اللبيب بالاشارة يفهم.
قول حكيم
صحن سامراء والرموز المجهولة
د. توفيق التونجي
اللغة بصورة عامة مثلها مثل الكائن الحي وتمر بعملية ديناميكية ومستمرة ( تتغير زمنيا و مكانيا). اللغة المنطوقة تختلف من لغة الرموز والاشارات والايحائات و تعابير الوجه في لغة الجسد غير المنطوقة. وهي لغة تاخذ الحيز الاكبر عند تواصلنا مع الاخرين.صحن سامراء العراق (الصورة) نموذج لرموز تعود لحضارة وادي الرافدين. عمر الصحن اكثر من اربعة الاف من السنين. نرى فيه من الرموز الدينية والفلكية ي ما فسرها علماء الاثار لكن معناها الحقيقي يبقى مجهولا.
السمك رمز استخم من قبل المسيحين للاشارة الى سيدنا المسيح. بينما الصليب المعقوف الذي يتوسط الصحن يعتبر رمزا شرقيا قديما نجده في الحضارة الهندية وحضارات اخرى دليلا على الخصوبة والحظ و الاستمرارية وربما لتناسخ الارواح. الاشارة تدل على مركز الكون والشمس والخلود كذلك.
استخدم الشكل كذلك بصورة معكوسة كشعار بصورة صليب معقوف
من قبل النازية الهتلرية في المانيا في راياتهم. النصوص القديمة والرموز بقيت على ما كانت عليها كما وصلتنا من حضارات العراق القديم منقوشة على الحجر او على جدران المعابد او على شكل اختام اسطوانية من الاجر المحروق. كذلك هناك ارث انساني جاءنا من الحضارات الاخرى كالحضارة الفرعونية المصرية القديمة والهندية والصينية وحضارات شعوب ألامريكتين وحضارات الأمم الأخرى.
الاشارات والرموز في النصوص القديمة على العموم تحتاج إلى تفسير، وحتى إلى معرفة معاني للكلمات الميتة اذا صح التعبير والتي وما عادت تستعمل. هذه ظاهرة تتكرر في معظم لغات شعوب الدنيا. اي ان النص القديم في اي لغة كانت لا يفهم اليوم. اليوم حين نكون أمام كلمة لا نعرف او لسنا متأكدين من معانيها ولا نعرف احوال واماكن استعمالاتها ولا نعرف قصد الكاتب بها نحتاج
انذاك إلى قاموس او معجم لفك رموزها. ناهيك عن هذا وتلك كان الكاتب يكتب نصوصا في الماضي بصوة رموز سرية كي لا يمكن فهمها. الغريب اننا لن نكون متأكدين تماما من قصد الكاتب لوجود معاني مختلفة للكلمة الواحدة من ناحية ومن ناحية اخرى صعوبة تفسير المعنى المجازي والرمزي للكلمة. لكن ربما يسعفنا
السياق على فهم الجملة اي نفهم النص من سياقها. خاصة في اللغة العربية حيث تصل معاني مفردة واحدة إلى المئات احيانا. يبقى ان نعلم اننا نستخدم العديد من الكلمات ليست بمعناها الاصلية بل بمعنى مجازي او حتى صوري ايحائي. هذا بالنسبة للغة المكتوبة اما الاشارة والرمز والايحاء فحتى ان وجدت منقوشة على الحجر لا يمكن تفسيرها تماما. بل نرى ان الاثاريين يقومون بتفسير الرموز بناء على علومهم و معارفهم حول تلك الحضارات القديمة وانظمتهم العقائدية.
اللغة الصورية المجازية مهمة جدا لفهم ثقافات الشعوب . لغة الاشارات والرموز رغم عالميتها لكن فهم الاشارات يختلف من شعب الى اخر. هناك لغة اشارات عالمية يفهمها الجميع وبنفس المعنى كتلك المستخدمة في اشارات المرور مثلا. هنا لا اتطرق الى لغة الاشارات التي تستخدمها فاقدي النطق اي لغة الاخرس والابكم والاصم والاطرش . ان لغة الاشارات والرموز لها قواعدها الخاصة بها. البشر يستخدمون الاشارات دون وعي احيانا وهذا ما يجعل المتمرسين والاخصائين في التحقيقات الجنائية فك لغر تلك الاشارات المشفرة لمعرفه مدى صدق المتهم او الشاهد مثلا.
اشارة معينة عند شعب لا تفهم و تفسر بنفس المعنى
لدى شعب اخر. حتى بعض الجمل يمكن ان تفهم بصورة مغايرة لما يقصد بها المتكلم. اي نعني شيئ اخر حين نستخدم الكلمة. الغريب ان اللغتين الفارسية والتركية تستخدم العديد من المفردات من اللغة العربية. في التركية مثلا تكون الكلمة مطابقة لمعناها في العربية تماما في معظم الاحوال. اما في الفارسية فالكلمة العربية تاخذ معنى اخر مخالف لمعناه في العربية. تستخدم النسوة من الكورد والتوركمان ( استخدم الواو في الكلمتين لتسهيل النطق) في العراق في حديثهم اليومي عادة في العراق بقولهن جملة اعتراضية حيث ينهين حديثهن دائما بهذه الجملة:
– بلا معنى! باللغة الكوردية
– عيب اولماصن! باللغة التوركمانية.
تستخدم ذلك لافهام المخاطب اليه او السامع بان كلمات الجملة يجب ان تفهم بمعناه الاصلي وليس بمعنى ايحائي مغاير او مجازيا كان او صوريا وبذلك يحصل التباس وسوء فهم في التواصل. مثال على ذلك حين يتحدثن في كلتا اللغتين قائلات:
– _ اريد الكبيرة جدا!
يقلن بعدها مباشرة، بلا معنى او عيب اولماصن.
لكي لا يذهب المستمع بفكرة الى تفاسير اخرى للحديث
واحيانا تكون هذه الجملة بعينها ومع الاسف حافزا للظن بوجود معاني اخرى لما قالته المتحدثة.
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ).
كانت والدتي رحمها الله تقول دوما:
– ان كل ما تتفوه به المراة من كلمات يمكن تفسيرها بغير معناها الاصلي و يكون ذلك معيبا لها. او يمكن تفسيرها وفهمها بمعنى مغاير غير ما يقصد به.
الغريب ان الحديث بالعربية لا يفسر بعدة معاني رغم ان هناك كلمات قد تصل معانيها القاموسية إلى العشرات. لكننا احيانا نستخدم جملة اعتراضية:
-الله لا يجعلها غيبة.
للدلالة الى عدم وجود قصد في الحديث وعدم اعتبار الحديث غيبة ونميمة.
لكن الإشارة و الرمز مهمة جدا في الاعراف والثقافة البدوية وبين العشائر بصورة عامة. حيث أن اداب الحديث والجلوس والسلوك في المجالس وحتى الاكل له قواعده الخاصة به. وقد يجابه القادم من المدينة, الحضري صعوبات في فهم اللغة الرمزية الغير مكتوبة في المجتمع البدوي وفي القرى والارياف.
حدثني الوالد رحمة الله عليه ورضوانه وكان له مكاتب في بغداد، البصرة والسماوة وله أصدقاء عددة. روى لي كيف أن أحد الحاضرين ممن نزلوا ضيفا عند أحد الشيوخ من كبار القوم في مضيفه. وحين جاء وقت الغذاء جائوا بالأكل وبدأ الجالسين حول المائدة بالأكل. أراد الضيف ان ينبه شيخ العشيرة بوجود حبات من الرز عالقة على لحيته. فما كان من الشيخ الا وهاج وقام من مكانه غاضبا مندفعا إلى الخيمة المجاورة وبعد هنيئة سمع صوت انفجار وصلق ناري هز المضيف وبعد لحضات عاد الشيخ وجلس مجلسه ثم قال وهو يمرر اصابعه على لحيته.
– كان هناك بقايا من التمن على لحبتنا فازلناه.
اي انه قتل ابنته.
الحكاية ذات مغزى مهم في التواصل بين الثقافات المختلفة. رغم ان الضيف كان ملما باللغة العربية الا انه كان يجهل معاني الكلمات ومقاصدها في أعراف العشائر. ومن منا لا يعرف أصول شرب القهوة وهز الفنجان وحتى لفنجان القهوة اسماء متعددة وحسب مناسبة شربها. وكذلك عند شرب الشاي ووضع الملعقة الصغيرة في داخل قدح الشاي (الاستكان) او تركه في الخارج . انها لغة فريدة ولكل شعب لغته الخاصة
بعضها تفهم بالاشارات فقط.
كنت في احدى المرات احضر العاشوراء في احدى الحسينيات في منطقة حمزلي القريبة من كركوك قبل اكثر من خمسين عاما و حين كنا في جلستنا مستمعين الى الخطيب ونشرب الشاي فاذا برفيقي يضع الملعقة الصغيرة في جيبه. تساءلت عن سر سرقته للملعقة التي لا تساوي حتى عانة واحدة ( اربع فلوس) والكلمة من الهندية، قارئي الكريم. اجابني صديقي قائلا:
– انه نذر واذا تحقق ، انوي شراء درزن (١٢ ملعقة) هدية الى الحسينية.
نحن نتفاهم بالرموز والاشارات اكثر من تواصلنا عبر الحديث المنطوق. تاريخيا الكلام جاء متاخرا وكان الانسان الاول يستخدم الاصوات والاشارات في التفاهم. الشعب العراقي ليس باستثناء في استخدام الرموز والاشارات في الحديث اليومي. لكن الغريب في الامر باننا نستخدم الامثلة والحكم في كلامنا المنطوق من ناحية ومن ناحية اخرى نستخدم ضرب المثل بصورة كثيرة في حديثنا اليومي. مثلا نقول مثل ذاك الي راح للسوق ليشتري… ونكمل حديثنا او نقول:
مثل بالع الموس طالع…
امثلة اخرى كثيرة. كذلك نرى ان لكل لهجة من اللهجات العراقية امثلة خاصة بها فاذا كان المتحدث من الموصل يستخدم امثلة باللهجة المصلاوية لا يستخدمها البصراوي وكذا الدليمي وربما لا يفهمون القصد. ناهيك عن وجود اختلاف في استخدام الامثلة والحكم بين اللغات العراقية المختلفة (العربية، الكوردية، التوركمانية، السريانية، الارمنية…).
ماذا يعني مثلا (ضربني بوري) اي غشني. لا يمكن ترجمتها الى اللغات الاخرى. هناك مثلا تواصل عن طريق استعمال اليد والعين والراس والارجل وحتى الذراع بطوله. تلك الاشارات يفهمها العراقيون ولكن قد
تكون لها معاني اخرى بين الشعوب الاخرى. هناك كذلك بعض الاصوات لها دلالات عندهم كما في صوت ( جك) وتعني كلا و (هس) اي اسكت. اما الاشارة باليد فقد تكون لها معاني عديدة. كمن يعمل اشارة يعني به تخفيف او زيادة السرعة. او هز الكف بالكامل الى الجانبين مصحوبا بكلمة( هاي هاي ) وامور اخرى كثيرة حيث نصدر الاوامر للحيوانات باستخدم الاشارة والاصوات.
لا ريب ان التواصل بين ابناء الثقافات المتباينة المختلفة مهمة جدا في حياتنا المعاصرة وهي جزء من التعامل بين الدول وشعوبها وعدم معرفتها قد تسبب حرجا وسوء فهم. خاصة في التعاملات الدولية
والعلاقات السياسية والتجارية بين مختلف الشعوب. خذ مثلا اشارة قبضة اليد والابهام الى الاعلى وتحريك الكف الى الاعلى تعني الاشارة في معظم شعوب العالم بانها ايجابية وتشجيعية للاخر وتعني احسنت. تستخدم بكثرة حتى في لغة الانترنت المتداولة اليوم وفي الرسائل القصيرة النصية. اما في ايران مثلا فلهذه الاشارة معانى سلبية جنسية المقاصد. لكننا نرى بان استخدام الاشارة قد تعني النصر كما في اشارة ( ٧ ) المعروفة عالميا برفع اصبعين (علامة النصر ) والتي استخدمها السياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل.
