلعبون وقت الاستراحة بين شجيرات اللوز، ووسط ما زرعوه بأياد صغيرة،، شتاء العام الماضي، من ورود جميلة.
كانت باهيا الوحيدة التي رفضت تناول الطعام ليلة رحيلي. ولم تكفّ عن البكاء إلاّ حين ارتطم رأسها بالصّخور. وكانت النتيجة مؤلمة جدّا: لقد نجت بأعجوبة فعلا، لكنّها فقدت الذّاكرة تماما.
كنت أنتقل بين المقبرة ومنزل الحاج عدّي، تاجر الجوز. وكان يستدعي فتيات القرية لتكسير جماجم الجوز، واستخراج الثمرات، مقابل عشرين درهما ونصف لكل واحدة منهنّ. وكانت باهيا تعمل في منزل الحاج. وسط الفتيات اللّواتي يستغلن ذاكرتها العليلة للسّخرية منها طوال الوقت.
اِكسري رأس هذه الجوزة
اِكسري هذا
وهذا أيضا يا باهيا.
ثم كلّ هذا
كي أستدعي حبيبك أرسموك.
لذا كنت أجلس ساعات طوال بينهن. أرى كل ما يجري للمسكينة ولا أستطيع فعل أيّ شيء. فعالم الأحياء لا يحتكّ أبدًا بعالم الأموات. فهمت منذ اللحظات الأولى أنها لم تعد تتذكّر يوم مماتي. فهي تحتفظ فقط بذكرى واحدة. أن تنتظر رجوعي ذات يوم من مراكش، حيث أعمل في دكّان الملابس كي نتزوج.
(( ونقيم عرسا كبيرا.. تحظره كل الفتيات.. يرقصن الأحواش تحت القمر.. يصببن على جسد العروس أكواب الحناء.. يفرحن.. ويمكنهن ساعتها محادثة الشبان أو الاختلاء بهم، بين أشجار الزيتون واللوز والجوز الكثيرة حول الدّار.))
فهمتم الآن من أكون؟ أنا أرسموك: شبح قرية تالمست. لست غريب الأطوار حتّى الآن. إلاّ في قضية واحدة فقط. أن أحكيّ وأنا شبح عائد من الموت قصّة عوض العكس. كنت أسمع منكم، والآن ستسمعون من فمي هذا. واقعة غريبة ربّما. لكن لا أدري كيف تنصتون. بأي أذن وأي قلب وعقل؟ لكن هذا لا يهم.
ـ 3 ـ
داهيا بنت بلادي. في عمرها العشرين. فتاة بوجه أبيض، شديد البياض. يمكن أن ترى روحك قبل سحنات وجهك في وجنتيها. روح واضحة وغير مقلوبة. شعرها حين ترخيه على ظهرها، يغطي ثلثي قامتها غير الطويلة، وغير القصيرة أيضا. أشقر براق. أهداب طويلة مثل عسس بلباس أسود. أحداق عينيها ترفل في كثير من الصفاء. باهيا وهي تبتسم، أقرب إلى منظر طلوع الشمس.
السيد بلال معلّم القرية قال فيها ذات صباح:
ـ أنت قطعة من الفردوس تمشي على قدميها بين أشجار الجوز.
سألَتْه:
ـ هل أنت جاد سيد بلال.
ردّ:
ـ أجل سيدتي.
كان أحسن إطراء سمعتُه عن باهيا. كنت ساعتها واقفا خلفهما حين التقيا صدفة، في الطريق بين القرية والمدرسة المعزولة خلف الوادي. تمنّيت ساعتئذ لو طال حديثهما الحديث أكثر فأكثر. لكن السيد بلال لا يعني أي شيء غير ما قاله. فهو متأفّف عن نساء البلدة. وربّما عن نساء الكون كلّه. هو كائن ورقيّ. متزوّج من مئات الكتب، التي يجلبها من الدار البيضاء. يحملها على ظهره لعشرات الكيلومترات. في حياتي ومماتي معا، لم يسبق أن رأيت كائنا مثله. يحمل خبزة واحدة، وعلبة سردين، وعشرات الكتب. ويمضي وسط الجبال، نحو المدرسة النّائية في تالمست. يرتّب الكتب في القاعة الواسعة حيث يقضى معظم ساعات الليل.
