إشراقة موت
قصة قصيرة
نشوان عزيز عمانوئيل
حين وصلت إلى محطة القطار كانت عقارب الساعة المثبتة على جدران المحطة تشير إلى السادسة صباحاً ..تشير إلى أنني مازلت هنا في هذا المكان..و أنني مازلت وحيداً..
اتطلع بضجر خلف النافذة.
في الجهه المقابلة توجد ساعات ضخمة وقديمة شبه ميته.. أكل الدهر عليها وشرب.
وهناك.لوحات إلكترونية كثيرة بألوان فسفورية صارخة تشير إلى أشياء وأرقام لم أكن افهمها ..
كنت اعشق الفراغ دون أن أعرف لماذا.. للحظات أحسست ان كل شي هو فارغ.. حتى رأسي كان فارغا تماماً في ذلك اليوم .. رغم مرور لحظة من الصمت كانت هناك أصوات قطارات تدب في راسي.. قطارات تأتي من الجهه الأخرى .. تمر بسرعه كشريط من الذكرى مخلفة وراءها زوبعة دخان صغيرة من أعقاب سكائر وبقايا أوراق صغيره يابسة متناثره هنا وهناك.. أوراق وأشياء لاتعني بالنسبة لي أي شي.. تتطاير يمينا وشمالا لتستقر في زوايا المحطة الخاوية
على النوافذ لوحات ضبابية مبهمة تتلألأ خلفها أضواء المدينة النائمة والغارقة في الصمت.. انعكاسات لأشكال غريبة لا أعرف لها تفسيرا
وهناك في الجوار أصوات نوارس شريرة تحلق في المكان وتملأ الدنيا ضجيجا بصياحها الحاد والمستفز
كل شيء يبدو مبعثرا وفوضويا في هذا الصباح الباكر.. حشود من المارة بخطى متسارعة تدب على رصيف المحطة في كل الاتجاهات .. كنت أراهم كمكائن بشرية تمشي على الأرض في كل الاتجاهات.. في كل رأس من هذهِ الكائنات البشرية يوجد جحيم مؤجل
كنت في لحظات جنوني الاستثنائية انسلخ من ذاتي وتننابني نوبات زمنية او هلاوس من العدم.. أو على الأرجح كانت تنزل على راسي اشراقات زمكانية من عوالم أخرى لاوجود لها سوى في راسي أنا.. وكثيرا ماكنت انسلخ عن ذاتي ونفسي.. وأذكر في إحدى نوبات جنوني أنني كنت أرحل في خلجات نفسي واسافر على بساط الروح.. لعلني أجد شيئاً ما يملأ هذا الفراغ الهائل.. كنت لااجد سوى أن كل الأصوات لاتشبه صوتي.. وكل الاناشيد لاتشبه نشيدي أنا.. وكل شيء ليس ككل شيء
من أنا؟ وماهذا المكان. لماذا أنا وحيد هكذا..كيف يعقل أنني جئت إلى هذا العالم دون ارادتي.. ولماذا ساخرج منه دون ارادتي وكيف إنني في يوم ما سوف اتساقط بحزن كمطر أيلول فوق أغصان السنديان الشامخه
من سيسدل ستائر الوجع ويعيد ترتيب خرائط وجهي المبعثر
ومن سينثر السواد على سراديب النسيان
من يعيرني جناحا أطير به إلى قلب النور…
رغم أنني لم أكن اؤمن بالله أو بأي شيء آخر إلا أنني كنت أنا نفسي اتحول إلى اشراقات مبهمه بهيئة صلوات مضيئة.. وفي إحدى لحظات جنوني وقفت متسائلا..
أيها الطيف المنسدل من خلف ظلال المجرات السحيقة.. يامن تمد إلى ماوراء كينونة النور والظلام.. ياصاحب الزمكان.. من أنت ؟ومن نحن ؟.. كيف جئنا إلى هنا؟.. إلى أين نحن ذاهبون…وإذا كنا سنذهب فلم جئنا اساسا!
وما هو هذا الشيء الذي نطلق عليه اسم العالم.. ولماذا هو مبعثر هكذا؟!
لماذا نأتي في مسرح الوجود.. ونتلاشى في دراما العدم
اعتدنا ان نسأل ماذا يحدث بعد الموت.. لماذا لم نسأل عن ماذا يحدث قبل الولاده
هل نموت كي نحيا.. ام نحيا لكي نموت
لماذا يسلبنا الوجود حرية الاختيار في ان نكون فرداً من القطيع البشري ام لا..
خبرني ماذا يوجد خلف تلك الأكوان السحيقة والثقوب السوداء.. كيف ينحني نسيج الزمكان.
كنت اؤمن ان نظرية آينشتاين للنسبية العامة والخاصة هي أم الفلسفات كلها.. هي انجيل المجرات وصلاة الأكوان السحيقة.. وان الانفجار الأعظم هو بقعة داكنة في قلب الزمكان
تساؤلات كثيره كانت تلعب في رأسي كما تلعب الريح بأوراق الخريف..
مأساتي أنني كنت امتلك العين الثالثة.. قد رأيت كل شيء.. الطريق كله.. كنت قد شممت رائحة القلوب الحزينة واشراقة الضحكة الخلاقة
وكنت اعلم كم
تعيسة هي القلوب الحزينة والمنكسرة
وكم جميلة هي أزهار البنفسج في المساء
كنت أتمنى أن انجو من هذهِ الحياة ولو باعجوبة..
ان تنجو من الحياة بالموت وان كان ذلك يعني بطريقة ما (إشراقة موت )
ماهو الموت؟ كيف سنرسم صوره له..
كنت من خلال العين الثالثة أرى الموت خارج حدود الصندوق.. رايته في مرات كثيرة وادهشني انه بكل تلك القداسة والهدوء المهيب.. عالم لامتناه من الأحلام
الموت هو جسر التحرر من خذلان الجسد وانتكاسة الافكار وجحيم الاخرين
اخبرتني عيني أني كنت أرى زهو الموت.. سحابة من الوان الشفق الداكنة تحلق بك صوت اللانهاية
حين انتهت هي من قراءة هذهِ الكلمات على صفحه من صفحات مذكراته وبعض من مقتنياته التي حصلت عليها.. اغرورقت عيناها بالدموع والاسى وشخصت ببصرها إلى صوره اخرجتها من إحدى دفاترها المطوية تحت الرف . كانت الصورة تشع نوراً والقاََ برغم تقادم السنين والايام وبرغم مضي عشر سنوات على حادثة القطار التي قرر يومها بأنه يريد أن يخرج من العالم بمحض ارادته الحرة ليتكلل باكليل الموت
لم تكن بالضرورة تفهم كل هذهِ الفوضى بين السطور ولم تكن قد انتابتها يوماً حمى الجنون والفراغ والحماقة وجدليات العبث…
النسبية والفلسفات لم تكن تعني لها أي شيء.. كانت تعلم ببساطة ان الكون والوجود هو ألله والخير
وان الموت هو حزن ورحيل إلى أجل غير منظور
لم يكن شي ليكسر هذا الصمت سوى زخات المطر..
كانت تنظر من النافذه وللحظة خيل لها أنه كان واقفا حينها على سحابة من موت ونور.. يشع نورا سرمديا ازليا لابداية له ولا نهاية.. يشع سلاماً كأنما مثل انطلاقة حلم جميل لاينتهي
أرادت بلهفة وفرح ان تلمس خيطا من شعاعه… لكنه تلاشى شيئاً فشيئا في قلب النور والظلام…..
شتاء ستوكهولم 2022
القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات واداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة