مظفر النوّاب في ذاكرة أريتريا

مظفر النوّاب في ذاكرة أريتريا

آخر تحديث : الأحد 12 يونيو 2022 - 11:43 مساءً

عبدالجليل الشيخ 

       أسدل الستار على حياة شاعر بعد سنوات من الرحيل و الترحال بين المنافي بسبب قصائده الثورية 

اللاذعة.هو الشاعر الشعبي مظفر عبد المجيد النوّاب، المولود في العاصمة العراقية بغداد 1934م.        و ترعرع و درس فيها. التحق بالحزب الشيوعي العراقي مبكراً. و عمل مفتشًا في وزارة التربية والتعليم بعد التخرج من كلية الداب بجامعة بغداد. تعرض للاعتقال و السجن بعد اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين  في العراق. و اتخذ من مواقفه وآرائه وانتمائه إلى اليسار وتجاربه الحياتية وميوله الثورية، منصة لإطلاق تجربته الشعرية، بجناحيها الفصيح والشعبي. مما ترتب أن يكون طريداً في العواصم العربية بيروت، و دمشق، طرابلس الغرب، اريتريا مروراً  بالخرطوم و عدن، و مدن أوربية أخرى. و أستقر به المقام في امارة الشارقة بعد اصابته بالشلل الرعاشي في عام 2005م. حيث وافاه الأجل ظهر يوم الجمعة 20 مايو 2022م في مستشفى الجامعة بالشارقة. و نُقل جثمانه الى العراق حيث طواه الثرى في النجف.  

muzaffar alnuab02 - قريش
مظفر النواب

هذه حياته رحيل و ارتحال و الأمة العربية في مفترق الطرق:”الوطن الآن على مفترق الطرقات/ وأقصد كل الوطن العربي/ فإما وطن واحد/ أو وطن أشلاء”. و زمنياً هي مراحل الثورات العربية ضد دول الاحتلال، و التحولات السياسية العربية بعد الاستقلال التي شابها تبدل المواقف و التنازل عن المبادئ عند البعض. و من ثمّ الحزن:” مو حزن لكن حزين/ مثل ما تنقطع جوّا المطر… شدّة ياسمين/ مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق.. من تمضي السنين”.

mohamed madani - قريش
.. محمد مدني ..شاعر من اريتريا

اريتريا احدى المحطات، حيث نام على أرضها و التحف السماء ما بين عامي 1970/1971م. و تحدّث عن تجربته فيها في حوار منشور في موقع جدّلية Jadaliyya.com حيث أمضى فيها أطول فترة مقارنة لمناطق التحرر التي زارها:” أطول فترة كانت مع الإرتريين. ليس القصد حمل السلاح معهم. فهم لديهم من يقاتل ولا يشكون من نقص عددي. الهدف هو دراسة التجربة ومعرفة أبعادها والتقاطعات الدولية لكل تجربة. وكذلك التعرف على الإشكاليات ومقارنتها مع الكفاح المسلح في جنوب العراق، مثلاً، أو الثورة الفلسطينية. بالإضافة إلى البعد السياسي والنضالي “. ذهب الى اريتريا حيث فوانيس الفرح بانتظار مولد الحرية:” يهزون فوانيس الفرح الوحشي لماعزة/ تلد الآن/ و مدرسة الأطفال على التل/ وفوق السبورة حرف عربي/ مخزن طلقات/ أعطاني الأطفال رسوما/ لمراع وقرى وطفولات مزقها الأحباش/ فأين سأعرضها وأنا لا املك غفوة عين/والأطفال كثرن على قدمي/ حررني السير المتواصل في الشمس السوداء/ أعطاني السهل المفتوح غناء الثور/ و كنت كأشجار الصمغ لهذا الفرح البحري”. 

لقد منحته اريتريا الفرح و الغوص في جماليات الطبيعية على حد قوله:”هناك بعد جمالي بالنسبة لي أيضاً. كنت أفرح جداًَعند الذهاب إلى هذه المناطق. أولاً، تلتقي مع الطبيعة وجهاً لوجه. وتلتقي معها وأنت على حافة الخطر لأنك معرض للقصف في أي لحظة من قبل قوات هيلا سيلاسي مثلاً. كانت هناك دوريات تمر ومعك كلاشنكوف وعدد من الثوار. وجودك على حافة الخطر يجعل الجسم مثل جهاز رادار تختلف استقبالاته. دستيوفسكي يتحدث عن هذا بشكل جميل. يتعرض لحكم الإعدام ولكن قبل دقائق من تنفيذه جاء العفو فيتحدث عن حسه بالحياة في تلك اللحظة. وأنا عشتها في إريتريا لأن الخطر كان ممكناً في أي لحظة وهناك طائرات ودوريات. فتشعر بوجود حوار مع الأشجار والصخور و مع كل شيء. حوار حقيقي وليس مجازاً. تشعر بأحاسيس كل ما هو حولك :”لسعتني النار/ وسافرت إلى الغابات / ظبي ذبح الآن / وللنبع عصافير / نقطة ضوء حرقتني في الفخذ اليسرى/ ملت../ فضخ الكون عصافير ملونة/ صعدت على سلم زقزقة/ فاهتز الشجر الموغر بالتمر الهندي”. كل هذا عنده حس ويشكل نسيجاً حياتياً واحداً وأنت جزء منه. ليس هذا بالشيء القليل. إن تجربة من هذا النوع تعطيك الشمول الذي يكون عند الصوفية الكبار مثل ابن عربي والحلاج ورابعة. أنا أعتقد بأن ما لم يكتب عنهم هو أنهم بالتأكيد شعروا أنهم جزء من هذا النسيج الحي الكبير الذي هو الحياة، أو الكون. هذا أخطر ما في التجربة الصوفية ولم تتم الإشارة إليه إلى الآن.:” و فقدتك حين رجعت من الرؤيا،/ كان لساني أصغر من ألف مبيض للسوسن،/ والليمون./ وطيور السندس تجتاز الصمت/ وينفش الريش الأخضر في ليل عيوني/ فاجأني الصحو المتفجر/ حاصرني فقر الألوان”. و من ثمّ ينحاز للثورة أرضاً و شعباً مهما تكالبت عليها الظروف حيث لا يتقوس ظهر الثورة إلا يصبح قوسا:” و تصطف السفن السود على المرسى/ لا يتقوس ظهر الثورة إلا يصبح قوسا/أعرف بين جنودك عبد اللّه/ وآدم../وأعرف موسى يا بلد الثورة ../ و الأشجار..”.