كان قبري الذي أرقد فيه مقابلا لنافذة مكتبته مباشرة. لا يفصل بينهما سوى جدار البيت ذي اللون الأحمر. إذا أحسّ المعلّم بلال بالتّعب، كان يستريح ساعة كاملة. يفتح دفتي نافذة المكتبة.. يملأ كأسا، فيضعه على حاشية النافذة، ويشعل سيجارة بأعقاب السيجارة التي احترقت في فمه. كلّما وضع ذراعيه على النافذة ،أكون أنا ساعتها جالسا على حاشية قبري. كان يزرع وجهه في وجهي، لكنّه للأسف لا يراني أبدا. فهذا مستحيل الوقوع. في مرّات عديدة، يأخذني الشكّ في أن أظهر له، وأنا أبتسم في وجهه. أو وأنا أرفع يدي وأحيّيه، على ضوء القمر المكتمل، فوق جبال وأودية تالمست.
كنا نجلس وجها لوجه صامتين. أنا أرى وأسمع ولا ألمس الأشياء. هو لا يراني ولا يسمعني ولا يمكنه لمسي. لم يكن جاري فقط. أي منزلا جنب قبر مثلا. بل كان أيضا أستاذي. تعلّمت منه مفاتيح كثيرة. كتابة الحروف بالعربية والفرنسية مثلا، الفلسفة والعلوم الدقيقة والغريبة أحياناً.
كنت نهارا أدسّ نفسي وسط التلاميذ وأدرس بحزم. كما لو كنت مقبلا على امتحان التخرّج. كان ذكائي حادّا وقدرة استيعابي للدروس واسعة واستثنائية. خارقة ربّما. هذا لأنّي تمتعت بأشياء جديدة يوم توفيت وغادرت عالم الأحياء. وكنت ـ إذا انتهت الدروس داخل القسم ورحل التلاميذ لمنازلهم ـ أدخل إلى مكتبة السيد بلال. أقرأ.. أقرأ..أقرأ. مثلما يفعل هو تماما. لا أتعب أبدا. وكم سهرنا معا جنبا إلى جنب داخل المكتبة نطالع ونستوعب الأفكار. للأسف دون أن يحس بوجودي. ولا أن يشتم مجرّد شم رائحة الخزامى التي تملأ المكان. لم نكن لهذا السبب نناقش خلاصاتنا ونتبادل الحجة بالحجة. نظرا لطبيعتنا المختلفة. رجل حي، وشبح يتسكع في القرية بكلّ حرية.
في البداية كانت قراءة الكتب مجرد رغبة. لنقل لذّة. فهذا أقرب للحقيقة. لكن وفي كل يوم أكتشف أفكارا جديدة تتغير رغبتي. تشتدّ.. تصبح واعية.. وأصبحت بعد سنتين فقط، فيلسوفا أو عالما أو كائنا أقرب إلى هذا وذاك. حتّى أنّ مشيتي تغيّرت.
ثم جاءت الفكرة. قلت في نفسي:
(( لماذا لا أبحث عن طريقة للاتصال بعالم الأحياء؟))
أظن أني بنيت كل مشروعي منذ هذا اليوم، حول تدريب حاسة اللّمس. خمّنت أنها الباب الأوّل نحو الاحتكاك المباشر بعالم الناس.
قلت:
ـ لا بد أن ألمس الأشياء.. لا بدّ أن أقبض عليها.
علي أن أستغلّ تواجد الأستاذ بلال في القرية. أن أتعلّم بأقصى سرعة.
(( ومن يدري؟ قد ينتقل ذات يوم إلى المدينة التي ولد فيها. وتختفي المكتبة الواسعة هذه)).
فتيات القرية كنّ يفرحن كثيرا، حين تكلفهن أمهاتهن بإيصال إخوانهم الصغار للمدرسة. الأمهات يأمرن والشابات يفهمن وينفّذن بمتعة لا توصف. غير أنّ السيد بلال يعرف المؤامرة الجميلة أيضا. لذا لم تفلح معه كل محاولات التحرش به، لا من طرف الشابات ولا من طرف الأمّهات. كنّ يتمنّين أن تتزوج بناتهن من الأستاذ. فهو وسيم وشاب أعزب ولطيف للغاية. فربما يذهبن معه لمدينة الدار البيضاء في السنوات المقبلة، فيشعن هناك في إحدى الشقق العالية جدا..
كانت نساء تالمست مستعدات لأي شيء. يكفي أن يطلبها السيد بلال. وكان هو يقابل تلك التحرشات الواضحة بالكثير من اللطف. وإرضاء الخاطر في كثير من الأحيان. بالنسبة له، كلّ حركات النساء هي في الحقيقة تعبير عن روح الإنسانية لا غير. عن الحرية التي تحيى داخل كل إنسان. لا فرق بين ساكن في المدينة أو في أعالي الجبال.
