الدكتور محمد عياش
كاتب فلسطيني
قال الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين لياسر عرفات زعيم حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة فيما بعد : ” ادخل لفلسطين بأية وسيلة ، حتى لو أبرمت اتفاق مع الكيان الصهيوني ، واستمر من الداخل حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني ” . هذه النصيحة أسديت في السبعينيات من القرن الماضي ؛ لكن وبكل احترام تم رفضها بالمطلق ، لأن الجبهات العربية مفتوحة والقضية الفلسطينية شكلت أولوية عند بعض الدول كـ سوريا والعراق …
بالتوازي مع هذه النصيحة ما قاله أول رئيس وزراء صهيوني بن غوريون حول وجهة نظره لاحتلال فلسطين ما فاه به :” هل أقبل صفقة صعبة وأحصل على دولة أم أتشبت بقضية وأبقى بلا دولة ” من هنا تشاءمت من عبارة ( قضية ) ، باعتبار كل الحروب وأشكال الصراع قبل وبعد اتفاق السلام لم تجن شيئا ً بسبب التشبت بالقضية أكثر من محاولة قيام دولة فلسطينية حتى لو على البحر الميت .
بعد خروج القيادة الفلسطينية وبعض الفصائل من الأردن 1970 – 1971 والتوجه للبنان وهذا بعد خسارة الجبهة المصرية باحتلال سيناء والسورية باحتلال هضبة الجولان 1967 ؛ إلى عام 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الأخرى من لبنان وتوجه رئيسها إلى تونس ، وبذلك أسدل الستار على كافة الجبهات ولم يبق سوى الجبهة الداخلية ، وأذكر أن صحافيا ً سأل عرفات بعد الخروج من لبنان إلى أين وجهتكم فقال بطريقة فيها من الدعابة والمزاح إلى فلسطين .
نصيحة بومدين لم تغب عن عرفات ولا لحظة ، كثيرا ً ما تسرب أو ما أدلى به المقرّبون منه أنه مع مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع شخصيات إسرائيلية فاعلة حول القبول بـ «إسرائيل» في سبيل الدخول كما أشرنا إلى داخل فلسطين .
إن اندلاع الانتفاضة الأولى والتي سميت وقتذاك بـ «انتفاضة الحجارة» عام 1987 والتي أسهمت كل الإسهام بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني ، وبعدها تسنى للقيادة الفلسطينية بالدخول بمؤتمر السلام بالعاصمة الإسبانية مدريد عام 1991 وبالتالي هي المخولة بالتوقيع على كل الاتفاقات التي ستبرم مع الكيان الصهيوني برعاية الولايات المتحدة الأمريكية الغير نزيهة لانكشافها فيما بعد وتحيزها الفاضح مع ما تراه «إسرائيل» وكيفية إدارة العملية الماكرة وتبنيها لسياسة التلاعب بالألفاظ وهدر الوقت والسماح لإسرائيل ببناء أكبر عدد من المستوطنات لتفويت الفرصة على الفلسطينيين لقيام دولتهم وعاصمتها القدس الشريف .
تم التوقيع على اتفاق أسلو سبتمبر/ أيلول 13 / 9 / 1991 بموجبه دخلت منظمة التحرير إلى الأراضي الفلسطينية وتحقق بذلك ما كان يصبو إليه الرئيس الجزائري الراحل بومدين ، وبدأت ساعة الصفر الداخلية ، واتخذت السلطة الفلسطينية مدينة رام الله مقرا لها ، ليكون الإنسان الفلسطيني أمام امتحان كبير ، لاسيما القدرة على الإدارة والانخراط في المجتمع الدولي بعيدا ً عن العنف وذلك ردا ً على الدعاية الصهيونية بأن الفلسطيني ولد ليخرب ويهدم أسس الحياة .
غالبية البنود بالاتفاق تم تنفيذها على الجانب الفلسطيني تقريبا ً ، وزاد في الطين ماءً اتفاق دايتون الذي كبل الضفة الغربية وحرمها من السلاح وأبقى الباب مفتوحا ً لإسرائيل لملاحقة كل من يعارض الاتفاق أو الاستمرار بالكفاح ضد الوجود الصهيوني برمته في فلسطين ، أما فيما يتعلق بالاستحقاقات التي تخص إسرائيل ، فتمت الإجابة عليها باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين 1993 ، والتنصل كليا ً من الاتفاق إلا من التنسيق الأمني الذي أضر كثيرا ً في الحياة اليومية للشعب الفلسطيني وللأسف الشديد لا يزال معمولا ً به حتى اللحظة .