هذا الانحياز للشعب و ليس للقيادة اللاجديرة حسب التوصيف الذي أشار اليه في حوار منشور على موقع جدّلية الاليكتروني:” إن تمكن بعض القيادات غير الجديرة من قيادة العمل جاء بسبب الوضع المادي. هناك إسناد من دول أجنبية، أمريكا وغيرها، لسبب ما. و هذا يمكنهم من الحركة أكثر من آخرين لديهم تاريخ جيد و مشرف، ولكن ليست لديهم إمكانية. ثم القيادي النزيه والجيد ليس مستعداً لأن يساوم و«يمسح جوخ». أما الآخرون فمستعدون لأي شيء “. 

تمضي الأيام و يكون شاهداً على حرب الأشقاء بسبب مفهوم القيادة، و القيادي اللا جدير منذ الانشقاق الى فصيلين:”أذكر مرة كنت أزور إحدى حركات التحرر وفيها قيادات متعددة. كنت أريد أن أطلع على تجربة فصيل من فصائلهم”. فكأنت الصدمة أن يجد كل شيء للبيع من الضمير الى الوطن حتى القتال بلا معنى:”أنوح فإن الأخبار تجيء الآن/ بأنك تقتتلين بلا معنى/ حوطت عليك ضلوع اللوعة يا باكر/ إن رياح قوادات تتجمع من كل الدنيا/ وقيادات باعتك”. و الثمن انكسارات متوالية و خسارة الأرض و الانسان في معركة تحرير مصوّع الأولى ، بسبب الخلافات بين الأشقاء ، و تحول الموقف السوفيتي الى فتات الخبز. و ابتلاع بحيرة سالينا الملحية العديد من الرفاق:” يا للنار تلقي نورها السحري في وجه المعذبين/إنهم ينتزعون ذلك الروح العنيد في المرساة /حتى تستطيل العضلات في وجوههم/وينصتون للمحيط في قراره الرهيب/لقد دفنا نصف من نحبهم في جزر الملح/ واقعينا على الشاطئ كالفقمة في صمت/وكانت سفن الأغراب تلقي بفتات الخبز”.

كان مؤمناً بالقضية الإريترية أرضاً و شعباً و الاختلاف مع القيادة التي سارات من العرب الى اسرائبل:

“حدث التغيير في هذا البلد ، كان لصالح فئات أخرى ولم يحدث شيء. أنا أتحدث عن أرتريا وهو وضع غير جيد. جاء شخص لم يكن مرشحاً إطلاقاً ولديه علاقات مع إسرائيل أيضاً”. و من ثمّ أصبح الأمر لوثة في القلب:” و أنت بزاوية أخرى/ وتمد يديك / تمدهما تخترق الساعات/ وتخترق الليل/ وجيوش السفن الأخرى/لوثت القلب “.

يُذكر للنوّاب شهادته بشاعرية محمد محمود الشيخ(مدتي)،صاحب ديوان:”نافذة لا تغري الشمس”، المولود في مدينة”حلحل” 1955م. حين مشاركته في فعاليات اتحاد الأدباء و الكتّاب السودانيين 1978م. و كان محمد مدني ضمن مجموعة من الشبان الشعراء الواعدين وكلهم من السودان الا هو من أريتريا – قدمهم أحد الأدباء الى الشاعر(مظفر النوّاب) و طلب منه أن يستمع اليهم ويقول رأيه. وبالفعل أستمع اليهم واحدا واحدا. وقال فى الختام:”كلكم شُعراء و أشعركم هذا”الإريتري”،–  وأشـار الى محمد مدنى “.

عاد النوّاب الى العراق في المركب العتيق، تاركاً بصماته في المنافي، و اريتريا حرة تفرز العودة في الخد الرمادي:” ثم تطلق العصافير إلى بلادها/ ويرجع الأسرى الذين فحمتهم رحلة الليل/سوف يعود مركبي العتيق مثلهم/لكنني مدبق القميص بالدم البنفسجي/والصمغ الذي تفرزه العودة في الخد الرمادي لكل الذكريات”.

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com