كتب هذا مرارا في مذكراته التي كنت أقرأها عن آخرها. ولم أختلف معه سوى في قضية واحدة. أي في جزء صغير من تفصيل خاص. فالحرية لم تكن خاصة بالأحياء فقط. وهذا يصعب على الأحياء أن يدركوه. لأنّه جزء من عالم محاط بجدران عالية. هي نفسها الحدود بين الطبيعي والفوق ـ طبيعي. كانت المذكرات بالنسبة لي مدخلا حقيقيا لأفهم العالم. للأسف كان هذا بعد موتي وتحوّلي إلى مجرد شبح معتوه يحاول التواصل مع باهيا من عالم القبور. شبح في مهمة سرّية للغاية. يجتهد ليقدّم يد المساعدة. لقد وقعت المسكينة في ورطة حقيقية حين فقدت ذاكرتها. وليس ذلك فحسب بل هذا المحيط الرهيب من شابات وشبان وأمهات ورجال وعجائز بالجملة غير المتمدرسين. الحاملين لرواسب جد مرعبة لثقافة خاطئة وقاسية.
كنت أحمل جحيم عالم الأحياء فوق كتفي. لا بد أن أنجح في حلّ هذه المعادلة:
اِكسري رأس هذه الجوزة
اِكسري هذا
وهذا أيضا يا باهيا.
ثم كل هذا
كي أستدعيّ حبيبك أرسموك.
أتتوقين لرؤيته كثيرا؟
جهنّم كلها مختصرة في جمل قصيرة. كم كان هذا رهيبا. باهيا كانت تشرع في كسر حبة الجوز وتعتقد دائما أنها الأولى. هذا بعد أن تكون قد كسّرت نصف كيس كامل. فهي تنسى كل ما تقوم به في نفس اللحظة تقريبا. إلاّ موعد زواجنا في الصيف المقبل. فقد كان مكتوبا على الصّخر وغير قابل للمحو أبدا.
مرّت على تالمست رياح وعواصف. سيول وأعاصير. أحداث غريبة من الموت والولادة، لكنها لا تتذكر لقطة واحدة من كلّ ذلك. ومقابل هذا، كنت أنا الشبح المعذّب الذي يجلس على حاشية قبره بكفنه الأبيض، مثل تمثال لملاك يوناني. أنا الذي كان عليّ أن أختفي من هذا العالم الرديء حدّ الضجر. أن أختفي وكفى. أهتم بأضلع جسدي هناك بين الموتى. وأتمتّع باستنشاق رائحة الزعتر والخزامى المرشوشة على كسوتي البيضاء. وأستريح إلى الأبد.
لم أفهم لماذا عليّ أنا وأنا فقط، أن أتحوّل إلى شبح أبيض. ولا فهمت من منحني القدرة على الانفلات من تحت الحجر والتراب. ولأيّ غرض. حتّى نحن ـ الأموات ـ هنا لا نستطيع تفسير كل شيء. من يفسرها إذن؟ وأين يوجد هذا الذي يفهم كل التفاصيل الدقيقة؟ ولماذا يقرر كل هذا ويكلّف البعض بالإنجاز؟ لماذا لا يتولّى أموره بنفسه؟ لكن إذا فكّرتُ بقليل من الصبر. وباستخدام قطعة عقل صغيرة في حجم حبّة عدس، أجد أنّ الأمور لا في عالم الأحياء ولا في عالم الأشباح، إنما تجري هكذا فقط. لا أحد يكلف آخر بأي شيء. فالحرية التي يتكلّم عنها السيد بلال هي السرّ في هذا. هنا وهناك وهنالك. وخصوصيتها الدقيقة هي ما يبدو في صورة تكليف. أو مجرد اهتمام وانشغال بالآخر. تظهر في حالات صغيرة مثل الرغبة في مجالسة فتاة. وأخرى عظيمة مثل الرغبة في قلب الكون أعلاه على أسفله. أو بعث الأموات وإرسال المبشرين وقارئي المستقبل. ثم تحويل الجثث إلى أرواح حرّة وغير مرئيّة مثل بائع الملابس: أرسموك الذي هو أنا بالذات.