اغتيال رابين مؤشرا ً واضحا ً ومحرجا ً للمشروع الصهيوني الذي رأى باغتياله رسالة واضحة بأن المسار التفاوضي مع الفلسطينيين لم يسير بالشكل المطلوب ، لأن رئيس الوزراء السابق والنافق اسحق شامير قال :” إن المفاوضات مع الفلسطينيين من أجل المفاوضات فقط ” . في إشارة للنيات الخبيثة والماكرة التي دأبت العصابات الصهيونية عليها ، وإغراق الفلسطينيين بالتفاصيل حتى يسأموا ويملوا وبالنهاية يتخلوا عن مطالبهم .
أثبتت التجارب والأجيال الفلسطينية المتعاقبة ، على التمسك بالحقوق المشروعة ، في إشارة لإرهاصات انتفاضة ثانية تكون أقوى من سابقتها لأن الإنسان الفلسطيني أصبح خبيرا ً بمكر ودهاء العدو الصهيوني ، وحذرا ً من كل حرف وكلمة يتفوه بها ، لذلك كانت القيادة الفلسطينية تسير وفق مشروعين الأول إثبات للعالم أن الشعب الفلسطيني قادر على إدارة نفسه بنفسه ومجاراة العالم بالقوانين ، وأنه ماض بقيام دولته ، والمشروع الثاني عينه على التصدي لمشروع تصفية القضية الفلسطينية وإخراجها كليا ً من دائرة المقاومة وإلصاق التهم بالإرهاب .
الحدث الأهم والذي تلقفته إسرائيل بشغف ، الإعلان عن قيام حركة التحرير الإسلامية ( حماس ) 1987 ، الذي بدا وكأنه الأوكسجين الذي تحتاجه دولة الاحتلال ، لضرب الفلسطينيين ببعض ، وإلغاء فكرة الممر الآمن بين قطاع غزة والضفة الغربية ، واللهاث وراء (الفلسطنة) أي القتال مع بعض كما أشرنا ، وللأسف تم الاقتتال وسال الدم الفلسطيني بالسلاح الفلسطيني .
اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي سميت “انتفاضة الأقصى” في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2000 احتجاجا على الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم المعارضة اليميني المتطرف آنذاك أرئيل شارون لباحة المسجد الأقصى بحماية زهاء ألفين من الجنود وحرس الحدود الإسرائيليين وبموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك. وكان ردّ الجنود المرابطين بنوايا تصعيد مبيّته في الحرم القدسي عنيفا ضد المحتجين على الزيارة، مما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين.
إن ما ميز انتفاضة الأقصى عن سابقتها ، بالقوة التي أبداها الشباب الفلسطيني ، والعسكرة التي أذهلت الكيان ، ورافق ذلك بالعمليات الاستشهادية الغير مسبوقة ، والتي أجبرت فيما بعد العدو الصهيوني للذهاب صاغرا ً للمبادرة العربية 2002 والتي صاغها ولي العهد السعودي وقتها الأمير عبدالله بن عبد العزيز في العاصمة اللبنانية بيروت ، والتي مفادها الموافقة على الاعتراف بدولتين تعيشان جنبا ً إلى جنب ، ولكن كعادتها إسرائيل تتهرب وتتنصل من كل الاتفاقيات والمعاهدات .
اتفاق أوسلو ، كان بمثابة بارومتر مقياس يمكن الاعتماد عليه للمستقبل ، والعمل بموجبه الاحتراف والعبقرية على مقارعة هذا العدو الذي لا يفهم إلا لغة القوة ، وهو أيضا ً مؤشر كبير للفلسطينيين لرأب الصدع في البيت الفلسطيني وتوحيد الصف والعمل على قلب رجل واحد وتغليب المصالح الشخصية الضيقة لصالح العام الفلسطيني ومراجعة للأخطاء والتعثرات وتثبيت الهدف الرئيس على تحرير كامل التراب الفلسطيني عاجلا ً غير آجلا ً .
عذراً التعليقات مغلقة