استخدم الاشارة كذلك في اجتماعات مجالس الادارة المختلفة على اساس طلب المداخلة في نقاش موضوع معين. قبضة اليد المغلوقة المرفوعة استخدمت كذلك للدلالات السياسية الثورية ويستخدم القوميين الاتراك اصابع يدهم للدلالة على الذئب الرمادي وهي حركة قومية سلبية فاشية الأساليب والمقاصد. كما استخم الاشارة بالاصابع في الاشارة الى الشيطان ويستخدم الايطالين نفس الاشارة على شكل سباب حين يتخاصمون. كما نستخدم اليد للمصافحة والتحية العسكرية والسلام ولامر بتخفيف السرعة او ابطائها والطرد والترحيب والترغيب والتهديد وفي الدعاء
والصلاة وامور اخرى كثيرة لا تعد ولا تحصى. حيث يضع بعض الشعوب يدهم على صدورهم في موقع القلب حين يعزف سلامهم الوطني. اما في تركيا فاذا سالت عن ديانة احدهم لوضع يده على قلبه واجاب:
– الحمد لله
الجميل ان هناك شعوبا تعكس حركة معينة بحيث لا نفهم نحن ما يعنية اليونانيين حين يقولون:
– نعم
يهزون راسهم بطريقة نفهمها نحن عادة كاشارة رفض اي ( لا). اي يحركون راسهم الى الجانبين ويعنون بالموافقة وليس كما نحن تعودنا عليها حيث نعني بهز الراس الى الجانبين بالرفض.
لغة الاشارات والرموز ، لغة مستقلة لها قواعدها كاي لغة اخرى. يستخدم الشعب العراقي نسبة كبيرة من الاشارات في حديثه. تتراوح معاني الاشارات من سلبية الى ايجابية. كذلك هناك اشارات لغوية في الملبس وفي الزينة وحتى في وجبات الاكل والاحتفالات الدينية والزفاف والعزاء والطهور وما الى ذلك من عادات وتقاليد. اذ يترواح مراسيمها من مكان الى اخر. يمكن التعرف على الناس من ملبسهم كذلك وحتى من غطاء
الرأس اي العمامة المدنية والدينية والفيصلية والجراوية. كان العراقيون يعرفون مهنة الشخص من نوع العمامة التي يعتمرها. الشال او الكوفية الفلسطينية اصبحت رمزا ويعني لمن يتوشحهها انه من مؤيدي قضية الشعب الفلسطيني العادلة. طبعا تغير العالم في عصر العولمة وبدا الناس يغيرون في عاداتهم ويعتمرون اليوم ما ينتجه الغرب من قبعات وباشكال عددة.
العراقيون في فترة من الفترات كانوا يتركون شاربهم ينمو على شكل (٨) في اشارة الى انتمائهم السياسي من مؤيدي الانقلاب العسكري في الثامن من شباط الذي اطاح ب الزعيم عبد الكريم قاسم ١٩٦٣. نرى كذلك ان للشارب اهمية تراثية وعقائدية عند طائفة الكاكئيين وهم طائفة من الكورد دينية باطنية موحدة. ابناء هذه الطائفة لا يحلقون شاربهم طول العمر ويمثل رمزا لهويتهم العقائدية. نرى كذلك اهمية اطالة اللحية في العقائد الدينية السماوية وكما هو تراث ديني لدن ابناء الديانة الايزيدية والزدشتية والهندوسة والعقائد الاخرى.
الرمز بحد ذاته لغة منفردة ومستقلة ولها قواعدها كما اسلفت وتتغير زمانيا ومكانيا وسيبقى يتطور مع تطور
المجتمعات والتطورات العلمية. نرى اليوم على منصات التواصل الاجتماعي على الانترنت نوعا جديدا من التواصل بين الافراد والجماعات وذلك باستخدام الرموز والاشارات التعبيرية (ايموجي) التي يفهمها البشر اينما كانوا.
التواصل بين ابناء الثقافات المتباينة ( المختلفة) لم يعد بالصعوبة التي كانت عليها سابقا. نحن نتواصل يوميا مع شعوب لا نفهم لغاتها عن طريق الرموز وارسال صورة صغيرة يعكس احساسنا وعواطفنا. ناهيك عن وجود برامج للترجمة الفورية كتابة وصورا.
ابناء الرافدين بتكوينهم التعددي القومي والعقائدي تمكنوا وعبر التاريخ من التواصل والتفاهم رغم وجود اختلافات كبيرة بين لغاتهم ولهجاتهم. هذا الاختلاف بقى عامل قوة داخل الوطن الواحد وفي البوتقة العراقية.
استدراك : الموضوع جزء من كتاب من تأليفي ، يحتاج بالطبع الى تدقيق املائي و جاهز للطبع.
عذراً التعليقات مغلقة