ـ 4 ـ
في الأول من ربيع 1998 صعدت شمس فاتنة على قرية تالمست. وانقشعت السحب فاختفت أمواج البرد القارس، وتراجع الضباب الذي كان يغطّى الديار والأودية. حدث في هذا اليوم أن رأيت السيد بلال يخرج بحقيبته التي يحملها على ظهره. وعرفت حينها أنّه مسافر بدون شك ولمدة طويلة نسبيا. أغلق الباب ووضع المفاتيح في المحفظة الصغيرة التي يعلّقها دائما على الكتف الأيسر. كم كنت حزينا آنذاك. ليس لأني سوف أفقد جاري العزيز لمدة من الوقت، لكن أيضا لأنّي بدأت أتلمس الحل للمشروع الذي نذرت كل وقتي من أجله. فالكتب التي أطالعها بدأت تعطي ثمارها، شعرت منذ وقت قريب أنّي على بعد ربع شبر من حل المعادلة. لكن إذا سافر الأستاذ بلال وهو قد أقفل باب المكتبة، فما عليّ سوى الجلوس أسبوعين كاملين في انتظار عودته. كي يفتح لي دون أن يعي باب المكتبة من جديد. وفي هذه الأيام تكون باهيا قد تعذبّت أكثر من اللاّزم:
اِكسري هذا الرأس
اِكسري هذا
وهذا أيضا يا باهيا.
ثم كل هذه
كي أستدعيّ حبيبك أرسموك.
لا أستطيع منع السيد بلال من التحرّك نحو الطريق الطينيّة. بقيت اليوم كلّه جالسًا على قبري. ولم أرغب في زيارة الدّار التي تشتغل فيها كاسرات الجوز.
في الليل وبعد أن ظهر القمر، شرعت بعض الذئاب تعوي بعيدا، في الجبل المقابل للمقبرة. فكّرت أن أدخل للمكتبة. وبعد محاولات فاشلة لإدارة المزلاج الذي لا يدور أبداً، ملأتني موجة غضب شديدة. لذا تراجعت ثلاث خطوات للخلف، ثم قفزت بسرعة جنونية. كنت أنوي ضرب رأسي على جدار الدّار. وعوض أن أسقط للأرض، وجدت نفسي داخل دار الأستاذ بلال. واقفًا على قدمين في المطبخ الصغير، يمين الباب الحديدي.
(( يا إلهي.. لقد نجحت.. لقد نجحت.))
صحت في فرح عارم.
خمّنت حينها أنّ السّرعة هي الحلّ وليس حاسّة اللّمس. لهذا بقيت أبحث في الكتب كيف أنمّي سرعة جسدي للحدود القصوى. وفعلا كانت بعض الكتب مفيدة في هذا الجانب. في الصّباح شرعت في التدريبات على اختراق الأشياء. اختراق علم المادّة. كنت أغضب.. أغضب.. ثم أنطلق، فأجد نفسي في لمح البصر مكتبة بلال. أو داخل شجرة. ثم داخل أي منزل في قرية تالمست.
تطوّرت التّدريبات بسرعة. أصبحت جنونيّة أكثر. لا أخفيكم أنّني جربت أن أخترق جسم بقرة. وقد نجحت التجربة:
وجدتني وسط ذلك الجسد الواسع لبقرة كانت ترعى أصيل اليوم الثّالث بالقرب من المقبرة. وكنت أتجوّل مثل أرنب أبيض في كل أعضائها. ولا غرابة في هذا إطلاقا. فأنا أعرف أنّه لا شيء أغرب من أن تتعرض باهيا لكلّ القسوة التي تغرق فيها حتى أخمص الأذنين منذ سنين. وجاءتني فكرة رائعة وأنا داخل البقرة. أشكر كل العالم على هذه الفكرة. كنت وسط رأس البقرة تقريبا. قلت:
((سأجرّب أن أتحكّم في توجيه البقرة. إن نجح الأمر، فأنا أعرف جيداً ما أفعله بهذا لصالح باهيا. وإن فشل سوف أعتبر ذلك مجرد لعبة. قد أضحك على نفسي بسخرية زائدة.. اخرج من رأس هذا المخلوق.. ألعن كل الأشباح الحمقى مثلي.. أعيد ترتيب أفكاري من جديد.. أبحث عن حلّ أكثر جنوناً وسخريّة)).
فعلا همست في مخ البقرة:
ـ هيا. اِجري.اِجري.اِجري.
يا لشدة الغرابة. فقد رفعت البقرة السوداء ذيلها من ورائها، وشرعت تجري بسرعة جنونية ـ وأنا داخل رأسها بكفني الأبيض ـ أضحك بشدة.. أذرف دموع الفرح.. لقد ذُهلت… نعم.. تملّكتني موجتان من إحساس متناقض.. رغبة في السعادة المطلقة.. ورغبة في البكاء. وها أنا ذلك الشّبح البئيس ينسى للحظات أن يطلب من هذا الكائن الوقوف. كانت البقرة الّتي أتحكّم في قيادتها، قد قطعت مسافة طويلة، بين المقبرة، وغابة العرعر المحيطة بالقرية.
همست في دماغ البقرة من جديد:
ـ هذا يكفي.
وبالفعل وقفت، محدثة صوتا كصوت الفرامل تماما. فقفزت من رأسها للأرض. ونظرت إليها. كانت عيناها واسعتين. تنظر نظرة لا أستطيع وصفها. كان بطنها ينتفخ وينطفئ بسرعة. لا أدري هل كانت تفكّر فيما وقع لها للتّو. وهذا ما اعتقده من خلال تأويل تلك النظرة الغريبة. العالم غريب فعلا. لكنّ الأحياء لا يشعرون بهذا.
ـ 5 ـ
الآن وقد امتلكت هذا الاكتشاف العظيم. أقسم ألاّ أطلقه من بين أصابعي. أمامي خيّارين لا ثالث لهما.
الأول: أن أدخل إلى جسد المعلّم بلال وأتحرك نحو رأسه. آمره أن يحمل باهيا للمستشفى ذات يوم. ومن الأفضل إلى مصحّة متخصصة في أمراض الرأس. أريدها أن تعيد ذاكرتها. فتتذكر أنّي قد متّ منذ خمس سنوات تقريبا. فتتحرر من جحيم انتظار عرس الصيف الذّي لا يأتي. أن تتحرّر أيضا من نسيان تكسير الجوز. وتختفي سخرية النساء إلى الأبد. ولمَ لا أن يتزوّجها. فهي غاية في الجمال واللّطف. غير أن بلال متأفّف في هذا الجانب.
أمّا الخيار الثاني: فأن أدخل جسد باهيا نفسها. أتسرّب إلى مخّها، فأوجّهُها من هناك، كي تعرف أنّي متّ منذ سنين. فتحاول نسيان أمري. ومن يدري قد تبدأ حياة جديدة. فتحبّ من جديد. وتنتظر الّذي قد يأتي. ولا أجد عريساً لحبيبتي باهيا أفضل من السيد بلال. غير أنّه متأفّف.متأفّف.متأفّف.
ـ 6 ـ
اليوم أشرقت الشّمس على قرية تالمست. غير أنّها ليست نفس الشمس. كانت أكبر حجما.. أكثر دفئا.. شرعت دار الحاج عدّي تكرّر صدى أغاني كاسرات الجوز.. أمّا أنا، الشبح أرسموك، فقد دلفت عبر الجدار الصّخري نحو الداخل.. ثم قفزت نحو رأس باهيا.. ودخلت إلى دماغها: (فعلا رأيت البقعة السوداء التي تفرمل تدفّق الذّاكرة).
((عليّ إصلاح الأمر مرّة واحدة وإلى الأبد)). قلت في نفسي.
كانت دقات حجر الصّم على عظام الجوز بطيئة.. ثم ما لبثت أن ارتفعت.. ثمّ تسارعت أكثر.. فأكثر.
صاحت إحداهن ساخرة:
ـ اِكسري رأس هذه الجَوزة
اِكسري هذأ
وهذا أيضا.. يا باهيا.. هيه ..هيه..
ثم كلّ هذا.
كي أستدعيّ حبيبك أرسموك إلى هذا المنزل.
أجابت باهيا بسرعة:
ـ ليس بعد الآن يا عائشة..
ـ كيف؟ تساءلت عائشة.
أجابت باهيا:
ـ أعرف أنّ أرسموك قد مات.
ـ وكيف عرفت؟
ـ إنّه في دماغي الآن.. ارفعي رأسك وانظري في عينيّ.
كل النساء حينها رفعن رأسهن في دهشة إلى عينيّ باهيا.
((ثمّة شبح ..ثمة شبح.. شبح ..شبح ..))
صاحت النّساء، كنت هناك، لقد رأينني بالفعل، ورأين كسوتي البيضاء.
أغمي على كاسرات الجوز. وبعضهنّ قفزن خارج منزل الحاج عدّي، وهربن نحو غابة العرعر المجاورة.
في هذه اللّحظة، نزلت من رأس باهيا.. حرّكت كيس الجوز.. أحدث صوتا أشبه بضحكة خفيفة.
انتبهت باهيا. وعرفت أنّي أمام عينيها. ابتسمت وهمست لي:
ـ أكاد أراك يا أرسموك.. الآن اذهب لتستريح.
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة