قصتان قصيرتان من الجزائر

قصتان قصيرتان من الجزائر

آخر تحديث : السبت 2 أبريل 2022 - 4:26 مساءً

             قلب في مرسـم

  صبحة بغورة

كاتبة جزائرية

img20220328 18321807 2 - قريش
صبحة بغورة

استيقظت على غير عادتها في تلك الأمسية الصيفية الحارة بعدما ضاقت بالفراش وضاق الفراش بتقلبها فيه، نهضت إلى الشرفة تتلمس ما يمكن أن ينعشها ، كانت النسمات الدافئة عليلة، تلاطف خديها بنعومة وتداعب قميص نومها الوردي الشفاف الذي يبتكر من ذاته لون عطره ويبوح في ذاته بعطر سحره والذي لا ترتديه سوى الأجساد الغضة التي تثقب بدلالها قميص الليل إلى كمال المعنى وسدرة المشتهى كصيحة تنبيهية تفكك ألغاز الجو الطلسمي وتكسر صمت الليالي، مررت يدها الرقيقة بنعومة على خصلات شعرها إلى الوراء وأبصرت ضوءا خافتا خلف النوافذ الصغيرة لمستودع كان قد اتخذه شاب فنان مرسما له منذ فترة ، دققت النظر أكثر لتعرف سر الحركة التي دبت فيه فرأته بين رواح ومجيء يرتب أغراضه وينفض الغبار عن أدواته ويعيد توزيع لوحاته التي تركها مغطاة قبل أن يغيب عنها طوال تلك الفترة التي قضاها في الخدمة الوطنية ، ابتسمت من أعماق لما تذكرته يلج عالم الفن صغيرا كان صغيرا في العمر وصغيرا في فهم الحياة بمقياس ما تعنيه من ضرورات العيش ،كم كان يروقها كثيرا أن تتأمله جالسا أمام لوحاته بين قلق وحيرة، وأن تتلصص لرؤية ما جادت به مخيلة هذا الشاب المكافح من أعمال فنية إذ لم يكن في مرحلة الطفولة الفنية بل فنان وضع الحياة في خدمة الرسم ، وكان أشد ما يسعدها أن ترى لوحاته الفنية في طريقها إلى يد من أراد اقتناءها من المعجبين بفنه ، وهذا كان مصدر عيشه ، ابتسمت من أعماقها وقالت في نفسها إنها العودة إذن، فجأة أفاقت وهي في غمرة استغراقها في تلك الذكريات على حمحمة خافتة صدرت بصوت فخيم ، كان خلال ذلك يتأملها مندهشا من وجودها في تلك الساعة المتأخرة من الليل بالشرفة ، تعلق كلا منهما بالآخر عبر نظرة طويلة رآها هو لوحة فنية تشرق ألوانها بأشكال أخاذة ، ورأته هي فيه فارسا من ندى فكانت ضربة البداية العاطفية لكليهما، استدارت خجلا وهرولت نحو فراشها وكانت ليلة ضاق فراشها بها أكثر فباتت وشيء في قلبها ينذر بدق أوتار القدر اختلجت في نفسها المشاعر التي طالما أفرغتها شعرا ، أما هذه المرة فقد عجزت لغتها الشعرية في ضبط الوزن والتناغم .

لم تتأخر في صباح اليوم التالي من النهوض مبكرة ، توجهت إلى غرفة الطعام حيث وجدت والدها وأخوتها حول القهوة يتبادلون حديثهم الصباحي المتشنج،كانت تراهم محترفي صناعة الأزمات ،ضاقت من تصعيد لغة حوارهم فأخذت فنجانها بعيدا وجلست قريبا من نافذة تطل على المرسم ، وجدت نوافذه كلها مفتوحة فوقفت ترسل بصرها تراقب ما يحدث فيه ، رأته يتحرك بكل نشاط  وحيوية  يدخل الكثير من الألواح الخشبية ولفائف الأوراق والخيش الخشن والكثير من العلب المغلفة ، إنها البداية إذن ، تراءى لها أن تزور مرسمه،ولكنها استخفت أن تكون الزيارة بمبرر حبها للرسم أو لعله يعلمها بعض أسرار هذا الفن،ولما كان الهدف بطبعه خالق للأداة فقد اهتدت إلى حيلة للتواصل معه ، وذات يوم سارت بخطوات مترددة نحوه ، كانت دقات قلبها تتسارع وتكاد تسمعها أعلى صوتا من طرقها على الباب ، ظهر لها شابا وسيما ، تعلثمت في حديثها وسيطر الحرج عليها فاحتوى ترددها بالترحيب بها ، تقدمت وهي تتلفت حولها ثم جلست حائرة من كثرة اللوحات والألوان التي تملأ المكان، قطع حيرتها بالسؤال عما تريد ، سلمته صورتها الفوتوغرافية التي أرادت أن تحولها إلى صورة زيتية كبيرة ، تأملها طويلا بين يديه ونظر إليها نظرة مقارنة ،كاد يكلم نفسه من خلالها ، كان رأيه أنها أجمل بكثير من الصورة ، وأنه يفضل رسم الشخصيات مباشرة ليكسب اللوحة شخصية صاحبها وروحه فهو يخاطب الروح ليجسد أعمالا فنية تكشف عن رؤيته الروحية وباستطاعته لو رغبت أن يقوم بذلك ، سعدت بهذا الرأي ورحبت ، غادرت المرسم وهي غير مصدقة أنها ستلتقيه كثيرا بعد ذلك وتقول في نفسها أنها فرصة إذن. قضت ليلتها سعيدة واستحت أن تطل من شرفتها العريضة على المرسم بل اكتفت بمراقبته بين لحظة وأخرى من وراء الستار، وتمنت لو أنه الآن يخاطب روحها ، تراقصت أمامها عرائس خيالها فشردت عن واقعها وفي لحظة ذهولها عن ما حولها استسلمت لوحيها وإلهامها، وكان هو قد قضى قسط من الليل مستغرقا في تفحص صورتها التي نسيتها ، تسللت إلى نفسه مشاعر الإعجاب بملامحها الهادئة وقسماتها الرقيقة وجمالها الرباني الذي منح فؤاده وبصره السكينة والبهجة.، نظر للصورة مجددا وهو يتذكر أدبها وعذوبة صوتها وحلو حديثها ، ابتسم لما تذكر تعلثمها واضطرابها أول مرة وكيف كادت ملابسها الجميلة أن تتلطخ بالألوان الزيتية المنتشرة في كل مكان .

ترددت على المرسم عدة مرات بقناعة جمالية لعمل جلسات الرسم، وفي كل مرة تنتهز المناسبة كي تتمتع برؤية اللوحات الفنية المفعمة برائحة الحياة والحركة الدائمة حولها إذ شعرت بعبق اللوحات يخرج من الصور ليملأ البصر بالألوان الزاهية ،لاحظت رؤيته كفنان من خلال الخطوط المنحنية والمسحات اللونية التي تتجاور لتكتسب صبغة لونية صريحة وحارة وأن ثمة رهافة في تعيين ملامح الأشكال في لوحاته عبر خط خارجي يمارس حضوره بليونة وعفوية لافتة من أجل تضمين صفات دلالية ومعينة ، تبادلا أطراف الحديث في مواضيع كثيرة ، تحدث إليها وأراد أن يكون منطقيا  وتكلمت هي وأرادت أن تكون جذابة ، علم منها أنها شاعرة يرسم قلمها صورا بالكلمات في قصيدة، حدثته أن تجربتها الشعرية والإبداعية تقوم على أساس انعكاس اللون في مرايا النصوص لإثارة الصور الشعرية السحرية فأدركا أنهما يتقاسمان الوظيفة الجمالية لتبليغ قوة الرسائل ومهارة التبليغ ونبل المعاني ، وأحسا أن عشقهما للألوان كان الوقود الذي غذى كوامن الرغبة في رحلة الإبداع ، كانت زاوية جلوسها تتيح لها النظر بكل وضوح إلى شرفتها المقابلة ، بينما كانت نظراته  الطويلة لها والمتفحصة لمحاسنها تأسرها إليه وعيناه تحتويها في عالمه فشكلت بسهولة وعيه البصري ومارس نوعا من التنقيب في أعماق روحها التي تحولت مع الوقت إلى طابع خيالي كما لو أنهما اندمجا  ليحلقا معا في الفضاء الحلم ، ثم جاء اللوحة على حسب مقدار الصدق الذي مارسه مع ذاته وبمقدار ما وثق بأقوى ما يمكن أن تهبه هي من سحر وجمال  

في الموعد المحدد لاستلام الصورة كاملة ذهبت إليه في قمة أناقتها ،رحب بها ترحيبا مميزا وكان سعيدا بلقائها بينما كانت هي قلقة وخائفة أن يكون هذا اليوم ختام سلسلة لقاءاتهما ، ذهب ليغلف الصورة بالورق السميك فانتهزت الفرصة واستبدلت سريعا صورتها الفوتوغرافية بصورة أخرى لها ، وفور عودتها فتحت غلاف الصورة وعرفت مقدار نجاحه في وضع الرسم في سياقه الروحي ثم وجدت معها ورقة كتبها لها ” إلى من أحببت ” فأسرعت إلى الشرفة ورأته يقلب صورتها الجديدة بين يديه ويقرأ ما كتبته له خلفها ” إلى من أشتاق إليه” ، أسرع إلى النافذة المقابلة لشرفتها فالتقت نظراتهما مرة أخرى طويلا ، نظرة حملت توافقهما واتفاقهما على أن يكمل كل منهما إبداع الآخر في الحياة إلى آخر العمر  .

                              ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة قصيـرة     

         قلوب لا تتعب

في بعض الأماكن استرجاع للذكريات القريبة أو البعيدة، وأحاسيس تهيمن على النفس وشعور بالانتماء وجدانيا، إنها مشاعر يكنها الفرد لأماكن سكنت طفولته فكانت لها قدرة تأثيرها عليه ، هكذا وجدها بجانبه أسيرة سحر المكان الذي يزوره لأول مرة معها منذ أن تزوجا ففيه تبتسم الطبيعة لكل من يدخله ، وفيه عندما يمتزج النظر بالعاطفة يأخذ الناظر إلى عالم البوح ولكنها كانت شاردة في تلكالأمسية القمرية حيث كانا يفترشان الأرض خارج الكوخ الذي فيه ولدت وقد امتدت عيناها بعيدا نحو الآفاق وكأن ليس له وجود في مجال رؤيتها فسكن معها في ذات المساء ليل الغياب في منطقة ريفية لم تطأها قدماه من قبل  كان يعلم أنها فيها نشأت وعلى ترابها ترعرعت وفي مختلف أرجائها مرحت وركضت وتركت آثار أقدامها اللطيفة على وجه الأرض الطرية في كل الجهات ، طال شرودها في سكون الفضاء الوحي فيه أكبر من مساحة الكلام حتى كاد يحس أن العادة فقط هي التي تمنحه شرعية وجوده معها ، أراد أن يضفي بعض المتعة الفكرية الراقية على جلستهما  فلفت انتباهها إلى بعض القيم الجمالية المحيطة بهما ولكنه لمس منها سلبية أرهقت أعصابه وقهرت تفكيره فنأى بجانبه عنها برهة إلى أن أحس بأناملها الرقيقة تلامس كتفه في نعومة فالتفت إليها وقبل أن يحاول معرفة سر شرودها بادرته هي وكأنها أحست بقلقه أنها ليست مشغولة عنه بل مشغولة به ومن أجله منذ تزوجا ، فقط طاب لها أن تسترجع ظروف تعارفهما بالمدينة وما كان مساء ذلك اليوم الذي جاء منزلها خاطبا ، قضت حينها الليل بطوله تحلم أن يأتي المساء الذي يجمعهما في ذات المكان الذي هما فيه الآن زوجين متحابين،مع أنها كانت تخشى أن يكون ذلك مجرد حلما صعب المنال لأن الواقع آنذاك كان مريرا، بدت له كأنها تصارع الذاكرة التي تلح عليها استحضار مآسي الماضي، لقد احتلت حياة النكد وحياة الكراهية حياة السعادة منذ وفاة والدها فأصبحت الحياة بصفة عامة متعبة ، ثم لم يعد طعم لها حين تمسك عمها بكلمته التي سبقت لأحد أصدقاء السوء سيء السمعة أراد خطبتها له رغما عنها وعن والدتها المريضة ، كانت الابنة الوحيدة والمدللة في هذه الأسرة الصغيرة التي أصبحت رهينة من يريد السيطرة عليها مقابل بعض المال الضئيل لا يكاد يسد الرمق ، روت له كيف كان إصرارها على الرفض وكيف كان تحديها لجبروته، كما تذكرت أيضا كم كان الثمن حين تم الحكم على النفس والأحلام والحياة بالمؤبد في سجن التفكير والشجن، تنفست عميقا وهي تمدد رجليها أمامها ، كان لتناسقهما الجميل وقع آسر في نفسه لما استرعي انتباهه بياضهما في ظلمة المكان، أدركت ما كان منه فلاطفته مبتسمة ومسحت على رأسه بحنو ، فداعب أطراف شعرها المنسدل على كتفيها وحدثها أن ما ذكرته يلهم المتأمل في المعاناة بأن كل خروج من دائرة الخطر هو فرصة أخرى لنجدد قوانا من أجل لحظة أجمل بدل الانحباس في سجن اللحظات الماضية والمؤلمة ، دمعت عيناها فرحا وهي تبوح له أنها بعد خطبتهما وفي نفس هذا المكان كانت تنادي عصافير الفرحة لتشاركها سعادتها وتدعو طيور المحبة لتبلغه كم أحبته، ولكن عمها كان يأبى إلا أن يجعل الحب والحزن توأمين..لقد تعمد دوما التخلص من كل لحظات الأمل في حياتهما واستبدالها بالندم والتحسر.. كان حادا بلفظه، قاس بوصفه، مثيرا للجدل في كل كلمة ..كان طامعا في المنزل الذي يأويها ووالدتها .. قاطعها ليهون عليها أن الزمن يطهر الجراح ويلملم أشلاء القلب لترسى النفس على بر الراحة والهناء مع من تحب ،انه يريد مخلصا أن يكون زواجهما أنشودة للفرح والحب والحياة، وأن لا يعكر صفو  حياتهما ماضي لا قوة لهما في تغييره ، نهض واستقام وبدا خلفه البدر مكتملا ، مد يده يدعوها للنهوض ثم ضمها برفق إليه هامسا من يفتح قلبه تتغير نظرته إلى العالم  فكل إنسان يحمل عالمه في قلبه .

أرسلت شمس صباح اليوم التالي أشعتها الدافئة التي تسللت إلى الغرفة ، أفاقت على وقع حشرجة أوراق  ورأته يقلب فيها في اضطراب ، سألته عن ما يبحث، انتفض وأخفى الأوراق بسرعة، لم تهتم كثيرا للأمر بالرغم من أن شحنة نفسية مائعة انتابتها ، في منتصف النهار لمحته من وراء زجاج النافذة منزوي في مكان خفي بين الأشجار ثم ظهرت لها امرأة مسنة تحدثه ،كانت تبدو لها أنها في عجلة من أمرها، لقد عرفتها إنها الخالة حليمة العوراء ، لم تشأ أن تخرج إليهما لتستفسر منه عن الأمر فقط حدثت أمها التي أخبرتها أنها امرأة سيئة وكثيرا ما دفعها عمها لتحاول أن تخرب بيتها، بهتت وأحست بتمزق خيوط الأحلام الجميلة التي لطالما نسجتها بقلب مفعم بالأمل لتجدها فجأة تتبخر، أسرعت قبله إلى غرفتها واكتشفت أن ما أخفاه عنها في الصباح هي الوثائق التي تثبت ملكيتها للمنزل، وفور وصوله أظهرتها له ، وقف متلبدا بخيمة من الخيبة يتمتم وكأنه يكلم نفسه من خلالها، بحث عن طريقة التكفير عن خطئه عن طريق البوح ولكنه تأكد أنه يواجه فشل مشروع مؤامرة في منزل يحصن نفسه بأدعية ساكنيه ، نظرت إليه نظرة حادة لم يصمد أمامها ثم صاحت في وجهه صيحة قوة لنصرة الحق  فانهار أمام امتحان الزمن، لم يغير شعورها نحوه اعترافه بأنه متواطئ مع عمها لنزع ملكيتها للمنزل في مقابل حصوله على مبلغ مالي كبير، لم يتبدل إحساسها تجاهه بعدما أبدى ندما شديدا وأسفا عميقا، لم تتأثر لمحاولاته تجديد الذكريات ولا لبراعته في رسم اللوحات الخالدة بل رأتها مجرد أطياف باهتة لم يعد لها ملامح في نظرها ولا معنى في نفسها ولن يكون لها وجود في قلبها .

مرت عليها الأيام متشابهة بعد عودتها نهائيا إلى منزل والدتها، عادت إلى نمط الحياة الريفي حيث نشأت واعتادت ،وانشغلت أكثر برعاية أمها والاعتناء بشؤونها بعد أن اشتد عليها المرض وألزمها الفراش، أثقلت أعباء الحياة كاهلها بعدما انقطع عنهما أي مصدر للدخل،اضطرت للعمل صابرة في المزارع المجاورة، كان الطريق إليها طويلا ووعرا والعودة منها مساءا شاقة .. وأكثر خطورة، لقد أصبح فهمها للحياة محصورا في مقياس ما تعنيه من ضرورات العيش، وكم كانت سعادتها في تلك الأمسية التي حصلت فيها على بعض المال لأنها عادت حاملة الدواء لأمها ، دخلت عليها متهللة فوجدتها قد نامت نومتها الأبدية على نفس سريرها القديم الوحيد الباقي من أثاثها الذي تمسكت به لأنه الشاهد على أحلى لحظات حياتها وأسعدها، لقد رحلت عنها بهدوء، مالت عليها وقبلت جبهتها قبلة طويلة أشعرتها أن روحها الهائمة تحلق على المنزل بقوة غيابها وتلهمها الإصرار على صنع حياة هي سيدتها .

                                ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصتان خاصتان لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com