د. فارس الخطاب
قد تبدو لقطات مشاركة رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ولقاءاته مع القيادات المتواجدة في مؤتمر جدة عالم افتراضي مقارنةً بعالم واقعي في بلاده التي تؤطرها قوىً متصارعة على إبقاء الفساد وتغييب الأمن والسيادة.
ولعل من تابع ظهور الكاظمي في جدة بهيئة الواثق من نفسه ومن قدراته القيادية على جعل العراق منصةٍ آمنة ومرنة يمكنها توفير كل الخدمات وتختصر الكثير من الطرق الاقتصادية والجيوسياسية لدول الخليج العربي والولايات المتحدة مقابل توفير مخارج لإزمات خانقة يعاني منها العراق وعلى رأسها أزمة الكهرباء التي عانى منها العراقيون طيلة عقدين من الزمن.
وما يجب التركيز عليه أيضاً خلال فعاليات قمة جدة هو حجم التناغم الإيجابي بين مصطفى الكاظمي ، رئيس مجلس الوزراء العراقي ، وبين جو بايدن ، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ؛ فقد عرض الكاظمي خدمات مفتوحة لواشنطن ، كما لم يطالبها بالإنسحاب من بلاده ، كما تطالب قوى سياسية ومليشياوية عراقية مرتبطة بإيران ، بل ركز بشكل واضح وعلني على ضرورة تطبيق بنود إتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة بين بغداد وواشنطن في شهر نوفمبر عام 2008م ، وهي تعني بشكل يبدو واضحاً أيضاً التلميح للقيادة الأمريكية بضرورة القيام بواجباتها بموجب هذه الإتفاقية لحماية نظام الحكم في العراق حين تعرضه لمحاولات إنقلابية ، في إشارة إلى تهديدات وعمليات قامت بها فصائل من الحشد الشعبي إستهدفت الكاظمي شخصياً.
إنّ مآزق البيت السياسي الشيعي في العراق ساهمت، وستساهم بشكل أوضح خلال الفترة القصيرة المقبلة في إسقاط كل أو معظم النماذج التي تسيّدت المشهد السياسي في العراق منذ عام 2003م ، وهو أمر تحسبه الإدارة الأمريكية بدقة كبيرة ، حتى أنها تتدخل الآن بكل مجريات الأمور بين الفصائل والكتل العراقية لتقود أوضاع العراق إلى مخارج تريدها
بإعتقاد المراقبين والمهتمين بالشأن العراقي فإن مؤتمر جدة كان لصالح إعادة العراق بشخص مصطفى الكاظمي للحضن الأمريكي الرسمي، وإلى هذا يذهب مايكل نايتس، زميل في معهد واشنطن الذي يدرس الشؤون العسكرية والأمنية في العراق لصحيفة ذا ناشيونال: “إذا كان رئيس وزراء آخر يقود، فمن غير المرجح أن يتلقى العراق دعوة إلى جدة “بل يذهب بعض المراقبين إلى القول “إن قمة زعماء المنطقة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن تمنح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي فرصة لعرض أوراق اعتماده لمواصلة قيادة البلاد وتعزيز دورها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط.
إن مآلات الأمور في العراق تسير من سيء إلى أسوأ، والهوة بين قطبي التنظيمات الشيعية السياسية، مقتدى الصدر ورئيس إئتلاف دولة القانون، نوري المالكي، تزداد إتساعاً، وكانت آخر مسامير محاولات التوفيق بين الطرفين إنتهت بالصلاة الموحدة التي دعا لها الصدر في 15-07-2022 ثم التسريبات الصوتية والصورية لتهديدات وإساءات من قبل نوري المالكي نحو مقتدى الصدر، والتي قوبلت بهجوم لفظي شديد جداً أطلقه زعيم التيار الصدري.
إن مآزق البيت السياسي الشيعي في العراق ساهمت، وستساهم بشكل أوضح خلال الفترة القصيرة المقبلة في إسقاط كل أو معظم النماذج التي تسيّدت المشهد السياسي في العراق منذ عام 2003م ، وهو أمر تحسبه الإدارة الأمريكية بدقة كبيرة ، حتى أنها تتدخل الآن بكل مجريات الأمور بين الفصائل والكتل العراقية لتقود أوضاع العراق إلى مخارج تريدها ليس فيها أحد من الذين قادوا البلاد إلى غياهب جب الفقر والجهل والأمراض والظلم والفساد ، وهي بمجملها حُسبت على واشنطن وفق منظور جماهيري عراقي وعربي بإعتبار أن هذه القوى تم اختيارها من قبل الإدارة الأمريكية قبل غزو وإحتلال العراق .
إن الطرف الذي وضعت على عاتقه كل مشاكل العراق السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها من مظاهر الفشل والفساد وفتح البلاد لنفوذ إيراني ضاقت به نفوس العراقيين حد الكفر به ، هو ما أصطلح على تسميته بالبيت الشيعي العراقي ، ولإن المثل القائل ” من أمِنَ العقاب أساء الأدب” فقد إقترفت القوى المنضوية تحت هذا التوصيف كل أنواع الجرائم والإنتهاكات وزرع الفتنة وتكريس الطائفية وتشويه مفهوم الهوية الوطنية والسيادة ، لا بل تعاملوا مع شعب العراق بكل طوائفه وأعراقه على أنهم شعب فاقد للإحساس والقدرة على تقويض العملية السياسية التي يحتمون بظلالها ، حتى جاءت إنتفاضة تشرين 2019م التي وضعتهم والقوى الإقليمية والدولية أمام حقيقة مرعبة ومربكة أفضت في بدايتها إلى إسقاط حكومة عادل عبد المهدي لكن تداعياتها إتخذت مسارات إقتضت أن تنظر من خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الخليج العربي إلى ثورة العراقيين على أنها بداية (عودة الوعي) وهي نُذُر شرٍ خاصة بالمشروع الأمريكي – البريطاني في العراق.
الأطراف التي لم تعي الدروس، دروس تشرين، هي قوى البيت الشيعي، وإيران، فقد إستمرت إيران بنفس أساليب تعميق مشروعها لإيرنة القرار العراقي السياسي والإقتصادي والجغرافي وغيرها ، وعدم إستيعاب الدروس المستنبطة من ثورة تشرين هو بالتحديد ما جعل موضوع مستقبل العراق موضوعاً رئيساً على أجندة القوى المعنية بتعديل وسائل تنفيذ المشروع الأمريكي في العراق ، كما ضاعفت تطورات الموقف الروسي والحرب على أوكرانيا ولجوءه إلى سياسة المحاور لمواجهة الضغوط الأمريكية ، ضاعفت من رغبة واشنطن ومعظم دول الخليج العربي والمملكة الأردنية ومصر لتحييد العراق عن الإنضمام لإي محور بضغوط إيرانية ، وهذا بالطبع لن يتحقق في ظل قوى تأتمر إلى حدٍ كبير بالقيادة الإيرانية.
التسريبات التي طفت على سطح التفاعلات السياسية وربما الأمنية في العراق، والتي رفعت من مستوى المواجهة بين ، زعيم دولة القانون ، نوري المالكي ، وزعيم التيار الصدري ، مقتدى الصدر ، كشفت عن قضايا سياسية حساسة وخطيرة وجدت خطرها وأقربها إلى روح هذا المقال ، قول المالكي إن “العراق مقبل على حرب طاحنة لا يخرج منها أحد إلا في حال إسقاط مشروع مقتدى الصدر، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، ورئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، فإذا أسقطنا مشروعهم نجا العراق، وفي حال عدم استطاعتنا ذلك فإن العراق سيدخل في الدائرة الحمراء”.
إننا أمام مشهدين متناقضين تماماً، الأول، رئيس مجلس وزراء لتصريف الأعمال، يتصرف وكأنه قد ضمن تماماً دورة رئاسية جديدة، لا بل يتصرف معه رئيس الولايات المتحدة وكأنه الزعيم العراقي الشرعي المضمون، وكذا فعل بقية قادة الدول المشاركة في قمة جدة ، كما أن مصطفى الكاظمي من جهته أيضاً بدا وكأنه واثق من دعم أمريكي مطلق لتوليه فترة رئاسية وبتزكية خليجية عربية واضحة ، وهنا ستظهر قدرات كل الأطراف لتوجيه تطورات الأحداث في العراق إما لصالح المشروع الأمريكي (المعدل) أو المشروع الإيراني المتشبث بالعراق بكل ما يملك من أدوات القوة والقدرة.
عذراً التعليقات مغلقة