سمك وغسق وأدب ..قصة قصيرة للمغربي رشيد سكري

سمك وغسق وأدب ..قصة قصيرة للمغربي رشيد سكري

آخر تحديث : الثلاثاء 10 مايو 2022 - 11:37 مساءً

قصة قصيرة 

                                  سمك … وغـَسق … وأدب

                                                                                   

Screenshot 2021 01 17 at 15.49.18 e1610898713403 - قريش

رشيد سكري

كاتب مغربي

  في غدو المساء ، حيث يلف غبش معتم أزقة ودروبا ضيقة . من بعيد تبدو ردهات صاعدة ونازلة ، وأضواء المدينة الهامسة ، البائحة ، المخفية ، لم تملأ ، بعد ، شقوقا وثلما ضائعة . هكذا كانت تنظر من الباب المطل على هذا السكون الممتد ، وبين تلابيبها طفلها الصغير يلملم أغراضه في همة الكبار ، ينقل خطوه خببا بين البيت والبيت . وبين صعود وهبوط  كان يثب ، كعصفور من الشرق ، أدراجا تآكلت بفعل رطوبة مالحة ، ومنفلتة إلى هذا المنزل الصغير .

  هذا الخط الفاصل ما بين مدينة وبحر ، يعرف حركة دؤوبا ، كنت أنظر إلى توهيمات وخيالات تؤوب في غسق ، تتهادى كعروس فوق هودج ، وتستقبل رذاذا وهديرا يأكله صمت ووحل . 

   ُقصب البامبو السامق لا يُسمع له صوت ، إلا وهو يلاعب الهواء المشمول بقطيرات الماء المالح ، صحت : 

ـ سمك … سمك … سمك …

كان هذا اللغط يأتيني بعيدا ملفوفا بالغموض الطفولي …

ـ سمك … وغسق … وعتمة … كانت تعرفني . من أين تأتي البصيرة ؟ 

  لازلت أتذكر سفري الأول مع شلة من الصغار ، يدبدبون على شفاههم أغان تشبه ندى المطر . وكان المعلم الأول قد أصر على رحيل في غسق قبيل الفجر الوضئ  … 

  على رمال ذهبية مبلولة ، تسير أقدامنا الصغيرة  ومصحوبة بهدير أمواج رغواءَ ، تقذف زبدا أبيض . تصل إليه أقدامنا الصغيرة ، فيبعث فينا دهشة اللقاء الأول . كانت هذه الرحلة استكشافية لثغور إسبانية منسية على ضفاف هذا السكون المترامي في كل صوب … سرنا حتى انقشع ضوء النهار ، فعن على وجيهاتنا الغابشة رذاذ مالح … 

   كان المبنى يهيم وسط أمواج البحر، ومن الأعلى يظهر حراس من الإسمنت المسلح ، يحملون بنادقهم العملاقة ، يشقون بها عنان السماء ، وينفخ الريح في بنودها الكبيرة . كانوا يربطون اليابسة باليابسة بحبال عملاقة ، تمر فوق المدينة الصغيرة الهادئة . أسهب معلمنا بفم أثرم بالشرح والتفسير لما كان يفعله جنود الإسبان في هذا الثغر المنسي . ولأول مرة سمعت بخوان خيمينيط العسكري ، الذي كان يشتري ، بثمن بخس ، رخويات من عرق جبين بؤساء معدومين ، ويطير بها في حاويات كهربائية فوق هذه الأسلاك ، والحبال الممتدة على طول المحيط الهادر.   

  خيمينيط حفرته الأقدار في أذهاننا الصغيرة ، ونُحت له تمثال من البرونز على مشارف المدينة زمنا طويلا ، إلى أن جرفته ، ذات شتاء ، سيول عارمة بعدما جهز المكان بوسائل ومعدات عصرية ، كنا نراقبها ، بعيون صغيرة ، وهي تنمو يوما على صدر يوم . في ذاكرتي هذه الرحلة الجهمية ، اقترنت اقترانا دهريا بقصيدة مطولة ، لشاعر العراق الكبير ” معروف الرصافي ” ، حينما طلب منا الأستاذ استظهارها كاملة غير منقوصة الجوانب ، مشمولة بمعان خاصة في الرأفة والرحمة ، ومد يد المساعدة لكل من يحتاج إليها . فلما فطن الأستاذ بالعياء قد أخذ منا مأخذا وبيلا ، وأثقل كياننا الصغير من طول الرحلة على شط البحر ، أجَّل الاستظهار للأيام القادمة … فعمَّ الحبورُ والابتهاج قلوبنا وأفئدتنا ؛ فكنا نتعانق من شدة الفرح والسعادة .

   مطلع هذه القصيدة الذائعة الصيت : 

                      لقيتها ليتني ما كنت ألقاها     تمشي وقد أثقل الإملاقُ ممشاهـا           

                     أثوابها رثة والرجل حافية     والدمع تذرفه في الخد عينــــاهـا

  فعدنا أدراجنا كما تعود الطيور ، وتؤوب إلى أعشاشها … وإلى بطاحها … ننتظر القادم السعيد ، فكانت الصورة التي ارتسمت في ذهني ماثلة في متخيل لا أدركه … إنها المرأة التي نهشها الفقر ، ونشر غسيلها الشاعر .  

القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com