قصـة قصـيرة دعوتـك يــــارب
صبحة بغورة
كاتبة من الجزائر
” الموت شـيء مهم وموضوع شيق .. ويهيأ لي أن التحدث عن الموت هو المدخل الوحيد للوصول إلى قيمة الحياة .” المفكر الفرنسي / أندريه مالرو
تقطن سكينة هي وعائلتها خارج المدينة وسط ريف عذري الفت جباله وأحبت سهوله الخضراء الممتدة وأنست أوديته المنسابة تمنح الحياة ، اعتادت أن تصعد الجبال كل صباح لتجمع بعض الأعشاب البرية وخاصة لبان الصنوبر لتصنع منها دواء تبيعه لأهل المدينة فيه شفاء كبير من أمراض موسم الشتاء ، تقاسمت وزوجها الاهتمام بتربية الأبقار والنحل والدواجن ، كانا سعيدين بحياتهما رفقة طفليهما الصغيرين اللذين أعتادا اللهو في الغابة القريبة من منزلهما ، إنها عائلة قانعة بما بين يديها ولكنها تؤمن بضرورة التغيير للتقدم نحو الأفضل ولتحسين أسلوب حياتهم ، كانت أسرة متميزة بمرونتها في علاقاتها مع الآخرين وبقدر نجاحهم في الحياة كانوا يرون أنفسهم بشكل صحيح .
وذات يوم اشتدت على سكينة ألام في منطقة العنق والحلقوم راجعت الطبيب الأخصائي في أمراض الأذن والأنف والحنجرة ولدهشتها الشديدة ودهشة زوجها أخبرها الطبيب أنها مصابة بمرض السرطان ولم يكن عمرها حينها يتجاوز 25 ربيعا ،فجأة ينقطع الماضي الجميل ومن دون مقدمات يهب عليهم الحاضر المفجع لينقلب فيه كل شيء رأسا على عقب وتموت فيه ابتسامتها وابتسامات من حولها لنفس التقاسيم ونفس الجسد لكنه أصبح حطاما ، هل هذا تكفيرا عن الذنوب كما يقولون أو هذا عقاب لذنوب لم تقترف بعد، هاجمها المرض الخبيث فلفها الحزن وكبلها الألم لفترة انتظار وبحث و ترقب وعودة إلى حقيقة لا مفر منها، أفاقوا بسرعة لمشاعر الحب العميقة التي تجمع بين العائلة ولروح التفاؤل الذي يملأ جوانحهم ، ولكن اعترت سكينة موجة أخرى من الآم الشديدة وكان لزاما إلحاقها بالمستشفى حيث أقر الطبيب المعالج ضرورة الشروع عاجلا في العلاج المكثف بعدما اتضح أن المرض قد انتشر في الغدة الدرقية والأوردة والشرايين من حولها.
قضت سكينة أيامها بالمستشفى تتحسس جسدها المريض وتتلمس في شجاعة طريق الأمل والخلاص، فكرت وتأملت وأحست واتعظت ، تمسك قلبها بالإيمان وبالأيادي الرحيمة التي امتدت إليها ووقفت إلى جانبها وبإرادتها القوية لتتمتع بفرصة أخرى تمنحها لذاتها من أجل تحقيق الحياة الأفضل التي تحلم بها لابنيها ،غلبتها الدموع حين احتضنت عائلتها الصغيرة في نهاية زيارتهم لها ،ابتعدت الوشوشة وتبخرت الأصوات وحاولت أن تستسلم للنوم ولكن شعور غامض يتسلل إليها من حولها ويغمرها شيئا فشيئا تنفست بعمق ،أرادت أن تسحب يدها فوجدتها مكبلة بإبر مغروسة وموصولة بأكياس الدواء الكيميائي، حدقت في ذلك السرير الذي أمامها وقد أصبح خاليا ، جفناها تقاومان الضياء الذي تسلل إلى الغرفة حتى غمرها معلنا صباح يوم جديد وهي ما تزال غير قادرة على استيعاب الأشياء من حولها فهي شبه مخدرة، أرادت ترتيب خصلاتها المتطايرة فذعرت لما تشابكت أناملها بالشعر المتساقط بكثافة، وفي حين كان المرض ينهكها علمت سكينة أنها حامل ، انه حملها الثالث الذي يدفعها الآن للتمسك أكثر بالحياة وللبقاء من أجل أبنائها الذين ملآ حياتها حبا وفرحا هذا الشعور جعلها تتقرب إلى الله الذي منحها هذا الطفل الذي ينمو بأحشائها في ظروف تخشى فيها الموت الذي سيشيقه وحيدا في الحياة بدون أم ترعاه ، دعت سكينة الله كثيرا أن تعيش من أجل إسعاد طفلها ، ظلت ابتسامتها الخفيفة تلازمها كظل فراشة ويدها ممسكة بكتاب الله عز وجل لا يفارقها ،وزاد تعلقها ببحر كتاب الله كلما غاصت في أعماقه وتمتعت بشواطئه فمنه وجدت ما يزيل الحجب ويغسل الصدور، وبه كانت تشعر أنه سيرسم لها نهاية لليلها الطويل، انفلتت الدمعات الناعمة من عيونها الذابلة مثلما تنفلت اللحظة من ألم الموت، لم يعد الموت مؤلما وقاسي القلب بقدر ما صار مساحة بيضاء تتفتح على أجمل الاحتمالات، فالتطرف في التصور ينتج فزاعة قد لا تكون حقيقية ، حضر زوجها لزيارتها وكما اعتاد حاول جاهدا أن ينحت معنى الأمل الجميل في أعماق روحها، ويدعوها للانغماس في التأمل والتعلم من قوة الإيمان ، تأملته وحاولت مجاراته لخلق جو مفعم بالمؤانسة، وبابتسامة منها بدت باهتة مسحت ثنايا وجهها فتلاشت كحزمة ضوء خاطف ، لمس اضطرابها البادي في كل حركة من حركاتها ، كانت تعي مقدار خوفه وشفقته عليها التي بلغت حد الدمع الخجول في عينيه عندما لمس الحقيقة المرة في معاناتها الصامتة ، استرخى كفها بين راحتيه وهو يساعدها على النهوض ،
وبينما كانت الآلام تتكالب عليها وتتقاطر حبات العرق باردة على جسدها الوهن الهزيل أبلغهم الطبيب ضرورة إجراء عملية جراحية للغدة الدرقية لإزالة 44 عقدة ليمفاوية من عنقها ، انتاب سكينة شعورا رهيبا بالخوف ،خشيت أن يكون مصيرها كمصير معظم من سبقوها إلى الموت ، بقيت تنتظر الموعد كالسجين في الغرفة الخاصة للذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام ، أقبل والدا سكينة بالرغم من مرضهما في موعد إجراء العملية الجراحية التي جرت بنجاح ، قدرت سكينة صعوبة موقف زوجها بينها وبين رعايته لوالديها المسنين فقررت عدم البقاء في المستشفي والخروج منها في أقرب وقت ،أرادت أن تصنع حدثا يخرجها من عزلتها ويكون لها متنفسا وكان لها ما أرادت لتعود إلى حضن بيئتها ، إلى ريفها الجميل ، ذهبت إلى حيث عشقت الحياة ، انطلقت في الهواء الطلق تمرح كطفلة صغيرة ولدت من جديد ، أنجبت طفلة في كامل صحتها، ساعدها إيمانها على قهر أخطر الأمراض وأشرسها وكانت كلماتها “يـــــارب” خير دواء.
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة